أعجمي وعربي
من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن (2)

و. الشاذلي في الثلاثاء ١٧ - أبريل - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

السلام عليكم

نتابع معا عرض كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن"... وفي هذا المقال يتعرض الكاتب لبعض النقاط والمواضيع الهامة المفيدة في بحثه مثل:

1- لماذا نزل القرآن الكريم بالعربية دونا عن غيرها من اللغات السائدة في هذا العصر.
2- ما السر في تطور اللغة العربية وتميزها للدرجة التي تؤهلها لحمل القرآن وحفظه. فقد تطورت اللغة العربية دون أن يصاحبها حضارة كبرى على عكس منطق التاريخ!
3- ما هي الفروق الجوهرية بين اللغة العربية وغيرها من اللغات السامية وأهمها العبرية (مع التركيز على عبرية التوراة لأهميتها في هذا البحث).
4- يقدم الكاتب في النهاية بعض المعلومات الشيقة عن الترجمة والاشتقاق اللغوي بين اللغات المختلفة وأثر هذا في اللغة العربية.

مع تحياتي
أستاذ/ ولاء الشاذلي

من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

أعجمي وعربي
-----

 

 

 

(1)


هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
كيف، والمنزل عليه القرآن عربي، والمنزل إليهم القرآن عرب؟
أليس تُبعثُ الرسل كل بلسان قومه؟ فكيف يفهمون عنه؟ كيف يتم البلاغ؟
كيف يصح التكيف؟ أيمشى الرسول غريبا في قومه، يتوكأ على مترجم يفسر ما يقوله للناس؟
قال عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (4) سورة إبراهيم، أي كما أنزلنا التوراة عبرانية على موسى العبراني فكذلك القرآن، عربيا على عربي.
وكأن من أهل الكتاب من تعاظمه أن يخاطب الله الخلق بغير العبرية، لغة التوراة، فقال جل شأنه : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ٍ} (44) سورة فصلت.

***

أما أن القرآن عربي، فهذا عين الحق، ليس هذا فحسب، بل إن عربية القرآن شاهد على عربية العرب، لا العكس: لا يصح لها فصيح متفق عليه إلا الوجه الذي نزل به.
وأما أنه قد وردت في القرآن ألفاظ أعجمية، فهذا حق أيضا، ولكنه لا ينتقص شيئاً من عربية القرآن، وإنما هو يجليها، كما سترى...

***

وليس القرآن عربيا فحسب، وإنما هو عربي مبين. تجد النص على هذا في قوله عز وجل : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195} .
ولفظ " المبين" حيثما ورد في كل القرآن- وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة 119 مرة - لا يعنى الإفصاح والإبانة، وإنما يعنى حيث ورد، تأكيد اكتمال تحقق الصفة في الموصوف. إليك بعض الأمثلة، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف :
- {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} (107) سورة الأعراف، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.
- { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (5) سورة يوسف. أي هو العدو يقيناً، لا خفاء لعداوته.
- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (1) سورة الفتح. أي أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة، ليس فتحا فحسب، وإنما هو فتح حق، ليس له إلا هذا الاسم.
- { هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (25) سورة النــور، يصف نفسه تباركت أسماؤه، أي هو عين الحق جلا جلاله، لا يمارى فيه أحد.

من هنا تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربي مبين، يعنى أنه بلسان عربي بين العربية، أو هو حق العربية، لا يمارى في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.

***

وقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منة أن يكون لسان القرآن لسانهم.
وقال عز وجل يقسم بالقرآن : {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1) سورة ص.
وقال جل شأنه : {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء.
وقال أيضا تباركت أسماؤه : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (44) سورة الزخرف.
والذكر في هذه المواضع الثلاثة جميعا يعنى "الشرف".
نعم ، شرفت العربية بالقرآن، وشرف أهلها. والشرف أمانة، أداؤها أن تعرف حقها، وإلا فأنت بها مأخوذ. كما قال عز وجل :"وسوف تسألون" في الآية التي قرأت توا.

وقد تتساءل : كيف استحقت العربية هذا الشرف؟

لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربيا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربي والمنزل إليهم القرآن عرب. بل هو تقدير العليم الخبير، الذي لا يمضى أمرا إلا أحكمه. إنه عز وجل يصطفي لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصي الأرض. وهو أيضا جل شأنه يصطفي لرسالته الأداة، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية.

فكيف وسعت العربية هذا القرآن؟ كيف حملت وقره؟ ما تلك الحضارة التي انضجت تلك اللغة، واللغة كما تعلم هي نضاج الحضارة. وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة؟ فمتى اكتمل لهاه نحوها وصرفها وإعرابها؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها؟ بل كيف فهم العرب عنه؟ كيف تذوقوا حلاوته؟ كيف سلموا بإعجازه؟

الحق أن العربية هيئت تهيئة لتلقى هذا القرآن،وزينت تزيينا لتليق به، وأنضجت إنضاجا لتكون وعاءه، وأحكمت إحكاما لتعبر عنه، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة.

وتلك وحدها معجزة ، وليس شئٌ على الله بعزيز.

لم تكن العربية وقت نزول القرآن، بمستوها هذا الفني المحكم، لغة كتابة، فقد أريد للقرآن أن يكون"قرآنا".
كانت العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة الخطاب اليومي، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة.

وهذا هو اصلاً معنى اللغة: لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجيةٌ، فتبصر بها العين، وتسمع الأذن.

وكان هذا – كما مر بك – ضروريا لرسالة تخاطب الكافة...

****

على أن في العربية خصائص لغوية وبيانية وموسيقية، قل أن تجتمع لسواها.
إنها لغة الإيجاز البليغ، والسلم الموسيقى الكامل.
لغة اجتمعت لها كل الحروف، وصحت المخارج: لا تندغم في الحلق، ولا تتآكل على أطراف اللسان، ولا تتحور في ذبذبات اللهاة. فيها ما يقرع السمع عنيفا، وفيها الدمث اللين، وما بين بين.

لغة غنيت حروفا، فغنيت جذورا: لا تعرف اللواصق من رواكب وروادف، وفى غيرها ينوء جذر اللفظ بأوزاره، فيغيم المعنى في ضباباته. أما هي، فتنحت الألفاظ والأوزان للمعنى وضده، وللمعنى وقريبه، وللمعنى والمشتق منه، وللمعنى والمتداخل معه. ما أن يقع بصرك على اللفظ حتى يستعلن لك بكل معناه ودلالاته.

لغة تفننت في أوزانها، ونوعت في تراكيبها طرائق شتى، تمد بالإعراب أواخر الكلم، تهمز وتسهل ، وتصل وتقف، وتنون وترخم، فما استعصى عليها نغم.

وتلك كلها خصائص قرآنية.

****

وقد أفاد القرآن من العربية وأفادت العربية من القرآن. ولكن الذي أفادته العربية من القرآن أضعاف الذي أفاد القرآن...
جمع مادتها، وأحكم نحوها وصرفها وإعرابها، ورسم لها نموذجها الأعلى. ليس هذا فحسب، بل تكفل الله بحفظ القرآن، فكفل لها القرآن حياتها، ونماءها، وبقاءها.

وقد مضى على نزول القرآن بالعربية أربعة عشر قرنا، بادت خلالها لغات وتحورت لغات، ولا تزال العربية وحدها تعيش، بنصاعتها الأولى. وليس لهذا- كما يعرف أهل العلم- نظير في كل اللغات قديمها وحديثها. وأما الذي أفاده القرآن من العربية فهو- كما مر بك – أنها اللغة التي هيئت له، لا يصلح إلا لها. ولسنا هنا في مقام المفاضلة بين لغة ولغة، فاللغات كلها من آيات الله سبحانه.

ولكن الذي لا يتوقف عنده كثيرون، وربما قل من يفطنون إليه، هو أن اللغة العربية - عصر بدء نزول القرآن في مطلع القرن السابع للميلاد، على قلة الناطقين بها يومذاك- كانت هي دون منازع أرقى لغات العالم القديم، ليس فحسب أرقاها بلاغة وفصاحة وجمالا، وإنما أيضا، وبالمقياس اللغوي البحت، أرقاها دقة وكمالا.

لم يكن ينقصها لتصبح اللغة العالمية الأولى يومذاك، إلا أن تتجاوز حدودها الجغرافية السياسية الضيقة، فتشيع بين الناس في المشارق والمغارب. وقد تكفل القرآن بذلك.

(2)


بدأ نزول القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليلة القدر من رمضان عام 13 قبل الهجرة (609م) مطلع القرن السابع للميلاد، قبيل انقضاء ستة قرون على رفع المسيح عليه السلام، ليس بينهما نبي.

كانت حضارات العالم القديم كلها آنذاك قد تهاوت، وآذنت الدنيا بميلاد جديد وهى قد تهاوت لأن العمالقة أكل بعضهم بعضا، وكانت ساحة الصراع هي هذا الشرق الأدنى القديم.

لم يكن الصراع يدور على فكر أو على خطة لحياة، فقد تداخلت الأفكار والمذاهب،وتشاكلت الضلالات هنا وهناك،وإنما كان الصراع يدور على الأسلاب والغنائم،وكان الأسلاب والغنائم هم أهل هذا الشرق الأدنى القديم. لم يكن لدى الغزاة شئ يفتحون به على أهل الأقطار المغلوبة ، ولم يبقى لدى المغلوبين شئ يقدمونه للغزاة.

