خطبتي جمعة
الافتراء على الله تعالى (٢)

عبدالوهاب سنان النواري في الإثنين ٠٩ - يناير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الخطبة الأولی:

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.

تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.

الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين.

هو الذي أرسل رسوله بالهدی ودين الحق ليظهره علی الدين كله.

قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.

كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين.

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون .. تحدثنا في الجمعة الماضية عن: الافتراء على الله تعالى. ورأينا كيف أنه ناتج طبيعي عن الغلو في الدين، حيث يلجأ المغالي إلى اختلاق وصناعة الأكاذيب حسب هواه، ثم ينسبها لله تعالى عبر الأكذوبة الشهيرة: أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية أو أقوال الصالحين. ورأينا كيف أن الأجيال اللاحقة لذلك المفتري تتمسك بتلك المفتريات على أنها كلام الله تعالى، وترفض الاحتكام والاكتفاء بالقرآن الكريم، بل ويصل بها الأمر إلى اتهام الأنبياء أو من يتلون عليهم آيات الله جل وعلا، بالافتراء على الله تعالى، ورأينا كيف أن ذلك كله يقود إلى الشرك. كان الحديث شيقا ولكننا قطعناه نظرا لضيق الوقت وحتى لا نطيل عليكم، وها نحن اليوم بفضل الله تعالى، نستكمل حديثنا عن: (الافتراء على الله تعالى) كما وعدناكم.

لا نشك لحظة واحدة في حقيقة: أن الحق تبارك وتعالى، أرسل خاتم النبيين بالحق بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن الكريم لا غير، لعل الناس يهتدون، غير أن مشركي قريش - كما هو ديدن المشركين في كل زمان ومكان - قابلوا خاتم النبيين بالتكذيب، واتهموه بالافتراء على الله تعالى، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (السجدة ٢-٣) .

يتهمون خاتم النبيين بالافتراء على الله تعالى، مع أنهم يعلمون أنه الصادق الأمين، يتهمونه بذلك لأن القرآن الكريم لا يتوافق من أهواءهم وما وجدوا عليه آباءهم، ولهذا طلبوا من خاتم النبيين أن يأت بقرآن غيره، أو أن يبدل آياته التي لا تعجبهم، كالآيات التي تنفي الشفاعات البشرية، والآيات التي تحرم تقديس الأولياء .. الخ، وكان موقف خاتم النبيين واضحا: بأنه فقط يتبع ما أوحي إليه من القرآن، وأنه لا يستطيع الافتراء على الله جل وعلا، جاء ذلك في قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآيياته إنه لا يفلح المجرمون (يونس ١٥-١٧) .

كذب المشركون بالقرآن الكريم، لأنهم لم يحيطوا بعلمه، ولو أحاطوا بعلمه لعرفوا: بأن هذا القرآن لا يمكن أن يفترى من دون الله، فهو الحق مصدق لما بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه، ومن كان لديه شك في ذلك، فليأتنا بسورة مثله، إن كان من الصادقين، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ، ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (يونس ٣٧-٤٠) .

وكان موقف أهل الكتاب مشابها لموقف مشركي مكة، فحين استبدل الحق تبارك وتعالى، الكتب السابقة بالقرآن العظيم، وهو جل وعلا، أعلم بما ينزل، اتهموا خاتم النبيين بالافتراء على الله، ولأنهم لا يعلمون اتهموه بأن هناك أعجمي يعلمه القرآن الكريم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: وإذا بدلنا ءايه مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين ، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ، إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ، إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون (النحل ١٠١-١٠٥) .

وأعرض فريق من أهل الكتاب عن القرآن الكريم ورفضوا الاحتكام إليه، لأنه لا يتوافق مع مفترياتهم، وفي واحدة من مفترياتهم: وهي أنهم سيعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها، ويدخلون الجنة، وهي كذبة تسللت للتراث الإسلامي عبر ما يسمى بالإسرائيليات، يقول الحق تبارك وتعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيام معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (آل عمران ٢٣-٢٤) .

والدعوات والمزاعم بأن القرآن الكريم من تأليف محمد، لم تنته فهناك الكثير من المستشرقين والملحدين وغيرهم، ممن يرددون هذه المزاعم حتى هذه اللحظة، وعلى هؤلاء أن يبرهنوا على صدق دعواهم بالاتيان بعشر سور مثل سور القرآن، ونحن نعلم مسبقا أنهم عاجزين عن ذلك، وفي هؤلاء يقول الحق تبارك وتعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (هود ١٣-١٤) .

أولئك الذين يفترون على الله الكذب، ملعونين من الله جل وعلا، لأنهم يصدون عن سبيله، ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون، وفيهم يقول الحق تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ، أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرين (هود ١٨-٢٢) .

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالی ملك بر رؤوف رحيم.

قلت ما سمعتم، واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم، ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

كادت جهود المشركين في مداهمة خاتم النبيين، أن تثمر لهم قيام خاتم النبيين بالافتراء على الله تعالى، غير أن رب العزة، تدخل وثبت رسوله، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ، وإذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (الإسراء ٧٣-٧٥) .

إذن فشلت جهود أعداء الله في دفع خاتم النبيين للافتراء على الله تعالى، غير أن شياطين الإنس والجن لم يستسلموا، وقولوا خاتم النبيين بعد موته ما لم يقل. افترى هؤلاء الشياطين أكاذيب وروايات، ونسبوها للنبي، وزخرفوها بكلمات براقة، مثل: حديث حسن، ومتفق عليه، وصحاح .. الخ. فاصغى إلى تلك الأكاذيب من لا يؤمنون بالآخرة حق الإيمان، وصدقوا بأن خاتم النبيين قد قالها فعلا، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (الأنعام ١١٢-١١٣) .

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ظهور دجالين منهم من يدعي النبوة، وأنهم قادرين على أن يؤلفوا كتابا مثل كتاب الله تعالى، ومنهم من يدعي المهدية، ومنهم من يزعم أن الله هيئه ليجمع الوحي المتناثر في مختلف البلدان، ومنهم من يزعم بأنه يتلقى علما لدنيا مباشر من الله تعالى .. الخ. وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون (الأنعام ٩٣) .

ويستمر ويتردد السؤال الاستنكاري في طرح نفسه: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا .. وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ؟ وتأتي الإجابة الزاجرة: بأن أولئك هم الظالمون. وأن الله جل وعلا، سيجزيهم بما كانوا يفترون. وأنه لن يهديهم أبدا. وليسئلنهم يوم القيامة عما كانوا يفترون. وأنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا. وأنهم لا يفلحون أبدا، متاع قليل ولهم عذاب أليم.

فكل ذلك الافتراء على الله تعالى، يأتي بهدف الصد عن سبيل الله، وتغطية حقائق القرآن الكريم، واطفاء نورها، والله جل وعلا، متم نوره ولو كره الكافرون، ونور الله جل جلاله، هو القرآن الكريم لا غير، هو وحده دين الله الذي قُدر له بأن يكون ظاهرا على بقية الكتب، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (الصف ٧-٩) .

وإذن فعلينا (أهل القرآن) أن نصمد أمام كل التحديات والمغريات، التي تهدف إلى ثنينا عن السير في الصراط المستقيم، وارجاعنا إلى حضيرة الشرك والضياع، لسان حالنا: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها. وعلينا أن لا نمل ولا نكل، من الدعوة إلى الاحتكام والاكتفاء بالقرآن الكريم، وأثقين بتأييد الله ونصره لدينه العزيز.

 

ختاما: يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر 60) .

ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا علی رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علی الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا علی القوم الكافرين.

قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله

اجمالي القراءات 9409