هذه السيدة المصرية الأمريكية العظيمة

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٤ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

هذه السيدة المصرية الأمريكية العظيمة  

عجزت عن رد جميلها فقررت أن أكتب هذا المقال عنها . مع أننى كاتب متخصّص فى السيئات.

أولا : أنواع البشر بين العدل والاحسان والنذالة والحقارة

1 ـ الناس أنواع من حيث العطاء والأخذ . هناك من يُعطى ولا ينتظر أجرا من أحد ( وهذا إحسان ). وهناك من يعطى وينتظر الأجر بالمثل ( هات وخذ ). وهذا عدل . وهناك من يأخذ ويرد الجميل ( وهذا عدل ) . وهناك من يأخذ ولا يردّ الجميل ، وهذه نذالة . وهناك من يأخذ ويعضّ اليد التى يأخذ منها . وهذه حقارة . والشاعر يقول : إذا انت أكرمت الكريم ملكته   وغذا أنت أكرمت اللئيم تمردا

2 ـ فى حياتى التى قاربت على الانتهاء قابلت كثيرين من الأنذال وكثيرين من الحُقراء ، وقابلت أيضا الكثيرين من أصحاب الشهامة والكثيرين من النبلاء . وأعتقد أننى قمتّ برد الجميل لمن أحسن لى . ولا يؤنبنى ضميرى فى هذا الشأن . ولكن هناك إنسانة وحيدة اشعر أننى مدين لها ولا أستطيع ردّ جميلها ، فهى ترفض بإصرار أن تُكافأ على ما تفعله من أفضال . وأفضالها على الناس كثيرة . وبعضهم ردّ جميلها بالعرفان وبعضهم عاقبها على جميلها بالنُكران . هى حالة متفردة من العطاء وعمل الخير لم اشهد لها مثيلا . وقد عجزت عن رد جميلها فقررت أن أكتب عنها هذا المقال .

ثانيا : ( ديدى) العظمة الانسانية فى بساطتها

1 ـ بعد إقامة استمرت عاما فى بوسطن كنت أعمل فيها فى جامعة هارفارد قررت الرجوع الى فيرجينيا حيث كنت اقيم من قبل . كانت معى زوجتى والثلاثة الصغار من أولادى . إستأجرت شقة ونزلنا نختار أثاثا   نشتريه من شوبنج سنتر قريب . رأينا فى محل الأثاث هذا سيدة تقترب منى فى العُمر وتبدو ملامحها مصرية . إستوقفت زوجتى واستغرقتا فى الحديث بيما كنت أقوم بإستكمال شراء غرفتى نوم وصالون . جاءت زوجتى تريد وقف البيع لأن السيدة المصرية التى تعرفت بها حالا ترى أن من الاسراف شراء أثاث جديد بينما من المتاح الحصول عليه من الزبالة وبحالة جيدة ، أو حتى نشتريه من محلات تتخصص فى بيع البضائع المستعملة بأرخص الأسعار . رفضت هذا الاقتراح وقد أخذتنى العزة بالإثم . وأتممت اجراءات الشراء . وصممت السيدة على أن تدعونا الى بيتها ، ورحبت زوجتى فقد كانت تتوق لمعرفة أى مصرية أو عربية وهى فى أول حياتها فى فرجينيا وقد تركت فى بوسطن صديقات عزيزات من المغرب ولبنان . وافقت متأففا الى بيت السيدة المصرية إرضاءا لزوجتى وكان معنا أولادى الثلاثة . وتعجبت من سماحتها وطيبتها إذ تدعونا لبيتها بعد لقاء قصير معنا . ركبنا معها سيارتها الى بيتها . كنت أتعجّب من فعلها معنا ، كيف تدعونا هكذا الى بيتها وهى وحيدة ولأول مرة تتعرف بنا ؟ ..ماذا لو كنا أشرارا ؟ ثم هذه الطيبة والوداعة وهى تدعونا لبيتها بهذه البساطة كما لو كانت تعرفنا من سنوات .

تبدلت فكرتى عنها فى بيتها . برغم مظهرها المتواضع وبساطتها الشديدة عرفت أنها من أسرة مصرية مشهورة بالثراء ، وكان والدها يملك عزبة فى القليوبية ، وقد تعلمت فى إيطاليا ، وهى فنانة تشكيلية رائعة وعازفة موسيقية . أى بنت أُصول من الطبقة العليا فى مصر ، تعلمت فى مصر أرقى تعليم ثم أكملته فى إيطاليا ثم هاجرت لأمريكا واستقرت فيها . كان هذا هو اللقاء الأول بالسيدة تغريد حشيش أو ( ديدى ) كما يسميها اصدقاؤها ، وهم كثيرون .

2 ـ حسب علمى لا يوجد أحد من صديقات ديدى إلّا ولها فضل عليه . تنقلنا من تلك الشقة الى شقة أخرى ثم الى المنزل الذى نعيش فيه من عام 2006 بعد قدوم أولادى الثلاثة الكبار ، وحتى الآن وأفضال هذه السيدة الرائعة تغمرنا .

