دعوة الاسلام ودعوة الجاهلية

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - أبريل - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور
بين
الدعوة الاسلامية ودعوة الجاهلية
1- فقه الدعوة الاسلامية الحقيقية هى الدعوة " للتقوى"فقط . وليست الدعوة الى مساندة السلطان القائم لمشاركته فى السلطة والثروة أو الى الخروج عليه وصولا الىالسلطة والثروة .
التقوى هى علاقة مباشرة مع الله تعالى تعنى خشية الله تعالى وحده فى السر والعلن بحيث تنعكس علىعقيدتك وسلوكك فلا تقدس مع الله تعالى بشرا او حجرا، وبأن تتعامل مع الناس بأسمى مكارم الخلق مبتغيا وجه الله تعالى وحده آملا فى الفوز فى يوم الحساب.
الدعوة الاسلامية للتقوى هى الدعوة سلميا لاصلاح عقائد الناس وسلوكهم الخلقى ابتغاء وجه الله تعالى فقط دون أن يسأل الداعية الناس أجرا، ودون أن تأخذه فى الحق لومة لائم ، ولكنه وفى نفس الوقت يحترم حق الآخرين فيما يختارونه لأنفسهم من الايمان أوالكفر على اعتبار انها مسئوليتهم هم ومستقبلهم هم عند الله تعالى يوم الدين، وليس عليه سوى التذكير والتحذير بالحكمة والموعظة الحسنة .
لا مجال فى الدعوة الاسلامية للاكراه فى الدين أو العنف ، بل على العكس فان الداعية مطالب باحتمال الأذى والعفو والصفح والاعراض عن من يؤذيه، فاذا تعدى الأذى الى حد ان يجبره المشركون المعتدون على تغيير دينه وانكار عقيدته والرجوع عنها الى تقديس البشر والحجر وعبادة الأسلاف وما وجدنا عليه آباءنا – هنا تتحتم عليه الهجرة فرارا بدينه ، فاذا تقاعس عن الهجرة مع قدرته عليها خسر الدنيا والآخرة ، أما اذا عجز عن الهجرة فهناك متسع له فى رحمة الله تعالى وغفرانه. ( النساء97- 99).
فاذا استقر المهاجرون بدينهم فى مكان آمن فواصل المعتدون المشركون الكافرون هجومهم عليهم تحتم على أولئك المسالمين الجهاد القتالى ان استطاعوا .الجهاد هنا للدفاع عن النفس ومنع الاكراه فى الدين ورد العدوان بمثله دون أى ظلم أو اعتداء لأن الله تعالى لا يحب المعتدين.( البقرة 190 -194 ) فاذا كان الهجوم المعتدى عاما وجب على المدافعين عن أنفسهم وحريتهم ان يكون دفاعهم عاما بالمثل ( التوبة 36) فاذا انتصروا على العدو المعتدى الظالم فمن حقهم مجازاته على عدوانة بفرض غرامة علية تسمى الجزية – وهى لا تعنى احتلالا لأرضه أو اكراهه على الاسلام ولكن فقط ارغامه أن يدفع ثمن الخسائر التى سببها بعدوانه( التوبة 29) .
هذا هوالتاريخ الحقيقى لخاتم الانبياء فى القرآن الكريم فى الدعوة والاضطهاد والهجرة والجهاد. تغير هذا كله بالفتوحات التى قام بها الصحابة فشوهوا الاسلام وتشريعاته.
تم تقنين هذا التشويه للاسلام فى العصر العباسى فى الفقه والسيرة والسنة.
من هذا التشويه نبت فقه الدعوة الجاهلية فى تاريخ المسلمين باستخدام دين الله تعالى فى سبيل الوصول للسلطة والثروة. استرجعت الدعوة الوهابية السعودية هذا التراث الدامى فى عصرنا الحديث فأصبح الاسلام متهما بالارهاب مع تناقضه مع دعوة الجاهلية.