ولكن الصراع بين العمالقة الآريين الثلاثة، الفرس والإغريق والرومان، أو اختصارا بين الفرس والروم، لا ينفك يدور، لا تضع الحر أوزارها إلا لالتقاط الأنفاس بضع سنين، وهى حرب عبث، سواءٌ على التاريخ قامت أم لم تقم، فالغالب اليوم مغلوب غدا، لا يعنيك اى الفريقين أدال من الآخر، ولمن كانت الدائرة في الحرب اليوم، فالدائرة على الجميع: إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ويأتون على ما بقى من أطلال حضارتهم. لا تهتم ، فعلى الأنقاض سيبنى صرح جديد. تجد إشارة إلى هذا في قوله عز وجل :

{ الم .غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم:1-6)

(أما لماذا يفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله، وقد أجهز المسلمون من بعد على الفرس ولم يفلتوا الروم، ولماذا يعد الله المؤمنين بهذا مؤكد أنه لا يخلف الله وعده، فليس هذا إيثارا لأهل كتاب على مجوس، ولا اهتماما لشأن المعارك بين الفرس والروم، وإنما هى بشرى للمسلمين بيوم بدر (2هـ-624م) الذي توافق مع كرة الروم على الفرس (624م). في الآيات الست إذن نبوءتان: إنتصار الروم على الفرس ،وانتصار المسلمين على قريش في بدر، كانت النبؤة الأولى توقيتا لتحقق النبؤة الثانية، لا أكثر ولا أقل، ولكن المفسرين احتفلوا للأولى، ولم يفطنوا للثانية، وبها وحدها تفهم الآيات الست فهما متكاملا، أما (أدنى الأرض) المشار إليها في الآيات، فهي ترجمة قرآنية دقيقة لعبارة "أرض كنعان"، وهى فلسطين، حيث كانت المعارك المعنية بين الفرس والروم (راجع في المعجم العربي مادة كنع، وهى نفسها"كنع" العبرية- الآرامية) ولم يلتفت إلى هذه الترجمة أحد.)

احتدم الصراع بين الفرس والروم على ما بقى من أطلال الشرق الأدنى القديم قرونا، بين كر وفر، حتى أجهز عليهم المسلمون في أواسط القرن السابع. ومن قبل، أثخن الروم- إغريقا ورومان – بعضهم في بعض، وأتى القوط والجرمان على القياصرة في روما، فارتحلوا شرقا إلى بيزنطة، قبل قرنين اثنين من ظهور الإسلام.

اختلط الحابل بالنابل في هذه المنطقة من العالم التي شهدت مولد حضارات البشر، ولم يعد هناك فكر جامع، تستند إليه حضارة جامعة، جديرة بالبقاء، لم تعد هناك إلا حضارة ماتت أو أوشكت أن تموت...

***

أما اللغة – موضوعنا في هذا الجزء من الكتاب_- فأنت تعرف بالطبع العلاقة بين موات الحضارة وموات اللغة، فما بادت حضارة قوم إلا بادت لغتهم، أو ذابت في لغة السادة لتعيش بعضا من حياة، أو تحورت إلى رطانة شائهة هجين، لا تكاد تُبين.

متى لم يعد للحضارة فكر تعبر عنه وتعيش عليه، ومثل تدعو إليها وتجاهد من أجلها ، فقد خرست الحضارة ولم يعد لديها ما تقول. إلى هذا آلت اللغات في هذه المنطقة من العالم: تهاوت الحضارة فتهاوت اللغة ولم يكن في أي من تلك اللغات جميعا كتاب في عظمة القرآن، يعصمها أن تزول.

*****

في مطلع القرن السابع للميلاد كانت اليونانية الفصحى التي تغنى بها من قبل شعراء الإلياذة وكتب بها أمثال أفلاطون وسوفوكل، وخطب بها أمثال بريكليس وديموستين، قد آذنت من قبل بالأفول حوالي مطلع القرن الثالث، ولم يأت القرن السابع إلا وقد آلت إلى يوناينة دارجة هجينة، لا على ألسنة العامة فحسب وإنما أيضا في الفن والفكر والأدب.

أما اللاتينية الفصحى، التي كتبت بها مدونات الفقه الروماني، ونظمت بها إنيادة فرجيل، وخطب بها أمثال شيشرون وقيصر، فقد حذت حذو أختها الوينانية، بنفس الترتيب الزمني أو تكاد، فلم يأت القرن السابع إلا وقد تحورت إلى لاتينية دارجة هجينة، بل قل إلى لاتينيات دارجة هجينة، يلدن من بعد لغات أوربية تقرأ لها الآن، لم يكتمل لها نموها إلا في نحو تسعمائة سنة من نزول القرآن.

لم يبق من اليونانية والاتينية مطلع القرن السابع للميلاد إلا أثارة من أطلال مجد قديم، تليق بحضارة ذوت، ولا تتسع لحضارة باذخة توشك أن تولد، لتعيش تلك الحضارة الباذخة الوليدة كان القرآن شهادة ميلادها، وهو إلى الآن عمود حياتها، وما أوشكت أن تتصدع في مراحل من عمرها إلا لأن أصحاب القرآن أنسوه. فالحذر الحذر ممن يرفضونه اليوم دستور حياة.

****

أما في الشرق الأدنى القديم ما بين مصر وفارس، مهبط الرسالات، وموئل الحضارات التي سبقت الفرس والروم، فقد اختلط الحابل بالنابل:
في مصر، تصدعت – بانهيار دولة الرعامسة (الرعامسة جمع رعمس، أو رمسيس كما نكتبها نحن الآن) ، حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد- حضارة شامخة زهت نحو ألفى سنة (3200ق م- 1200ق م). وآذنت بأفول لا رجعة منه: تعاور مصر الغزاة من شرق وغرب، ومن شمال وجنوب، نهبا للرائح والغادي، جائزة لم غلب ، إلا هبات هنا وهناك، وجذوة خامدة تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ، حتى غدت مصر ولاية فارسية منذ 525 ق م على يدي قمبيز وخلفائه، ثم إقطاعة يونانية لخلفاء الاسكندر (333ق م ) ثم ولاية رومانية (30م) للقياصرة في روما، ارتحلت تبعيتها معهم إلى بيزنطة (395م) ، ولم يبق من المصريين إلا الحجر، وإلا مياة النيل تجرى تهمهم بما كان : {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: 25-29)

ترى هل بقيت للمصريين في مطلع القرن السابع للميلاد آثارة من لغة حضارتهم الأولى التي درست؟ هل بقى لديهم من تلك اللغة الفصحى التي ترنم بها أخناتون من قبل، أبتهالات وتسابيح؟ هل بقى لديهم شئ من تلك اللغة الفصحى التي حاور بها فرعون موسى وهارون؟ هي لم تكن لغة أهل البلاط فحسب، وإنما كانت هي نفسها اللغة التي قرع بها السحرة أسماع فرعون وملئه (الملأ يعنى علية القوم، الذين تمتلئ منهم العين مهابة).

أنت بالطبع تعرف الجواب: باندثار الحضارة تندثر اللغة ، لم يبق من المصريين في مطلع القرن السابع من يتكلم المصرية الفصحى، ناهيك بمن يفك رموزها، فضلا عن أن يكتب بها، وإنما آلت المصرية الفصحى إلى قبطية دارجة هجينة، تكتب كلها أو تكاد بأحرف يونانية ابتدع رسومها الفينيقيون من قبل، وتنضح برطانة تعرف فيها آثار ألسنة الغزاة، الإغريق فالرومان، ومسحة من آرامية. فارسية انتقلت إليها مع جيوش قمبيز.

(الآرامية هى لغة أهل آرام (إرم فى القرآن). كانت تطلق على ما نسميه نحن "سورية" بالمعنى العام. سماها أهلها كذلك حنينا إلى موطنهم القديم"آرام نهريم" أي آرام ما بين النهرين، وهناك كانت "إرم ذات العماد" التي عناها القرآن، وسيأتي الحديث عنها في موضعه حين الكلام عن "عاد قوم هود". كانت الآرامية هي اللغة الغالبة في ربوع الشرق الأدنى القديم، فاستبقاها الفرس لغة رسمية في إمبراطوريتهم، وبها اكتشفت في مصر مخطوطات ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، عصر مجئ قمبيز، تستند إليها الدراسات الحديثة في محاولة فهم الآرامية البائدة وتقعيد نحوها وصرفها. وللآرامية أيضا اسمان آخران. هما "الكدانية" و "السريانية"، أما الكلدانية فهى تسمية خطأ، عدل عنها اليوم علماء اللغات المحققون، وأما السريانية فهي الآرامية نفسها أو ما آلت إليه الآرامية منذ القرن الثالث الميلادي، وما زالت السريانية تعيش إلى اليوم على بعض الألسنة. وبهذه الآرامية نفسها كان يتحدث المسيح إلى عشيرته وحوارييه، وبها كان إنجيله الذي لا تجد له اليوم إلا أصولا كتبها أصحابها بيونانية متأخرة تعرف باليونانية الكنسية.)