3 ــ أفضالها علينا وعلى غيرنا فى ناحيتين : الهدايا ، وهى تأتى بها من ( الزبالة الأمريكية ) . وهذه فى حد ذاتها قصة كبرى ، فالأمريكيون مولعون بالتجديد ومُصابون بحمى الشراء ، تغذيها فيهم الاعلانات ، وبالتالى سرعان ما يحل الجديد محل القديم الذى إشتروه من عام وأقل ، وسرعان ما تجد هذا القديم موضوعا على الرصيف  فى حالة جيدة وأكثر من جيدة. بل بعضه يكون فى كرتونته أو فى صناديقه لم يُستعمل بعد . ينطبق هذا على الأثاث والأجهزة الكهربائية والملابس والاكسسوارات والكتب وكل ما يمكن تصوره . كنا نستنكف من النظر الى هذه الأشياء فرأينا ديدى ( بنت الذوات ) المصرية الأمريكية تجمعها وتهديها لأصدقائها مع تعبيرها الضاحك الذى صار شائعا بيننا بلهجة الريف المصرى، تقول ( هو من عند قرايبنا ). ولقد إمتلأ بيتنا بهداياها .

الناحية الأخرى : قيامها بالمساعدة فى بيوت اصدقائها . كان لديها شركة تنظيف ، ثم تركتها ، وإحتفظت بخبرتها فى التنظيف وقدرتها الهائلة على العمل بما يفوق قدرة الشباب الذى يصغرها بأربعين عاما . بمجرد أن تطلبها صديقة لها تأتى ديدى وتظل تساعدها متطوعة تنظف وتنظّم بيتها بلا مقابل . العجيب هو إخلاصها فى عملها ، وإنشغالها به وتركيزها فيه ، مع لمحتها الجمالية فى التنظيم والتنسيق والتجميل وفن استعمال الاكسسوارات بإعتبارها فنانة تشكيلية وعازفة موسيقي . وربما يغلب النوم صاحبة المنزل فتستأذن من ديدى وتنام وتظل ديدى طول الليل تعمل فى بيت صديقتها وحدها الى اليوم التالى . وديدى فى العادة تنام بالنهار وتستيقظ بالليل شأن الفنانين .

الى جانب هذا فهى تؤجّر معظم بيتها للشباب الفقير بأجر زهيد ، وتقوم على خدمتهم فى تفان ، وتحتمل سوء خلق بعضهم ، وهم فى العادة عرب قادمون لأمريكا يحملون معهم ثقافتهم التى لم تتطور بعد ، ولم يعهدوا وجود بشر يُعطى بلا مقابل .

3 ـ أتذكر بكل الإمتنان ما قدمته لنا ديدى من هدايا من عند ( قرايبها ) وقيامها بمساعدة زوجتى فى تنقلنا من شقة الى أخرى ثم الى إستقرارنا فى منزلنا . والغريب حساسيتها الشديدة فى قبول أى رد لجمايلها ، حتى المآدب التى نعتاد إعدادها فى المناسبات ويأتى اليها أصدقائى واصدقاء أولادى وصديقات زوجتى تتعمد ديدى عدم حضورها . تكرر وتؤكد أنها تأتى فقط للمساعدة .

4 ـ منذ عدة أشهر إحتاج بيتنا الى ترميم وإصلاح ليكون جاهزا قبل أن نقيم حفلا بمناسبة مجىء أول حفيدة لى ( ثريا الشريف منصور ) . ظللنا فى عمل إستغرق أسابيع ، وقامت ديدى بمعظم العمل ومعها صديقات زوجتى . ثم ذهبيت ديدى الى محل فاخر واشترت أباجورات ( غير مستعملة ) وذهبت الى معرض واشترت منه لوحة رسم رائعة . وقدمت كل هذا هدية للبيت . وفى الحفل الذى أقمناه لم تحضر . كانت هى الحاضر الغائب لأن كل ما تقع عليه عيوننا كان من صنع يدها أو بمشاركتها .

ثالثا : حتى مع الحيوانات الأليفة

1 ـ مع كل هذا العطاء فلم تسلم ديدى من الاذى ، خصوصا من بعض الذين احسنت اليهم . فى مُشادة بين  الساكنين فى بيتها تدخلت فقال لها أحد الساكنين  : "وإنت مالك إنتى  .. أُخرجى برّه" . وعجزت عن الردعليه .!

2 ـ نذالة الناس معها جعلتها تتبنى قطة وقط ّ لأن الحيوانات الأليفة وفيّة وصادقة فى مشاعرها لا تعرف الغدر ولا تطعن الصديق فى ظهره كما يفعل بنو آدم .! . ديدى كانت تعيش أوقات فراغها بالقط والقطة . تنفق عليهما فى العلاج والرعاية . والعجيب أن ديدى تصبر على آلام الأمراض ، ولكن لا تستطيع أن ترى حيواناتها الأليفة تتألم . وقد أنفقت بضع آلاف من الدولارات فى عملية جراحية لازمة لعلاج القط الذى بلغ من الكبر عتيا..!! ولم ينفع هذا فمات القط تاركا أحزانا هائلة لديدى ، تشاركها فيها وحيدتها القطة التى بلغت هى الأخرى مرحلة الشيخوخة وتشرف على الموت برغم العلاج . ويمكن لديدى أن تقوم معها بعملية القتل الرحيم ، ونصحها بذلك الأطباء فرفضت بإصرار وبفيضان من الدموع.!.

3 ــ قد يضحك القارىء من هذا الكلام ، وكنت أضحك منه ولكن كففتّ عن الضحك عندما رأيت ديدى تتكلم عنهما بدموعها وبمشاعرها الجياشة الصادقة فجعلتنى أخجل من نفسى وابتلع فى داخلى الرغبة فى الضحك .

أخيرا

مصر ( أم الدنيا ) أنجبت ديدى ..وأنجبت السيسى .!!

بأمثال ديدى فى هذا العالم تصبح الحياة أكثر بهجة .. وبأمثال السيسى تصبح الحياة بلا بهجة .. 

اجمالي القراءات 6386