2- فقه الدعوة الجاهلية يستخدم الاسلام فى سبيل تحقيق متاع دنيوى ، وهى عادة انسانية سيئة أكّد القرآن الكريم على ضلالها مسبقا ، بل وجعل القائمين بها خصوما لرب العزة جل وعلا يوم الدين. اقرأ فى ذلك قوله تعالى يتحدث بصيغة عامة تشمل البشر حميعا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ )البقرة 174 -175" (اِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْم َ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) آل عمران 77"
هذا الصنف يجعل نصب عينه التكسب بالدين وليس طاعة الدين. دين الله تعالى نزل فى كتب سماوية كان خاتمها القرآن، وموجز الدين هو العدل والحرية وفضائل الأخلاق. وليس من العدل أن ينفرد بعض الناس بأنهم المختارون المميزون عن باقى البشر للتحكم فى الناس وعقائدهم باسم الله تعالى ودينه. ولأن كتاب الله تعالى يأبى ذلك ، ولأنهم يهدفون للتكسب بدين الله تعالى وليس طاعة الله تعالى فانهم يتجاهلون ما يعارض دعوتهم من آيات ويكتمونها فى نفس الوقت الذى يحرّفون فيه معانى الآيات الأخرى لتنطبق عليهم ليكونوا هم وحدهم أولياء الله تعالى من دون الناس ، والمتحدثون باسمه والممثلون له على الأرض والمتحكمون بشرعه فى الناس .
انهم كما قال تعالى قد اشتروا بآيات الله تعالى ثمنا قليلا يتمثل فى جاه دينى أو سياسى يدرّ عليهم مالا من السحت ، وقد يتطور الجاه الدينى والثروة الى حكم سياسى ، وقد يكون الحكم السياسى هو الهدف الأصيل، وفى كل الأحوال فانه متاع قليل زائل بزوال أعمارهم القصيرة فى هذه الدنيا الفانية بطبعها، ويبقى حساب الآخرة وهو الأعظم حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى الجحيم – ولا توسط بينهما يا طويل العمر !!
فى يوم الحساب يكون القاضى الأعظم هو الله تعالى يحكم بين الناس فيما كانوا فيه فى الدنيا يختلفون ويتصارعون. وفيه ينصف الله تعالىالمظلوم ويأخذ حقه من الظالم ، لذلك يسمى يوم الحساب بيوم " التغابن" أى يوم رفع الغبن أى الظلم .انه اليوم الذى يعلن فيه القاضى الأعظم جل وعلا " لا ظلم اليوم " اقرأ فى ذلك قوله تعالى :( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (غافر 16-17 )
الا أن هذا الصنف من الناس له وضع خاص. انه لم يظلم الناس فحسب ، بل ظلم أيضا رب الناس القاضى الأعظم جل وعلا ذاته اذ افترى على الله تعالى كذبا وكذّب بآياته ، وأدعى كذبا أنه المتحدث باسم الله وقام بتشويه وحى الله تعالى ودينه يكتم ما لا يوافقه ويحرف معانى آيات ليجعلها تشير اليه وتنطبق عليه, والمحصلة النهائية لما يفعل هو اتهام الله تعالى بالظلم حين اختارهم وحدهم من دون الناس أولياءه له ومتحدثين باسمه بدون معيار أو تكافؤ فرص أمام الخلق جميعا ، وهو – أيضا - اتهام لله تعالى بالجهل حين أوكل لبعض البشر أن يقوموا بتعديل دينه وتفسيره وتوضيحه كما لوكان تعالى عاجزا عن انزال دين كامل واضح .
ظلمهم لله تعالى يتجلى الآن فى نقمة الكثيرين على الله تعالى ودينه. بعض الناقمين يصف دين الله تعالى بأنه أفيون الشعوب، وبعضهم يكره الاسلام ، وقد وقر فى قلبه أن الاسلام هو ما يقوله أولئك الذين ظلموا الله تعالى واستخدموا دينه – أو عهد الله تعالى - بالتحريف والتأويل فى ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل .
هؤلاء الذين ظلموا رب العزة كيف يكون موقعهم يوم القيامة حين يكون رب العزة جل وعلا ذاته هو الذى يحاسبهم ؟ كيف يتصرف القاضى الأعظم مع أولئك الذين جعلوا أنفسهم خصوما للقاضى الأعظم وذاته العلية ؟ !!