أما فارس . التي بلغت أقصى اتساعها على عهد الأخمينين (القرن السادس ق-م)- القرن الرابع ق م )، فشملت امبراطوريتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد الشرق الأدنى القديم كله من فارس إلى مصر، ومن بابل وما بين النهرين إلى سواحل البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم عقر دارهم في شبه جزيرتهم .. فارس هذه ، ماذا بقى منها؟

كر عليهم الإسكندر فقوض ملكهم من تخوم الهند إلى مصر (333ق م )، وورث امبراطوريتهم الشاسعة جميعها، ليتوزعها خلفاؤه من بعده، وليبدأ في الشرق الأدنى كله العصر "الهلينى" أو "المتهلين" ("هلينى" لفظة يونانية، صفة من هلاس، اسم لليونان قديم)، أي المصطبغ بالصبغة اليونانية فكرا ولغة وحضارة، وهو تعبير غير دقيق، وربما كان مضللا أحيانا، لأنه يغلب العنصر اليونانى الوافد إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، ويغفل مردود هذه الحضارات نفسها على أرض اليونانا الأم، حتى باتت اليونان نفسها بعد الاسكندر "هلينية" فكرا وحضارة.

لم تكن جحافل الإسكندر يوناينة خالصة، وإنما كانت تستمد في سيرها المدد من أهل الأقطار المفتوحة، حتى انتهت " غارة " الإسكندر . واستقر الغزاة بعد الفتح في مواقعهم ، يموج بعضهم في بعض، تتمازج الدماء، وتختلط الألسنة، وتتلاقح الثقافات والفلسات والعقائد.

ولك أن تتصور تأثير هذا كله على اللغة الفارسية في موطنها الأصلى كما رأيت من قبل تأثيره على لغة شعراء الإلياذة وأفلاطون وسوفوكل: جمدت الفارسية القديمة على الألسنة ولم يعد يستدل عليها إلا من نقوش كتبت ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، وحلت محلها الفارسية"الفهلوية" التي كتبت بها نصوص "زرادشت" في القرن الثالث الميلادى. وآلت إلى "الأفستية"(أي لغة النص الأصلى) فعاشت في المعابد والأذكار، وبقيت منها فارسية تزهو حينا وتتحامل على نفسها حينا، تنوء بأوزار ما تهجنت به ، حتى أجهز عليها الفتح الإسلامى في القرن السابع، فصارت همهمة يغمغم بها أمثال البرامكة في بلاط الرشيد، ولكن تلك الهمهمة التي طالت، قضت على ما بقى من أصالة اللغة، فلم يستعد لافرس سلطانهم في أواخر الدولة العباسية إلا وقد آلت الفارسية إلى رطانة ثلثها على الأقل عربي، هي تلك الفارسية الحديثة التي تقرآ لها الأن.

****

لم يبق من الحديث عن لغات الشرق الأدنى القديم إلا الآرامية والعبرية ومنهما كانت غالبية العلم الأعجمي الذي نتناوله في هذا الكتاب.
ولكن الحديث عن الآرامية والعبرية يقتضى الحديث أولا عن اللغات المسماة بالسامية – وأمها جميعا"العربية" – تقريرا لأصالة العربية عليهما قبل نزول القرآن، وهذا ما ننتقل إليه الآن.



(3)


تستطيع أن تصنف لغات البشر إلى سلالات عرقية، أو جغرافية – تاريخية، تنسبها إلى موطن أقدم من يُظن أنهم تكلموا بها قبل أن ينساحوا في الأرض، فتنشعب ألسنتهم لهجات فلغات، فتقول مثلا اللغات الآرية ، ومنها السنسكريتية في الهند، والفارسية في إيران، واليونانية والللاتينية والجرمانية في أوربا، وما تفرع عن هذه وتلك من لغات تقرآ لها الآن، أو تقول مثلا اللغات السامية والحامية والكوشية، ومنها العربية والعبرية والمصرية والحبشية، بقى منها ما بقى وباد ما باد. والسامية والحامية نسبة إلى سام وحام إبنى نوح، والكوشية نسبة إلى كوش بن حام.

("أريا" لفظة سنسكريتية بمعنى الشريف النبيل الأمثل، وصف بها الهنود لغة السادة الغزاة ، وبها سميت "إيران" (آريا – نام) على الراجح، أي أرض الأماثل. ومن "أريا" لفظة "أرستو" اليونانية بمعنى الأمثل، وبها صيغت "أرستو- كراتيا" (الأرستوقراطية) أي حكومة الصفوة أو الأماثل.)

وليس لك بالطبع أن تتساءل بم كان يكلم نوح أباه، وبم كان يتفاهم نوح مع ابنيه سام وحام، ولم شذ حام عن أخيه سام فاصطنع لنفسه لغة انفرد بها لم ترق لابنه كوش فعدل عنها إلى غيرها . تلك على الأرجح- إن صحت التسمية- ليست أسماء أشخاص، وإنما هي أسماء قبائل وشعوب تفرقوا في البلاد، فتفارقت الألسنة.

أما إن ترجح لديك – وأنت اللبيب العاقل- وحدة الأصل الإنساني، فلا مفر لك من أن ترد لغات أهل الأرض جميعا إلى أصل واحد، هو تلك اللغة الأولى التي تلكم بها أبو البشر وأمهم، بعد مهبطهما من الجنة.

على أن افتراض لغة أولى تفرعت عنها كل اللغات، وهو فرض علمي لا غبار عليه- إن لم يكن الفرض المنطقي الراجح- ربما يغريك ببحث عقيم عن أي اللغات كان الأول، ولكنك مهما بذلت من جهد- وأيضا من افتعال- فقصاراك أن تقنع بفرض واحد مؤكد، وهو أن اللغة التي تكلمها آدم بعد مهبطه من الجنة لم يعد يتكلمها اليوم أحد من أهل الأرض، وإنما هي تفرقت في لغات البشر جميعا: لكل منهم فيها نصيب، قل أو كثر.

لهذا عدل اللغويون الآن عن تلك التسميات العرقية الجغرافية- التاريخية التي قد توهمك بوجود لغة أو لغات أولى تنتمي إليها الأسر اللغوية التي يتكلمها البشر اليوم. عدل اللغويون عن ذلك الآن، وأصبحوا ينسبون الأسر اللغوية إلى الأرض التي يعيش عليها في عصرنا هذا من يتكلمونها اليوم، أو عاش عليها أسلاف لهم سبقوا ، تكلموا لغة تلمح أصولها في اللغات المعاصرة، أو عثر فيها على نقوش أو مخطوطات عفا عليها الدهر، يعكف عليها اللغويون بغية حل رموزها، وفك طلاسمها ، ورها إلى أسرة لغوية ولدت فيها، ثم تحورت أو بادت. فيقولون مثلا اللغات "الهندية- الأوروبية" ما بقى منها وما باد. ويقولون مثلا اللغات "الإفريقية- الآسيوية"، يعنون تلك الأسرة اللغوية بفصائلها" السامية" و"الحامية" و"الكوشية"، إلخ، المتقاربة جذور مفرداتها ودلالات ألفاظها ومخارج أصواتها، التي يتكلمها في آسيا، أو تكلمها في آسيا يوما ما، عرب شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، كما يتكلمها في أفريقيا، أو تكلمها في إفريقيا يوما ما ، أهل الضفة المقابلة من البحر الأحمر ، المصريون والسودان والأحباش.

*****

أما الخصائص التي يستند إليها اللغويون في تقسيم لغات البشر إلى مجموعات لغوية، أو أسر لغوية، فهى تنقسم بدورها إلى فصائل لغوية داخل الأسرة الواحدة، فأهم هذه الخصائص ما يلى:

1- مخارج الأصوات
أي انفراد فصائل الأسرة اللغوية المعينة بنطق أحرف، أي أصوات، لا تنطقها غيرها. من ذلك انفراد اللغات الافريقية- الآسيوية بنطق الحاء، وانعدام هذا الصوت – على سبيل المثال- في اللغات الهندية- الأوربية. وليست العبرة في هذا السياق بصورة الحرف، أي بشكله المكتوب، أي بالخط الذي تصطنعه اللغة في الكتابة، وإنما العبرة بالصوت الموضوع له الحرف.

2- دلالات الألفاظ
تتقار في لغات الفصيلة الواحدة، تقاربا واضحا، بل وتتطابق أحيانا، بنية اللفظ الموضوع لنفس المعنى. من ذلك لفظة "عين" الموضوعة لأداة الإبصار، وعين الماء، الخ. ، في اللغات العربية والآرامية والعبرية على السواء,. ومن ذلك أيضا مادة الفعل" كتب" بنفس المعنى في هذه اللغات السامية الثلاث.

3- بناء الألفاظ
من اللغات صرفي وغروي. فأما اللغات الغروية، ومنها أسرة اللغات الهندية- الأوربية، كالسنسكريتية والفارسية، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوربيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام، فيبدو لك اللفظ منحوتا من كلمة واحدة نطقا وكتابة، وهو من بضعة أجزاء موصولة، وكأنما شد بعضها إلى بعض بغراء. من ذلك في اللاتينية مثلا كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة، ومعناها العتق والانعتاق: تظنها من كلمة واحدة، وهى من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض (e)+(man)+(cipio) الجزء الأول (e) بمعنى "خارجا" ، والثاني (man) بمعنى "اليد"، والثالث (cipio) بمعنى "الأخذ"، فهى إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبة جملة، معناها الحرفي"الإخراج من أخذ اليد" ، أو "الإخراج من ملك اليمين".

وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة الافريقية – الآسيوية، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام، وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني، ثم تشتق الموسع من البسيط"بالتصرف" في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي. من ذلك في العربية فَعَل وفعل وتفعل وانفعل استفعل وفاعل وتفاعل الخ. وليست أحرف الزيادة الى تلحظها وسط الجذر كتضعيف العين في فعل ، والمد بالألف في فاعل، أو المضافة في أول الجذر مثل الهمزة والنون في انفعل ، والهمزة والسين والتاء في استفعل ، كاللواصق في الغات الهندية- الآوروبية ، لأن أحرف الزيادة هذه ليس لها في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية- الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.

وأيا كانت ميزة الصرفي على الغروي، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية.

***

وأما الفوارق بين لغة ولغة من نفس الفصيلة، كفوارق ما بين العربية والعبرية من الفصيلة السامية ، والتي تجعل منهما لغتين مختلفتين بحيث تعتجم العبرية على السامع العربي- كما تعتجم العربية على السامع العبري- فلا يفهم أحدهما شيئا من لغة الآخر حتى يترجم له، فمن هذه الفوراق بين العربية والعبرية على سبيل المثال، القلب والإبدال. أما القلب فهو تغيير ترتيب أحرف الكلمة، مع اتحاد المعنى، ومثاله من العربية نفسها الجذران"جَذَب" ، "جَبَذ"، بمعنى شد في كليهما، وغيرهما كثير. وأما الإبدال فهو تغيير حرف بحرف آخر قريب من مخرجه، مع بقاء المعنى، ومثاله من العربية نفسها "سراط"، "صراط"، بمعنى الطريق في كليهما. ومن الإبدال أيضا، المبادلة بين أحرف المد، كإبدال المد بالواو مدا بالياء، ومثال هذا من العربية نفسها "ساع/يسوع"، وكلتاهما بمعنى ضاع وهلك. ويتفاقم أمر القلب والإبدال ما بين العربية والعبرية حين يكون لصورة اللفظ المتحور في إحدى اللغتين بالقلب والإبدال معنى مغاير تماما لمعناه في اللغة الأخرى. من ذلك أن "نجب" العبرية (ومعناها الجنوب) ليست من "النجابة"، وإنما هي مقلوب الجذر العربي"جنب". أما "جنب" عبريا فليست من الجنوب في شئ، وإنما هي بمعنى "سرق". ومن ذلك أيضا أن "صنم" العربية ( مفر أصنام) تصبح "صلم" في العبرية. ولكن صلم عربيا (باللام) تعنى قطع واستأصل (وغلبت في الأنف والأذن). فلا تفهم أي المعنيين يريد ذلك العبراني الذي يحدثك. ويزداد الأمر سوءاً حين تعلم أن "صلم" العبرانية تفيد أيضا الظلام والظلمة (من أظلم العربي أبدلت ظاؤها صادا). أما "الظلم" نفيض العدل فهو في العبرية بالطاء"طلم" (وطلمه عربيا يعنى ضربه بكفه مبسوطة، وهو أيضا وَسَخُ الأسنان من إهمال تنظيفها، ليس له بالظلم صلة). أما "صنم" عبرانيا فلا صلة له بالأصنام، وإنما هو من النضج والإنضاج. وقس على هذا الكثير الذي لا يحصى بين هاتين اللغتين.

وإلى جانب القلب والإبدال، تفتقر العبرية إلى ستة أحرف أصيلة موجودة في العربية، هي بترتيبها على أحرف الهجاء العربية: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين. أما الضاد والظاء فلا وجود لهما مطلقا في العبرية نطقا وكتابة، فما كان بالضاد في العربية انقلب غالبا إلى صاد في العبرية، مثل "ضحك" العربية التي تنقلب إلى "صحق" في العبرية (أبدلت أيضا كافها قافا)،ومنه اسم نبي الله إسحاق كما سترى، وما كان بالظاء انقلب غالبا إلى طاء أو زاى، وربما إلى صاد، مثل "ظبى"التي تصبح "صبى" في العبرية . أما الأحرف الأربعة الأخرى (ث-خ-ذ-غ)، فلا وجود لها في العبرية أيضا، أي في الكتابة، ولكنك تسمعها في مواضع مخصوصة من محدثك العبراني الذي ينطق لك التاء ثاء، والكاف خاء، والدال ذالا، والجيم غينا، حين يتحرك- أو يعتل- ما قبلها (حين يكون لها قبل)، شريطة ألا تُضعف هي. من ذلك أن "بيت" العبرية (وهى بيت العربية) تنطق"بيث"، و"ملك" (هي ملك العربية) تُنطق "مِلخ"(ولكن المؤنث منها وهو ملكه تسكن لاُمه قبل الكاف فتنطق الكاف على أصلها). من ذلك أيضا"يهود" التي تنطق "يهوذ"، ومثله أيضا"رَجَم" العبرية التي تنطق"رَغَم" لتحرك الراء قبل الجيم فصار جيمها في النطق غينا. (المعنى به في هذا الكتاب هو "عبرية التوراة" لا العبرية" المعاصرة)
ولعلك لاحظت أن التفاوت في نطق هذه الأحرف العبرية الأربعة في مواضع مخصوصة مع نظق الحرف على أصله في غيرها، هذا التفاوت لا يضيف جذراً إلى تلك اللغة ، وإنما هو مجرد "لهجة" في نطقه في مواضع مخصوصة لا تغير من أصل معناه. ولعلك لاحظت في هذا السياق أيضا. أن زيادة الأبجدية العربية (28 حرفا ليس من بينها اللام ألف) بستة أحرف أصيلة على الأبجدية العبرية (22 حرفا) تثرى العربية بكم هائل من الجذور الثلاثية لا تستطيعه العبرية، ذلك أن الحرف الواحد مجموعا إلى حرفين اثنين فقط من حروف الأبجدية (ولتكن ض- ب- ر) يعيطك عشرة جذور ثلاثية ممكنة: بَض-ضَب- رض- ضر- ضبر-ضرب-رضب- ربض- برض- بضر، كلها مستعمل مسموع في العربية عدا الجذرين الأخيرين"برض"و"بضر" الباقيين في خزائنها ، تستطيع استخراجهما حين تشاء. وقس على هذا اجتماع الضاد مع باقي الحروف. (هذا باب واسع غفل عنه"المعربون"، يتيح "اختراع" الألفاظ لمستحثات الحضارة.)

من جهة أخرى تفتقر العربية إلى صوتين في العبرية، هما الباء(p)الثقيلة، والباء المرققة التي تخف وتسيل فتصبح(V) ولكن هذين الصوتين غير أصليين في العبرية، وإنما هما نفساهما الفاء والباء: تنطق الفاء باء ثقيلة (باء) حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أولا يكون لها قبلُ) أو حين تُضعف (مثل برعو العبرية بمعنى فرعون) وتنطق كالفاء العربية فيما عدا ذلك . أما الباء العبرية فتنطق كالباء العربية حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو حين لا يكون لها قبل) أو حين تُضعف، وتنطق باء مرققة سائلة (فاء) فيما عدا ذلك (مثل "آف" (AV)العبرية يعنى أبٌ، وعكسه "بَا" العبرية ومعناها (جاء). وهذا أيضا لا يضيف إلى العبرية جذورا جديدة تتميز بها على العربية، وإنما هو مجرد لهجة في نطق الحرف في مواضع مخصوصة ، لا تغير من أصل معنى الجذر الذي يحتويه، مع نطق الحرف على أصله في غيرها. من ذلك الفعل "كَفَر" المشترك بين العربية والعبرية معنى ونطقا وكتابة، ولكن الفاء فيه حين تُضعف، تنطق في العبرية باء ثقيلة (P)، كما في "يُوم كِبُور" أي "يوم الكفارة". ومثله أيضا الاسم العبراني"أيوب"، الذي ينطق في العبرية "إيوف"، رُققت باؤه وأسيلت لاعتلال ما قبلها (الواو) فنطقت باؤه فاء. ومثله أيضا "أبراهام"(إبراهيم) الذي ينطقه العبرانيون" أفراهام" لتحرك الهمزة قبل الباء.

من وجوه المغيرة الصوتية أيضا بين العربية والعبرية، اصطناع العبرية "المد بالكسر" (أي إطالة زمن نطق الكسرة دون انقلابها ياءُ ثقيلة) وقرينة "المد بالضم" (أي إطالة زمن نطق الضمة دون انقلابها واواً ثقيلة) ولا وجود لهما أصلا في العربية الفصحى، (باستثناء حالات "الألف الممالة" التي تثبت سماعا عن أصحاب القراءات في مثل ياء "مجريها ومرساها " .وإمالة الألف هى نفسها بالمد بالكسر) وإن كانا موجودين في العربية العامية، مثلما ترى في كلمة "بيت" العربية التي تنطق في العامية مكسورة الباء ممدودة الكسرة"بيت". والفرق بين المد بالكسر وبين المد بالياء أن الكسر في المد بالياء ثقيل، تحتشد له عضلات الفم واللسان، كما في كلمة "عيد" بينما هو في المد بالكسر مخفف مرقق، كما في كلمة "ليش" (بمعنى لأى شئ) العربية العامية ، ترتخي فيه عضلات الفم واللسان. وهكذا أيضا الفرق بين المد والضم وبين المد بالواو في مثل"عود" و"يوم" وإذا لاحظت أن العبرية - شأنها شأن العربية العامية- تصنع ذلك كلما كان الأصل في العربية الفصحى الوقوف بعد فتح على الواو والياء، في مثل"يوم" و"ريب" ، الوقوف عليهما ثقيل، بدت لك العبرية وكأنما تنشد التسهيل ، كما تفعل العربية العامية، وكما فعلت الانجليزية المعاصرة مثلا بالحرفين (au)"آو" و (ai)"آى" اللذين سهلتهما الانجليزية المعاصرة، والفرنسية المعاصرة أيضا دون سائر أخواتها اللاتينيات ، إلى "أوه" و"إيه"على الترتيب.