الاجابة فى القرآن الكريم تتحدد فى موقفين : الأول : انه جل وعلا لن يكلمهم عند الحساب ولن ينظر اليهم ولن يزكيهم بمعنى أنه لن تبقى فى صحيفة أعمالهم أى منقبة أو حسنة يستحقون بها التقدير. كل انسان يوضع فى ميزان أعماله يوم القيامة كل أعماله من خير أو شر، من طاعة أو معصية. أعماله فى الطاعات تحاول تزكيته. اما هذا الصنف فنذ البداية فقد أحبط الله تعالى عمله الصالح وأضاعه فلن يجد تزكية و يكون مصيره الى الجحيم. الموقف الثانى يمكن أن نفهمه حين نتعرف على نوعيات أهل النار . ان أصحاب الجحيم قسمان ،قسم ضال مخدوع ، وقسم مضلّ يحترف اضلال الغير وخداعهم. من هذا الصنف الأخير يقع أولئك الذين يشترون بآيات الله تعلى ثمنا قليلا. لذا فالعذاب الذى ينتظرهم هو الموقف الثانى لرب العزة منهم . هو عذاب شديد لا تستطيع لغة البشر وصفه، ولا تستطيع أفئدة البشر أن تتخيله، يفوق كل تخيل ويتجاوز كل تصور، الله تعالى عبّر عن شدة هذا العذاب بجملة قرآنية غاية فى الايجاز وفى الاعجاز :قال تعالى عنهم ": فما أصبرهم على النار؟؟!! " تخيل ان الذى يتعجب من صبرهم على النار هو رب العزة جل وعلا !! واسأل نفسك هل لو عشت آلاف الأعوام تتمتع بلا حدود فى هذه الدنيا ،هل يساوى متاع الدنيا كله لحظة عذاب يوم القيامة؟ فما بالك بالخلود فيها أبد الآبدين ؟ ثم فما بالك اذا كان العذاب الخالد يتعجب من قسوته رب العزة جل وعلا ؟ لكى تتخيل هذا ويقشعر منه بدنك لا بد – أولا – أن تؤمن باليوم الآخر كما جاء فى القرآن الكريم . ان لم تكن مؤمنا فستتندر كثيرا على هذا المقال ولن يحرّك فيك شعره.
بالطبع أنت حرّ فى اختيارك العقيدى والدينى ، وأنا كمسلم ملتزم باحترام حقك فى الايمان أو الكفر حيث انه مستقبلك أنت ومشكلتك أنت وقضيتك عند ربك ، ولا شأن لى بها. ولكن أقول أنه ليس الملحد وحده هو الذى ينكر يوم الدين ،بل يسبقه فى انكاره لهذا اليوم العظيم أولئك الذين يتلاعبون بدين الله تعالوا ويستخدمونه لتحقيق منافعهم الدنيوية غافلين أو متجاهلين لما ينتظرهم من عذاب هائل أشار رب العزة جل وعلا لقسوته التى لا يمكن تخيلها.
أكثر من ذلك أن الملحد المنكر ليوم الدين أفضل حالا من اولئك المتلاعبين بدين الله تعالى لسبب بسيط أنهم لم يضعوا أنفسهم فى خصومة مع الله تعالى، لم يشوهوا دينه ولم يبدلوه ولم يحرفوا رسالته ولم يكذبوا ولم يتمسكوا بما افتراه السابقون عليه . الملحدون اكتفوا باعلان العداء للدين جملة وتفصيلا ، ما كان منه حقا وما قام المتاجرون بالدين بتزويره وتحريفه . أما أولئك المزورون فقد قاموا بتأليف أساطير عن يوم الدين – من أحاديث كاذبة وتفسيرات مزورة – جعلوا فيها النبى يشفع فيهم وفى أتباعهم مهما فعلوا . وعليه فقد تحوّل يوم الدين الى مهرجان للشفاعات والوساطات يفوق ما يفعله أرباب الحزب الوطنى الحاكم فى مصر، وتحول النبى محمد من بشر يقف يوم الحساب ليدافع عن نفسه وليعلن براءته من قومه الذين هجروا القرآن الى مالك ليوم الدين بدلا من رب العزة، اذ بزعمهم يأمر الله تعالى بادخال الظالمين للجنة فيشفع فيهم محمد فيتراجع رب العزة عن قراره – مع انه جل وعلا لا تبديل لكلماته.
هذا التزوير لدين الله تعالى قام به أعداء الله تعالى من بعض أئمة ( المسلمين ) فى العصور الوسطى، ويتمسك به بعض أئمة ( المسلمين ) فى عصرنا الراهن ، واذا حاولت اصلاح عقائد المسلمين بالقرآن وقفوا فى طريقك أئمة آخرون لأن الاصلاح الدينى ينسف مطامعهم الدنيوية فهذه الأكاذيب فهى أساس بضاعتهم السياسية.

3 – الايمان باليوم الآخر هو الفيصل هنا.
هذا يستلزما توضيحا
دعنا نتخيل مصر وقد تخلصت من دكتاتورية العسكر والحزب الوثنى – الوطنى – وأصبحت تنعم بحياة ديمقراطية وانتخابات نزيهة المرجع فيها هو رضى الناخبين وأصواتهم .ثلاثة من المثقفين قرر كل منهم خوض الانتخابات ودخول المعترك السياسى. أولهم ملحد ، الثانى ينتمى للدعوة الجاهلية أى يستخدم الاسلام سبيلا للوصول السياسى . الأخير مسلم ملتزم بالاسلام يقدره حق قدره ويراه أعظم من أن يؤخذ قنطرة للوصول الى مغنم دنيوى مهما كان. ما هو موقع اليوم الآخر عند كل منهم فى سلوكه السياسىو فى حملته الانتخابية؟
الملحد لا يؤمن باليوم الآخر أصلا .الدنيا هى كل همّه . منتهى أمله هوالوصول الى دائرة السلطة والثروة . وفى سبيل هذه الغاية لا بأس من استخدام أى طريقة مشروعة أو غير مشروعة حتى لو اضطر الى المراءاة بالصلاة والصيام ليخدع "أولئك المتخلفين " ويحوز رضاهم ، فالغاية عنده تبرر الوسيلة.
صاحب الاحتراف الدينى والتدين السطحى المظهرى المنافق هو أبرع من يستخدم الدين فى خداعه للناس. يساعده فى ذلك ايمانه الخاص باليوم الآخر – ليس كما جاء فى القرآن الكريم - ولكن كما جاء فى أكاذيب كتب السّنة حيث مفتريات أحاديث الشفاعة وسهولة دخول الجنة بدون حساب ، أو بمجرد نطق "الشهادتين"، ومن كان فى قلبه مثقال ذرة من ايمان سيدخل الجنة"، وحتى ان سرق وان زنا فسيدخل الجنة رغم أنف أبى ذر !! وحتى لو دخل فى النار سيخرج منها بعد قليل بالشفاعة ويدخل الجنة. وبامكانه أن يطيح فى الأرض فسادا طوال عمره ثم يؤدى فريضة الحج بمال حرام وفى اسبوع واحد فيرجع كما ولدته أمّه مهما سرق ونهب وقتل .تلك الأكاذيب أو" الأحاديث النبوية بزعمهم " خير من يشجعه على اقتحام معترك السياسة بقلب جسور، فيكذب ، ويخلف الوعد، ويخدع الناس ، ويتآمر، ويناور، ويخطط بالايقاع بالآخرين ، وربما يقتل من يقف فى طريقه بحجة أنه نصرانى كافر أو مرتد مستحق للقتل. المهم ألا يضبطوه متلبسا .كل شىء فى شرعه " الشريف " جائز لأن الغاية هنا أيضا تبرر الوسيلة. والغاية لديه هى الوصول الى الحكم ليحكم بالشريعة.الشريعة هنا هى ليس ما قال الله تعالى فى كتابه وطبّقه رسوله محمد عليه السلام ولكنها ما كتبه أئمة السنيين فى أسفارهم المقدسة. فى سبيل هذه الغاية يباح كل شىء .

المسلم الحقيقى هنا نوعان:
النوع الأول مسلم عادى ليس مؤهلا لأن يكون داعية الا انه مخلص فى تطبيق الاسلام الحقيقى على نفسه، وقد دخل المعركة ليس باسلامه أو بشعارات دينية ولكن ببرنامج سياسىواقعى عملى باقتراحات ودراسات ويبانات وخطط .
هذا المسلم الملتزم لا يستطيع منافسة غيره فى المعركة الانتخابية لأنها معركة تستخدم فيها كل الأسلحة، ولكن دينه يقف حائلا بينه وبين استعمال الأسلحة التى يستعملها خصومه، لأنه لا يكذب ولا يخلف الوعد ولا ينقض الميثاق ولا يخدع ولا يظلم ولا يتهم احدا بما ليس فيه ولا يتآمر على أحد، ولا يمكن ان يستجلب رضى الناس بما يغضب رب الناس جل وعلا.