هناك أيضا مغايرة بين العربية والعبرية في النحو والصرف، لا توجد في العبرية علامات "إعراب"، وإنما الأصل "البناء"، أي بقاءُ اللفظ على حاله وصورته أيا كان موضوعه من الإعراب رفعا ونصبا وجرا وجزما كما تفعل العربية العامية، وكما آلت إليه الانجليزية والفرنسية بين أمهات اللغات الأوروبية الحديثة. وليس في العبرية صيغة للمثنى، إنما هو الجمع لا غير. عدا استثناءات قليلة منقرضة من مثل"عينيم" مثنى "عين" (أداة الإبصار)، ومثل "نهريم" مثنى "نهر" (في عبارة "آرام نهريم"، أي آرام ما بين النهرين). ولا وجود لجمع التكسير في العبرية ، وإنما هو الجمع السالم لا غير، وصورته البناء على الياء بعدها ميم(لا نون كما في العربية والآرامية) في جمع المذكر ، مثل "بنيم" (يعنى "بنون" العربية) والمد بالضم بعدها تاء ساكتة (لا المد بالألف بعدها تاء كما في العربية والآرامية) في جمع المؤنث ، مثل "بنوت" (يعنى "بنات" العربية) . كما تفتقر العبرية إلى صيغة "أفعل التفضيل" مثل " أكبر" و"أصغر" وما إلى ذلك ، فتحتال عليها بصيغ مخصوصة من مثل" الابن الكبير" في موضع أكبر الأبناء، وهلم جرا. ومن أمثلة المغايرة بين العربية والعبرية في موازين الصرف، أن العبرية تضع الوزن "فُعيل" (مدا بالكسر) لزنة اسم الفاعل، والوزن" فعول" (مداً بالواو) لزنة اسم المفعول ، وأحيانا كثيرة الوزن "فعول "( مداً بالضم لا بالواو) لزنة مصدر الثلاثى المجرد. من ذلك "حميذ" بمعنى حامد، و"حموذ" بمعنى محمود، و"حموذ"( مدا بالضم ) بمعنى الحمد، الخ.

أما أخطر وجوه التغاير بين العربية والعبرية ، وأدلها أيضا على أصالة العربية وسبقها للعبرية (وللآرامية ايضا) في الزمان والمكان، فمنها تفوق العربية تفوقا ساحقا بوفرة المادة اللفظية الأصلية (الجذر الثلاثى) بما لا يقاس على العبرية والآرامية ليس فقط بسبب زيادة الأبجدية العربية بستة أحرف أصلية(ث – خ – ذ - ض- ظ - غ) كما مر بك ، فتستطيع الإتيان مثلا بالجذرين "خرج" وحرج" كلا بمعنى، ولا تستطيع العبرية إلا الثانى وحده بمعنى "ضاق" وغير هذا أكثر من أن يحصى، وإنما أيضا لكون العربية أوفر أوزانا وأضبط وأقيس ، تستطيع الإتيان بالطريف بالمعجب دون زيادة في أحرف الجذر، وإنما فقط بتغيير حكة عينه. من ذلك الفعل "صنع" أي كان صانعا شيئا ما ، سفسف فيه أو أتقنه، و"صنع" أي كان حاذقا ماهر الصنعة، وغيره كثير.

ومن وجوه الأصالة والتفوق أيضا أن العربية تستنفد من الجذر الأصلي كل معانيه - الرئيسي والمترتب عليه- على حين تقتصر العبرية والآرامية غالبا على وجه واحد تجمدان عليه. من ذلك الفعل "حمد" فهو في العربية بمعان يتسلسل بعضها من بعض: حمدته يعنى رضيته وأعجبت به، وحمدته أيضا يعنى ذكرت محاسنه فمدحته بما هو أهله، وحمدت له أمرا يعنى استحسنت له، وحمدته أيضا يعنى ذكرت له نعمة فشكرتها وأثنيت عليه لجوده بها. أما العبرية فتقتصر من "الحمد" على وجه واحد، هو الرضا والإعجاب: حمدته العبرية تعنى أعجبنى وحلا لى.

(هذا عندي هو الوجه المنعوت به صلى الله عليه وسلم بمقتضى تسميته"محمداً، أي الحميد الخَلق والخُلق، الأفعال والصفات. وهو أيضا- وهذا جديد نفيس لم تقرآه من قبل- الذي جاء في العهد القديم نبوءة بمبعثه صلى الله عليه وسلم على لسان حجاي النبي: "وبا حمدت كل هجويم" (سفر حجاي:2/7)، يعنى "ويجئ حمده كل الأمم أي الذي تحمده كل الأمم، يعنى يحمده كل من نطق باسمه، وإن جحده وأنكر نبوته. والنصارى يسقطون هذه النبوءة على المسيح عليه السلام، وليس بشئ، لأن المسيح لا يحمده من جحده وأنكره، ومنهم اليهود على الأقل.

وهذا أيضا بعض معنى قوله عز وجل : { النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } (157) سورة الأعراف، أي نبي كل الأمم، الموصوف بنعته في التوراة والإنجيل الذين بين أيديهم عصر نزول القرآن وإلى الآن. ومن أسف أن تراجمه العهد القديم يترجمون عبارة"حمده كل الأمم" بعبارة" مشتهى كل الأمم" ، ربما لطمس معنى "الحمد" في النبوءة. ولو أنصفوا لاستبقوا لفظ "الحمد" في النص العربي على الأقل – بصورته المشتركة بين العرب والعبرية. ربما اعتذرت لهم بأنهم لو سلموا بهذه النبوءة لسلموا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وربما ظننت أيضا أنهم لا يُسلمون بالاشتراك بين "حَمَد" العبراني ولكن آباءهم في الأندلس كانوا يسلمون بهذا الاشتراك، بدليل نطقهم اسم النبي لنصارى الأسبان والفرنسييين لا على زنة مُفعل العربي- أى محمد- وإنما على زنة نظيره العبرى مفُعل – أى محمد – بنفس المعنى عبريا، ومن هنا قال الأسبان Mahoma وقال الفرنسيون Mahomet اللتين تحار في تعليل تحريفهما ، وربما أسأت الظن فحسبت أنها " ما حُمدِ" نفيا للحمد عنه صلى الله عليه وسلم).
أما أكثر أوجه المغايرة دلالة على أصالة العربية وسبقها فهو أن العربية لا يوجد فيها لفظ مشتق إلا وهى تستخدم ثلاثية المجرد في أصل المعنى الموضوع له، أما العبرية فيكثر فيها المشتق الذي لا حذر له. معنى ذلك أن العبرية تأخذ اللفظ المشتق على صورته عند أصحابه دون فهم أصل معناه في جذره الثلاثي. والجذر بالطبع أسبق وجوداً من اللفظ المشتق منه. العبرية إذن ناقلة عن العربية، ولا يتصور العكس. من ذلك أن الفعل العربي"نجل" بمعنى قطع وطعن- ومنه" المنجل" أداة الحصاد- لا وجود له في العبرية، ولكن الموجود في العبرية من مادة الجذر العربي
"نجل اللفظ "مجال" (أوصلها "منجال") أي المنجل: استعارت العبرية "المنجل" ولم تستعر "النجل". هذا يفسر لك لماذا يلجأ اللغويون إلى المعجم العربي لمحاولة فهم غوامض العبرية والآرامية، لهذا صح عند اللغويين الأثبات أن العربية هي أم الساميات جميعا، لأنها الخزانة اللغوية التي تغترف منها سائر لغات الفصيلة ولا تنضب هي، بل لديها دائما المزيد.وربما ترجح عند بعضهم أنها أيضا الأصل البعيد الذي انشقت عنه وتحورت سائر لغات المجموعة الإفريقية- الآسيوية، ومنها المصرية والحبشية.



ولكنك في أقل القليل تستطيع أن تؤكد- مصيبا غير مخطئ- أن اللغة العربية- أيا كان الشكل الذي تطورت منه إلى الشكل الذي نزل به القرآن في مطلع المائة السابعة لميلاد المسيح- كانت هي نفسها في عصر ما غير بالغ القدم اللغة السائدة بين سكان شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وأن الآرامية التي ارتحل بها آباء إبراهيم من العراق إلى سورية، والعبرية التي ارتحل بها إلى مصر يعقوب وبنوه، وعاد بها بنو إسرائيل إلى جنوبي فلسطين بغير الوجه الذي ذهبت به فتعاجموا بها على إخوانهم الموآبيين - هذه وتلك وسائر ما تكلم به أهل الشرق الأدنى القديم في شبه الجزيزة – ليست إلا لهجات قبلية متحورة عن هذه العربية نفسها، تهجنت بها ألسنتهم بتأثير الغزو اللغوي الحضارة الذي توالى على أطراف شبه الجزيرة، شرقيها وشماليها، وسلم منه قلبُلها في الحجاز، وإلى حد بعيد جنوبيها في اليمن. على أنك إزاء هذا المستوى الفنى الرائع الذي ارتقت إليه تلك اللغة الفذة نحوا وصرفا وإعرابا- ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة- والذى تلمسه قبيل نزول القرآن – فيما صحت نسبته إلى الجاهليين من شعر- لابد يخايلك إحسان مبهم بأن تلك اللغة لا ريب سليلة حضارة موغلة في القدم سبقت عصر الطوفان وسبقت عصر التصحر والجفاف في شبه الجزيرة ، ثم ضاعت في ضباب التاريخ. ولكننا لا نخوض بك في تاريخ ما قبل التاريخ، فلا علاقة لموضوعنا بهذا الفن ، ولسنا نحن أيضا من رجاله.