هذا المسلم الحقيقى يؤمن باليوم الآخر ايمانا حقيقيا ينعكس على سلوكه فى تقواه لله تعالى فى السر والعلن وفى تعامله مع الناس على أعلى مستوى من الخلق الكريم. هذه هى وسائله للوصول الى الغاية العظمى وهى الخلود فى الجنة والنجاة من النار. وهى غاية يهون من أجلها كل ما فى الدنيا من متاع زائل .
هذا المسلم الحقيقى يعلم علم اليقين أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا، وهو دائما يتذكر ما سيقوله رب العزة للخاسرين يوم القيامة حين يؤنبهم متسائلا :"( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ؟) المؤمنون 115). لذا يستعد لهذا اليوم بالتقوى فلن يدخل الجنة الا المتقون.
هذا المسلم الحقيقى لا يرضى لنفسه أن يعلو فى الأرض بالاستبداد السياسى وما يتبعه من فساد ، لأن العلو فى الأرض هى طريقة فرعون الذى علا فى الأرض ووصل الى ادعاء الألوهية ( القصص :4 &38 ) ولأن العلو لا يكون الا لله تعالى وحده ، لذا يقال له" جل وعلا" و"سبحانه وتعالى".
أعداء الله تعالى الذين يستخدمون دينه فى تحقيق طموحهم السياسى والدنيوى يهدفون الى العلو بالزور والبهتان. ليس لهم نصيب فى الآخرة طبقا لقوله تعالى:"( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص 83 )
النتيجة النهائية أنه – ذلك المسلم الملتزم عير الداعية – سينسحب من المعترك السياسى.
النوع الثانى: هو مسلم مؤهل للدعوة مشهور بها.
هذا الداعية للاسلام لا مكان له أساسا فى تلك المعركة الانتخابية. فالخصوم يتقربون للناس طلبا لأصواتهم ، والناس عادة لا ترضى بالمصلح الدينى ؛ تستثقل ظله لأنه لا يتحدث الا فى السيئات ولا يحلو له الا التأنيب ولا يعجبه العجب ولا الصيام فى أغسطس أو رجب !! اذن هو مقدما قد رسب فى الانتخابات قبل دخولها، والدليل أن الدعاة الآخرين – فى مجال دعوة الجاهلية - يتقلبون فى النعيم فى كل مكان، تراهم فى القنوات الفضائية يقدمون للناس ما يحبون ، مثل مطربى الكباريهات ومنتجى الأفلام والأغنيات الذين يتبعون منهج :" الجمهور عايز كده " لذا يمدحون الأسلاف ولا يتحدثون الا فى الايجابيات وكل ما يؤكد للمسلمين انهم عال العال وانهم خير أمة أخرجت للناس مهما ارتكبوا من آثام ، وانه طالما ينتظرهم النبى محمد بشفاعته فقد نجحوا فى الامتحان مقدما ، المطلوب منهم فقط التبرع وشراء الفتاوى الجاهزة والمعلبة وحمل أولئك الدعاة فى القلوب وعلى الأكتاف والأعناق والظهور.
صاحبنا الداعية لا يستطيع أن يجارى رفاقه فى دعوة الجاهلية الدينية كما لا يستطيع أن يجارى خصومه الآخرين فى دعوة الجاهلية السياسية ، لذا لا طريق أمامه الا الدعوة الاسلامية وفق شروطها وآدابها . وهنا أيضا تختلف دعوة الاسلام عن دعوة الجاهلية.
3- داعية الجاهلية مصدره الأساسى هو التراث وأكاذيب السّنة ومن خلالها يأخذ من القرآن ما قام التراث بتأويله وتحريف معانيه. الداعية الاسلامى مصدره الوحيد هو القرآن وحده. القرآن هو الحكمة ومنه الموعظة الحسنة .( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )النحل 125) يقول تعالى عن الدعوة بالقرآن ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) ق 45 ) ..( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) ( الأنعام 51 & 70) لاحظ هنا أن الله تعالى وحده هو الولى المقدس وهو الشفيع .