(4)


تحدثنا فيما سبق عن أوجه التقابل والتغاير بين العربية والعبرية داخل الفصيلة السامية. وما ذكرناه بشأن العربية والعبرية ينطبق في جملته، مع بعض تفاوت، على ما بين العربية والآرامية ، وعلى ما بين الآرامية والعبرية تلك اللغات السامية الثلاث الألصق بموضوع هذا الكتاب. ما أردناه هو التمثيل لوجوه التقابل والتغاير بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، التي تجعل إحداها كلاما أعجميا في سمع أهل اللغة الأخرى من نفس الفصيلة، وفيما ذكرناه كفاية، وعذرنا أن الإفاضة بعض الشئ في المقارنة بين العربية والعبرية بالذات، تفيدنا في استجلاء"عجمة" العلم العبراني الذي نتصدى له فيما يلي من فصول الكتاب.

****

هذا التقارب، والتغاير أيضا، بين أفراد فصيلة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية ، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن أسرة اللغات الإفريقية-الآسيوية، يدلان على أن التقارب قد كان منشئوه التجاور في الزمان والمكان حقبة من الدهر بين أبناء الفصيلة اللغوية الواحدة، لأن اللغات تُتعلم بالمحاكاة والتقليد، وهذا لا يتسنى إلا في بيئة معيشية مشتركة.

على أن التقارب- وهو دون التطابق- يفيد بذاته وجود مغايرة بقدر ما بين اللغتين من ذات الفصيلة، لا يمكن تفسيره إلا بحدوث انفصال بيئي بنفس القدر بين أبناء هاتين اللغتين تعرضت إحداهما خلاله- بالمحاكاة والتقليد أيضا- لتأثيرات لغوية من حضارات مجاورة، أو غزوات لغوية- حضارية شنها أقوام يتحدثون غير اللغة، ليس هذا فحسب، بل إن هذا الانفصال البيئي ربما صاحبه انفصال حضاري في اتجاه مغاير، استتبع تطور اللغة في اتجاه مغاير لتطور اللغة التي انشقت منها، فتتباعدان إلى حد التعاجم. ذلك أن اللغات ، بغض النظر عن الغزو اللغوي- الحضاري، لا تثبت قط على حال، بل تنمو وتتحور أيضا، لا بفعل المؤثرات الخارجية وحدها، وإنما أيضا بفعل ارتقاء- أو انتكاس- الحضارة الذاتية لأبناء اللغة: تنتعش الحضارة فتتغنى اللغة، وينضب معين الحضارة فتذوى اللغة أو تموت. والأصل في هذا أن الألفاظ أوعية المعاني، تماما كما أن الجسد وعاء الروح: لا يولد في اللغة لفظ جديد إلا متلبسا بمعنى جد لأهل اللغة. والحضارة التي يصيبها العقم فلا تتطور ولا تبدع ولا تبتكر، تعقم لغة أهلها أيضا فلا تولد فيها ألفاظ جديدة لمعان ومسميات جديدة سبقهم إلى الوقوع عليها أبناء الحضارة الغالبة، أصحاب الحق الأول في تسمية ما يكتشفونه ويبتدعونه. وبقدر ما تتهجن الحضارات التوابع، تتهجن اللغة، لن اللغة التي عقمت بعقم حضارة أهلها لا تجمد مفرداتها فحسب على ما جمدت عليه حضارتهم، ولا تضمر مفرداتها فحسب وتشيخ، وإنما يهجرها أهلها أيضا إلى ألفاظ"أعجمية" تلتوى بها ألسنتهم، هي تلك الألفاظ التي اصطنعها أصحاب الحضارة الغالبة لما استحدثوه أو تطوروا إليه من أنماط حياة وأدوات حياة.

وعيب اللفظ المنقول على أصله الأعجمة إلى اللغة المستعيرة أنه ليس دالا بذاته على أصل معناه في لغة المنقول عنهم، فيلتبس على غير المتخصص من أبناء اللغة المتسعيرة، وربما استخدم في غير ما وضع له. يحدث هذا بالتحديد في ألفاظ" المعاني" أي الألفاظ الدالة على الفعل وهيئة الفعل، من مثل" الاستراتيجية" و"الديمقراطية"، الخ، في اللغات المعاصرة، مما ليس له مقابل مادي خارج الذهن، يوضحه ويجليه ويذكر به، أكثر مما يحدث في أسماء الأشياء والمنتجات والمصنوعات والعدد والآلات والمكتشفات والمخترعات التي سبقت إليها الحضارة الغالبة مثل "الرادار" وغيره، مما له خارج الذهن مقابل مادي يوضحه ويجليه ويذكر به.

أما اللغة التي تستعير من غيرها معانى الأفعال وأسماء الأفعال، فهى لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية ويمعنوا انتكاسا، لغة أهل الحضارة الغالبة هي المثل على تطور اللغة بتطور الحضارة الاتية لأبناء اللغة، ولغة الحضارة التابعة هي المثل على تحور اللغة بتاثير الغزو اللغوي- الحضاري.

وتستطيع أن ترتب على هذا – مصيبا غير مخطئ- أن اللغة الأغزر ألفاظا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأقدر على توليد المعاني، وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة، الأطوع لتشقيق المعاني،الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر، الأثبت في وجه الغزو اللغوي- الحضاري.

ولأن الحروف – أي الأصوات- هي لبنات الألفاظ، تستطيع أن تقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأكثر احتواءً لكافة الأصوات المفردة الممكنة ، أي الأوفر أصواتاً وحروف نطق.

وتستطيع أن تضيف إلى هذا ان اللغات الصرفية ذوات الأوزان، كما هو الحال في اللغات السامية، وأمها العربية، هي وحدها- دون اللغات الغروية- الأقدرعلى تمثيل الألفاظ الأعجمية وهضمها،لأنها – وبالذات اللغة العربية- لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضى مخارج أصواتها، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها ، ثم تشتق منه، وتتصرف فيه، حتى يبدو اللفظ الأعجمي لغير المتخصص وكأنما ولد عربيا لأب عربي.

واللغة العربية في هذا كله- دون سائر اللغات- فرس لا يدانى، لأنها الأكثر حروفا، الأغزر جذورا، الأوفر أوزانا، الأضبط نحوا وموازين صرف. ولكنها أيضا – ولنفس الأسباب- اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربى، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروبة صورته بعد تعريبه. قارن فى هذا السياق"ساذج" المعربة عن الفارسية"ساده" بمعنى النقى الخالص، وأيضا الاسم الللاتيني"كسر"المعرب إلى "قيصر".

على أن النقلة العرب في العصر الحديث، لا سيما في نصف هذا القرن الأخير، لم يلتزموا قواعد التعريب التي تقتضيها أوزان اللغة العربية ومخارج أصواتها:

عربوا " الخط" ولم يعربوا اللفظ ، فأساءا ولم يحسنوا . قد مهد لهذا- رغم جهود محو الأمية ونشر التعليم في عصرنا- شيوع العامية وتراجع الفصحى على الألسنة ، لا في لغة الحديث اليومي فحسب ، بل وفى الخطابة وفى الإذاعة والتلفزة، حتى استجازتها الصحف فتسللت إلى أقلام أهل الفكر والفن والأدب، وحتى أصبح استيعاب قواعد النحو والصرف والأعراب وتعلمها وتعليمها، على بساطتها في العربية وانضباطها، مشكلة كبرى لجمهرة المثقفين أنفسهم فما بالك بغيرهم؟

بمثل هذا – وقد بدأ بالفعل- تستحيل اللغة رطانة شائهة هجينة ، تعتجم على القائل والسامع. والذي تشوه لغته وتعتجم لا يحسن القول ولا يحسن الفكر، ومن ثم لا يحسن التلقي ولا يحسن العمل. لأن اللغة ليست أداة التعبير فحسب، ولكنها أيضا – وبالدرجة الأولى- أداة العقل والفكر. ومن ذلك ما تسمعه من محدثك في الإذاعة والتلفزة الذي يردف لك اللفظ العربي بما يظنه المقابل الأعجمي ، وكأنما يريد أن يثبت في ذهنه وذهنك..

والغريب أن دعاة"التحضر" في هذا العصر، لا يعيرون هذه "القضية الحضارية" التفاتا. والأعجب أن دعاة القومية"العربية" في هذا العصر- واللغة العربية عنصرها الأول والأهم- هم أداة "التغريب" أيضا، ويا له من تناقض!

على أن اللغة العربية- والقرآن كافلها وكفيلها – أكرم على الله عز وجل من أن تهان، وأسمى من أن تبتذل، وأقوى من أن تهزم، وأخلد من أن تبيد. تلك كبوة حضارية عابرة، ليست القاصمة.