داعية الجاهلية يكتم آيات الله تعالى فيستحق لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين الا اذا تاب واعترف علنا بالتزييف الذى ارتكبه ، يقول تعالى ":إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة 115-116) لاحظ هنا أن الله تعالى يصف كتابه بالبينات ويؤكد انه هو الذى قام بتبيينه أى شرحه ، فشرح القرآن هو فى داخل القرآن لمن أراد الهداية فيه وحده فهو الكتاب المبين وآياته بينات واضحات. والمعنى أنه ما على الداعية الا النطق بالآيات وعدم كتمانها ، فالنطق بالآيات فى الموضوع المراد هو تبيينها أو بيانها ، وهذا معنى البيان فى القرآن . فى الكتب السماوية السابقة قام دعاة الجاهلية بكتمان الآيات أى عدم قراءتها للناس وعدم تقديمها للناس ، فالبيان نقيض الكتمان للآيات البينات كقوله تعالى :(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون ) آل عمران 187 )َ
من أمثلة التطبيق العملى للداعية المسلم فى توضيح عقيدة الاسلام أن يعطى أمثلة صريحة واقعية لمخالفة المسلمين لتلك العقيدة حين بدأوا تأليه البشر بتأليه النبى محمد نفسه برفعه فوق مستوى الأنبياء وتفضيله عليهم ، ثم اضافة التقديس بعدها للصحابة وللأئمة والأولياء، وكل ذلك بالمخالفة للقرآن. الاستشهاد بالقرآن فى هذا الموضوع بتفصيلاته هو البيان العملى للقرآن. تجاهل ذلك والاعراض عنه هو الكتمان للآيات ، وهو ما يستحق لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين.
بالطبع فان من يتصدى لمواجهة الناس بتصحيح عقائدهم لا بد أن تتناوله الاتهامات ، ولن يفكر فى ترشيح نفسه للانتخابات ، ولن يفكر فى طلب الأجر منهم. فالذى يطلب الأجر هو الذى يقول للناس ما يحبون وليس الذى يصدمهم بأخطائهم ويصفعهم بخطاياهم طالبا اصلاحها .
لذا فان الداعية المسلم لا يطلب من الناس أجرا – عكس داعية الجاهلية الذى يسعى فى أخذ الأجر، والنفوذ السياسى هو أكبر أجر يتمناه محترفو الدعوة الجاهلية. الداعية المسلم يتبع طريق الانبياء ، فكل نبى كان يعلن لقومه أنه لا يسألهم أجرا لأن أجره على الله. ولأنه ليس نبيا فان الداعية المسلم يكون أول من يطبق الهداية على نفسه ، يقول تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) يس 21 ) يتحاشي الداعية المسلم أن يكون من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أو أن يكون من الذين يقولوم ما لا يفعلون. ( البقرة 44 ) ( الصف 2-3 )
الداعية المسلم يقول الحق كاملا مباشرة فى وضوح وصراحة و بلا دوران أو تلميح ، وفى نفس الوقت فهو يعرض عن الجاهلين تنفيذا لقوله تعالى :"( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر 94 )"اصدع" يعنى قل الحق صريحا حتى يصدع الحائط أو يفلق الصخر . وفى المقابل يجب تحاشى المشركين والاعراض عنهم.
باعلان حقائق القرآن وتطبيقها على خرافات الدعوة الجاهلية يتحقق مراد الله تعالى فى اظهار دينه طبقا لما جاء فى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) التوبة 33 الصف 9 )، فالمطلوب هو ذلك الاعلان كى يكون شهادة مسجلة بالصوت والصورة وحجة على المعاندين يوم القيامة . لقد كرهوا ذلك فى الدنيا وسيكون عليهم وبالا فى الآخرة . لقد جاء الحق فى القرآن، ولكنهم اتخذوا من القرآن سبيلا للضلال والاضلال بتحريف معانيه وتحكيم أحاديثهم الضالة فيه. فالواقع أن من يرد الهداية بالقرآن يجدها فى القرآن حين يبتغى الحق والهداية مخلصا. ومن يرد الاضلال يستطيع ذلك بالقرآن أيضا حين يكتم الآيات ويحرّف معانيها ويخالف مفاهيم المصطلحات القرآنية . كل ذلك الغش يزول سريعا اذا قام الداعية المسلم بالتوضيح القرآنى. عندها يظهر الحق ويزهق الباطل . فى هذا الموقف يقول تعالى ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) الاسراء 81-82 )
ما سبق هو الدعوة العامة التى يعلنها الداعية المسلم صريحة ، فتنتشر بحمق المشركين الذين يتنادون من كل حدب وصوب للتآمر على الداعية وتناقل أقاويله يريدون فضحه واشاعة النقمة عليه. الا انهم بهذا الحمق يسهمون فى الدعاية له اذ يتشجع عقلاء على التساؤل فى المسكوت عنه، واذا تحركت عجلة العقل فى السير على الطريق الصحيح أصبح صعبا ايقافها ، وأصبح صعبا اقناع العقلاء بما تعودوا قبلا ابتلاعه بدون مناقشة . بالتدريج يتضح المستور وبالبحث يثبت ان العملية كلها أكاذيب وأن الأئمة المقدسين ليسوا سوى أعداء لله تعالى ورسله ودينه ، وان منع النقاش هو للتمهيد لدولة كافرة تقوم على أساس هذا البهتان .