(5)


مر بك أن اللغات يلقح بعضها بعضا، ويستعير بعضها من بعض . وهو تلاقح محمود، فوق أنه محتوم. وهو محتوم لا مناص منه لأنه ناشئ عن احتكاك القبائل والشعوب بعضها ببعض سلما أو حربا، يموج بعضهم في بعض، ويجوس بعضهم في ديار بعض، فيعرفون وينكرون: يعرفون ما ألفوا له مثيلا في قومهم، وينكرون ما لم يسبق لهم به عهد، حسن أو قبح. ويعود كل إلى أهله بما رأى وسمع.

هب أنك عربي عاش في قرون خلت، زرت الصين فقدم لك أهلها شرابا قوى النكهة حسوته فاستطبته فسألت عنه، فقالوا لك : هذا "شا" ، فقلت في نفسك: ما أطيب هذا الـ"شا" ؛ وما أن رجعت إلى أهلك وفى جرابك بعض من هذا النبت العجيب، تغلي لهم ورقه، وتديره على جلسائك، يحتسونه ويستطيبونه كما استطبته أنت من قبل ويسألونك عنه فتقول : هذا "شاي"؛ أضفت الياء من عندك ليستقيم لك الوزن العربي الذي مرن عليه لسانك . على هذا النحو أو قريب منه عرف العرب"الشاي"، الاسم والمسمى.

وقس في المقابل على الشاي ما شئت من مثل "جمل" العربية التي صارت Kamelos في اليونانية و Camelus في اللاتينية و Chameau في الفرنسية و Camel في الانجليزية، إلى آخره. من هذا أيضا أن اليونان ما كان لهم أن يسموا "الواحة" قبل أن يروا الصحراء، وما كان لهم أن يروا الصحراء قبل أن يزوروا مصر، ومن هنا "Oasis" اليونانية التي انتقلت بنصها إلى اللاتينية وبناتها والآخذات عنها، وهى في الأصل مصرية قبطية.

هذا التلاقح اللغوي المحتوم، محمود أيضا لأنه يثرى اللغة المستعيرة بما يحتاج أهلها إلى اصطناعه ، مما ليس لديهم، اسما ومسمى، وهو مقبول مشكور بالذات في أسامي النبات والحيوان والجماد، مما سبقك غيرك إلى تسميته ، ومثلها أسامي الأطعمة والألبسة والعدد والأجهزة ، الخ. متى اصطنعت المسمى فلا بأس عليك من استعارة التسمية. التوقف في هذا عقيم مرذول، فوق أنه تنطع ونفاق: كيف تأنف من تسمية "الفالوذج" فارسيا معربا وأنت تسرطه سرطا؟ ( سرط الطعام يعنى التهمه) وكيف تأنف من قول"رابوت" تعريبا على وزن "تابوت"… تلك اللفظة التشيكوسلوفاكية Robot (التي لم يأنف من استعارتها أصحاب الحضارة الغالبة) ولا تخجل من تشوقك إلى استخدام "الروابيت"في مصنعك، تريد"الروبتة" ولا تريد "الرابوت"؟ لو أردت الترجمة بالمعنى- و Robot التشيكوسلوفاكية معناها"الخادم" – لابتعدت عن ذلك اللفظ السقيم المركب- الإنسان الآلى- "الخيشبان" في قصصك الشعبى- لأن "الرابوت" ليس بإنسان وليس بالضرورة على شكل إنسان- ولقلت مثلا"العفريت" (خادم الخاتم في قصصك الشعبى). ولكن هذا وذاك لا يصلحان لأنهما كليهما يشتبهان بمعان أخرى في لغتك، فلا يؤمن الخطأ واللبس على السامع والقائل، كما قلت في "التليفون" "الهاتف" ، ولو شهده العرب القدماء لقالوا فيه "طلفان" ولاشتقوا منه فعلا ومصدرا (طلفن – طلفنة)، يبدلون من التاء في الجذر طاء كيلا يشتبه بمادة الجذر "تلف" .هذه هي شروط "التعريب" الجيد المقبول في العربية:

(1) اختزال أحرف اللفظ الأعجمي إلى جذر رباعى- على الأكثر – كي يتاح الاشتقاق منه.

(2) تجنب اشتباهه بجذر لفظ أصيل في لغتك. إن لم يتسن لك ذلك كله مجتمعا، فالترجمة أولى.

أما السقيم المقبوح، فهو استعارة أهل اللغة من أصحاب الحضارة الغالبة لفظا أعجميا لا يحتاجون إليه، وعندهم مثله ، كمن أراد العدول عن تحية الإسلام إلى تحية الجاهلية ، فقال"بنجور" Bonjour الفرنسية، ولديه في لغته "عم صباحا" (وأصلها نعمت صباحا)، وهى طبق الأصل من تلك. وتستطيع أن تجزم- كما أجزم – بأن هذا القائل بغير لغته، في "بنجور" وأمثالها هو نفسه الذي يقول لك: لا مشكلة؛ (No Problem) يريد لا بأس؛ وهو في الحالتين- الرطانة والترجمة – ببغاء يهرف بما لا يعرف.

على أن الحديث عن أسباب هذا "التعريب" الببغاوى ونتائجه ، ليس من مقاصد هذا الكتاب، وإنما الذي نعنى به هو ذلك التلاقح المحمود المحتوم بين اللغات، قديمها وحديثها.

****

في التلقيح والاستلقاح دلالة تاريخية- حضارية لا تخفى، ليست هي في كل حال أخذ التابع عن المتبوع، والمغلوب عن الغالب، فقد يأخذ الغالب عن المغلوب، والمتبوع عن التابع (كما في "بطاطة" التي استعارها الغزاة الأوربيون عن أهل الأمريكتين، وكما "تفلسف" الرومان اللاتينيون على أيدي أرقائهم اليونان، ومثلما أخذ اليونان عن القبط، والعرب عن الصين على ما مر بك). بل قد تتجاور الحضارات على استواء تجاور الأنداد ، فيفضي بعضهم إلى بعض، دون استعلاء أو غضاضة، مثلما تجاور الفرس واليونان، والهند والصين، وآشور ومصر. الدلالة التاريخية- الحضارية للتلقيح والاستلقاح في اللغات، أي دلالة السبق إلى المعنى بدليل السبق إلى اللفظ، لاسيما في المعاني المجردة مثل "تفلسف" وأسامي العدد والأدوات مثل"المنجل"، هي دلالة الأقدم وجوداً، الأسبق ارتقاء، الأفعل تطورا: إنها دلالة الأستاذية أو التلمذة.

وإذا جاز لعلماء التاريخ ومؤرخى الحضارات الاستعانة في تأصيل مقولاتهم بهذا الشاهد اللغوي في جملة ما يتاح لهم من شواهد الأحافير والنقوش والمخطوطات فليس من شأن اللغوي المحقق أن يفعل العكس، فيستدل بسبق حضاري مزعوم على سبق لغوى مفترض، بل عليه أن يترك لمؤرخي الحضارات مهمتهم، ويستقل هو بمهمته، فيبنى مقولاته استنادا إلى مباحثه اللغوية وحدها، غير متأثر بمقولات المتخصصين في غيرها، صحيحها ومنحولها، مغرضها وبريئها : أصالة اللفظ في اللغة تبنى أول ما تبنى على وجود جذر أسبق منه، يستخدم فيها بمعان متعددة متقاربة يتوالد بعضها من بعض ، نحت منها اللفظ المختلف عليه مادته. من ذلك ، مادة الجذر- "قلم" بمعنى قطع وبرى. إنها الأصل العربي لأداة الكتابة الموصوفة في القرآن بالقلم (العلق:4)، فالقلم هو المقطوع المبري، أي قوله عز وجل :

{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (44) سورة آل عمران، وزلمه يعنى قطعه. والقالم يعنى العزب المنقطع عن الزواج. والقلامة هي ما يقطع من طرف الظفر والحافر والعود. وقلم الشجرة يعنى أخذ من أطرافها لتقوى، فالقلم أيضا بمعنى الغصن أو العود المقطوع من أمه، ولا شك أنه قبل اصطناع المداد، كان القلم من هذه العيدان، لا من القصب واليراع (اليراع هو مطلق القصب -نبات القصب- أو هو رقاق القصب.)، هو أول ما كتب به على عسيب النخيل ولحاء الشجر، كما تجد في قوله عز وجل : {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } (27) سورة لقمان.

لفظ القلم إذن ، الذي وصفت به أداة الكتابة في السورة التي سميت باسمه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ.مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (1-2) سورة القلم ، وأداة العلم والتعليم في أول ما نزل من القرآن : {{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3-4-5) سورة العلق، لفظ عربي أصيل، منحوت من جذر عربي أصيل (ق- ل-م)، تدور معانيه على القطع والقط. وليس من حذاق اللغويين من توهم أن لفظة قلم الموضوعة في العربية لمطلق أداة الكتابة أيا كان شكله ومادته- أي اسم جنس لكل ما يكتب به- لفظة مستعارة من اليونانية "كلمس" Kalamos لمجرد التشابه بين اللفظتين،

أولا: لأن "كلمس" هذه في اليونانية لاتعنى القصبة واليراعة. ولا شك أن الناس قبل اصطناعهم القلم من القصب- والعرب بعض الناس- كتبوا بكل ما ينحت وينقش ويخط، بل كتب المصريون القدماء بالأزميل، وكتب الإنسان أول ما كتب بإصبعه مجردا. وليس اليونان أول من كتب، بل إنهم تعلموا فن الكتابة من عرب الشمال (الفينيقيين) ، بدلالة لغوية قاطعة ، وهى اصطناعهم الأبجدية الفينيقية برسومها وأسامى حروفها. الذي ينتحل الخط لا يبعد أن يستعير من أستاذه القلم.