يترتب على هذه الدعوة العامة دعوة خاصة ، اذ يتوافد على الداعية المسلم أصناف شتى من الناس ، منهم المعاند الذى يأتى للجدال فى آيات الله تعالى وللخصام، والله تعالى يأمر بالاعراض عن الجاهلين وعدم مسايرتهم فى الجدال فى آيات الله تعالى ، وهذا موضوع يطول شرحه ولنا معه وقفة قريبة بعون الله تعالى. وهناك من يأتى للداعية المسلم ليناقش ويستعلم ويتعلم فاذا جاءته الآية قال : صدق الله العظيم ، وازداد بالقرآن هداية. مسئولية الداعية هنا ألا يرهق نفسه الا بالتذكرة لمن يخشى فقط أى لمن لديه استعداد ظاهر للهداية. بهذا امر الله تعالى محمدا رسول الله عليه السلام :" مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى .إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) طه 2-3) فليس القرآن لأن تتعب نفسك فى الكلام مع من لا يستحق ، ولكن فقط لوعظ من يخشى الله تعالى. وتكرر هذا المعنى فى القرآن ، ومنه قوله تعالى يحصر التوضيح فقط لمن يستحق دون المعاندين الذين لا فائدة فيهم ولا جدوى من النقاش معهم :" وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ .) يس 10 -11 ) .
داعية الجاهلية يقوم باكراه الآخرين فى دينهم ويتدخل عنوة فى حياتهم وخصوصياتهم زاعما لنفسه سلطة الاهية ما أنزل الله تعالى بها من سلطان .أما الداعية المسلم فعليه فقط أن يعظ من يتوسم فيه القابلية للهداية ، ويرى أن جهده فى التوضيح له سيينفع معه، يقول تعالى : "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ) الأعلى 9 )
الأساس هنا أيضا هو الايمان باليوم الآخر وحرية الانسان فى الاختيار ومسئوليته على اختياره أمام الله تعالى يوم الدين . هذا ما يؤمن به الداعية المسلم لذلك يعتقد انها مسئولية على كل انسان فى البحث عن الهداية والسعى اليها بنفسه اذا تفكر بموضوعية فى سبب الخلق ووجود هذا العالم . أما اذا سيطرت عليه زخارف الدنيا وأنكر حقائق الدين أو اذا اختارالتلاعب بدين الله تعالى ليأكل به ثمنا قليلا فهذا اختياره لمستقبله يوم الحساب ، وتلك مشكلته أمام الخالق جل وعلا ، ويكفيه ما سيلاقيه من عذاب يوم الدين.
كل المطلوب من الداعية المسلم هو اعلان الحق بكل صراحة ووضوح ليكون ذلك حجة عليهم يوم الدين . فى يوم الحساب سيرون شريطا مصورا بالصوت والصورة والألوان الطبيعية قد حفظ كل دقائق اعمالهم الدنيوية ماخفى منها وما ظهر ، وسيتعجبون ويندمون حيث لا ينفع الندم . اقرأ فى ذلك قوله تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ ) الكهف 49 )
ألا يستحق هذا ان نراجع أنفسنا ونرجع الى كتاب الله تعالى ننظف به ما ترسخ فى قلوبنا من أكاذيب ومفتريات ؟
هذا هو أساس دعوة الحق فى الاسلام وأساس اختلافه عن دعوة الجاهلية .
وأنت – عزيزى القارىء - حرّ فيما تختاره لنفسك ، ومسئول عما تختار فالحرية مسئولية.

اجمالي القراءات 24233