وثانيا: لأن العرب حين اتخذوا القلم من القصب بعد عصر القرآن سموا هذا النوع من الأقلام باسمه النوعى:"اليراعة"، وما كان لهم أن يستعيروا اسمه النوعي من اليونانية" "كلمس" بمعنى القصبة أو اليراعة. ولديهم المقابل العربي الأصيل، إلا إذا زعمت أن العرب بالمعنى العام، أي سكان شبه الجزيرة ، لم يعرفوا القصب- ذلك النبت الأنبوبى الذي يفشو في المناقع ومجارى الأنهار- قبل أن يعرفه اليونان، والعرب بالسبق إليه أشبه، وبالتعرف عليه عند أصحابه- جيرانهم المصريين- أولى.

ثالثا: لأن اليونان حين اتخذوا العصى من كبار القصب، لم يسموا تلك العصا "كلمس"- أي القصبة- ولكنهم سموها "كنا" Kanna، أخذا عن الفينيقية "قنو"، وهى نفسها "قنا" العربية اسم جنس مفرده "قناة". ومن هذه العصا ذات "العُقل" اتخذ اليونان المقاس الذي تقاس به الأطوال، وتوسعوا فقالوا Kanon، أي القانون الذي يقاس به ويقاس عليه.ها أنت ترى أن "القانون" لفظة عربية الجذر يونانية الاشتقاق فحسب ولو كانت "كلمس" بمعنى القصبة أسبق وجودا في اليونانية لقالوا في معنى القانون"كلمون" Kalamon ولما قالوا "كنون" Kanon بل لما استعاروا "قنو" الفينيقية أصلا.

(عرف العرب "القصبة " مقاسا للأطوال. وعرفها العبرانيون أيضا، ولكنهم اشتقوها من "قنى" العبرية- وهى "قنا" العربية – فقالوا" قنى همدا" أي قصبة القياس (همدا= المدى). أنظر أسفار العهد القديم فى نصها العبرانى: حزقيال 40/3 على سبيل المثال)
(فينيقيا هو الاسم الذي أطلقه اليونان قديما على من فى قبالتهم من أهل الشام، وهى من "فوينوس" Phoinos" اليونانية بمعنى الأحمر الداكن. ومن هذه Phoinikas اليونانية بمعنى "النخلة". فكأن الفينيقيين عند اليونان هم "أصحاب النخيل"، أو هم "السمر في حمرة"، وكأنها من "ادومي" العبرية "جيران لبنى إسرائيل"... قارن "آدم" العربية، بمعنى الشديد السمرة . وهذا نفيس ، فتأمله.)

كان هذا بحثا لغويا مجردا، أردناه مثالا لكيفية التدليل على عجمة لفظ ما أو أصالته في لغة بعينها ، لا نستطرد منه الآن إلى أمثال "الصراط" و"القسطاس" و"إبليس" ، الخ. ، عند من قال بعجمتها في عربية القرآن من أدعياء الاستشراق المتطفلين على مباحث اللغة، الذين خبطوا في القرآن خبط عشواء- بعد أن أنكروا على القرآن أن يكون من عند الله، واستعظموا في الوقت ذاته على محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقل"بصنعه" دون أن يُعينه عليه قوم آخرون- فخاضوا على غير علم في إثبات إلا جهلهم وجهالتهم ، وماتوا بغيظهم. وقد تابعهم للأسف أشياع لهم مسلمون عرب فيهم من تجله وتوقره، بل من لا تشك في علمه وإسلامه وعروبته، فلا تملك إلا أن تستغفر الله لهم.

السراط (صراط فى القرآن) مأخوذ من الجذر العربى"سرط" ، و ...انسرط الطعام فى الحلق: لان وسهل منه اشتقاق"السبيل" فهو الرخى المرسل. وليس "الصراط" من "ستراتا" strata الرومية اللاتينينة (ومعناها "المرصوفة" أى الطريق المرصوفة Via Strata) فلم يعرف العرب الطرق المرصوفة حتى يصطنعوا لها اسما، وليست السهولة في "صراط" العربية من الرصف بل من الاستواء والاستقامة.

أما القسطاس فهو من القسط، كررت فيه السين تفخيما وتغليظا. والقسطاس أيضا اسم جنس للميزان العدل لا جمع له وإنما يجمع- على المعنى- بعبارة الموازين القسط، كما فى قوله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } (47) سورة الأنبياء. والجذر "قسط" أصيل فى العربية، تجد له فى الفصيلة السامية قرينا من العبرية ، وهو "قشط" الذى اشتقت منه " قاشاط" العبرية بمعنى الميزان.

وإذا كنا نعيب هذا التخبط وهذا الإسراف، فنحن لا نقصد إلى تنزيه العربية عن الاقتباس من غيرها. وقد مر بك أن التلاقح بين اللغات أمر محتوم، فوق أنه محمود مقبول حين تدعو إليه الحاجة. بل لا تخلو معاجم أي لغة من ألفاظ أعجمية الأصل. وليست العربية بدعا بين اللغات. فلا غضاضة في هذا على العربية أو على غيرها.

ونحن ابتداءً- لنفس السبب- لا نُحيل على القرآن أن يصطنع اللفظ "الأعجمي المعرب" ، فليس هذا مما يقدح في عربية القرآن، وإنما هو يجليها،لأن الأعجمي المعرب بمجرد سيرورته على اللسان وإيناسه في الإذن ، تنفك بالتعريب عجمته، وتستبين دلالته، فيصير"عربيا"، أي يفهمه العربي القُحُ مباشرة، لحظة يقرع مسمعه. أما "الأعجمي الأعجم" الذي يقع في سمع العربي غريبا بجرسه، مستغلقا بمعناه، لا يفهمه إلا أن يترجم له، فمحال وقوعه في القرآن ، دع عنك سماعه في أي قول فصيح.

ونحن كذلك – ولنفس السبب- نُحيل على القرآن "اختراع" ألفاظ أعجمية لا سابقة بها للعرب ولا عهد، يلتقطها من الأعاجم ويعربها ويعربها للعرب، فالأعجمي المعرب يظل أعجميا أعجم حتى تنفك عُجمته بطول الاستعمال. ثم ... ما حاجة القرآن إلى التعاجم على العرب بألفاظ من مثل الصراط والقسطاس، ولديه في الفصحى جم وفير من الألفاظ في معنى"الطريق" ومعنى "العدل والميزان" ؟ وإذا كانت "الصراط" و " القسطاس" من محدثات القرآن – وهما كذلك بالفعل- فهل اعتجمتا على العرب. أم فهموا على الفور أن الأولى من السراط والثانية من القسط؟ (ظنها بعض المستشرقين من Justus اللاتينية نعتا لما هو حق وعدل، وتندهش كيف خفى عليه أنها تبدأ بالحرف J الذي ينطقه اللاتين ياء، فهي عندهم "يُستس" لا "جستس" التي تحورت ياؤها جيما الآن في الانجليزية والفرنسية والإيطالية.) هل ظل العرب قرونا لا يفهمون معنى القساطس على سبيل المثال حتى فسرها لهم ذلك الدعىُ المستشرق، بل قد فهم العرب هذا وأمثاله منذ أن تلي عليهم، لأنه- على جدته في الأذن عربي الاشتقاق، يرده العربي سليقة، فور سماعه، إلى جذره المشتق منه. ولو كان لفظا أعجميا اخترعه القرآن في كلام العرب- لم تتحقق له سيرورة الأعجمي المعرب- لدى أسماعهم، لما فهموه قط إلا أن يترجم لهم.

ما أكثر ما خاض كفار قريش في مقام النبوة، وكم سفهوا وتسافهوا. ولكنهم ما جرؤوا في لدادتهم أن يمسوا القرآن بسوء، لا تقصيرا ولا تعففا. بل لو وجدوا في القرآن مغمزا لما عفوا وما أقصروا. ولكن القرآن أعجزهم أن ينالوه بسوء، ولو ادعوا عليه العجمة لافتضحوا بين العرب.

بل ما أكثر ما قالوا- وقال الذين لا يعلمون مثل قولهم- إنما يعلمه بشر. ما قالوه إلا إعظاماً لشأن القرآن- الذي أنكروا عليه الوحي- أن يعلم علمه عربي من العرب، ولكنهم سقطوا وأفحموا. قال عز وجل :

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل. أي لم تكتفوا بإنكار الوحي على القرآن ، وإنما استكثرتم على النبي العربي أن تنحلوه إياه، فكيف بعيى أعجمى يلقنه كتابا هو لب العربية ولبابها؟

هذه القدرة الفذة المذهلة على تعريب أعجمة القرآن وتفسيره بأدق معانيه وهذا العلم المحيط في لغات درست بألفاظ يحار فيها إلى اليوم علماء اللغات وأحبارها، وهذا التصويب المعجز- كما سترى – لما وقر في  كتاب الأسفار وشراحها، أنى لبعض هذا أن يعلمه بشر؟

يتبع...

 

http://e3gaz1.blogspot.com

اجمالي القراءات 17632