خطبتي جمعة
الغلو في الدين

عبدالوهاب سنان النواري في الإثنين ٠٩ - يناير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الخطبة الأولی:

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحان الله عما يصفون.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون.

هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون.

هو الذي أرسل رسوله بالهدی ودين الحق ليظهره علی الدين كله.

قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.

كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين.

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فإن الغلو في الدين هو من جعل الناس ينظرون إلينا على أننا ننتقص من قدر خاتم النبيين، الغلو هو من جعلهم ينظرون إلينا على أننا نتطاول على مقدساتهم، ونسفه أحلامهم، ونهد ثوابت الدين، ونأت بدين جديد ما سمعوا به في آباءهم الأولين. لقد غالى الناس في دينهم بغير الحق، وافتروا على الله ورسوله الكذب، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، ومع مرور الأزمنة المظلمة أصبحت تلك المفتريات والأكاذيب معلومة من الدين بالضرورة لديهم.

وتمسكنا واكتفاءنا بالقرآن الكريم كمصدر وحيد للهداية والتشريع الإلهي، ونبذنا لأكاذيب التراث اللعين، أتى على بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم. تمسكنا واكتفاءنا بالقرآن الكريم طاف على أهواءهم وأطماعهم ومفترياتهم وما وجدوا عليه آباءهم فجعلها كالصريم، وبهذا أصبحوا صفر اليدين أمام ثقافة القرآن العظيم التي ندعو إليها.

وبدلا من أن يكلفوا أنفسهم عناء اليتأمل في حجتنا واستدلالنا القرآني على ما نقول، وبدلا من أن يخصصوا بعض الوقت لتدبر آيات القرآن الكريم وتعلم المنهج القرآني الخالص، سارعوا إلى التعبير عن جهلهم بالسب والتخوين والتفسيق والمزايدة في حب خاتم النبيين.

وهنا دعونا نتساءل: من هو الذي يحب خاتم النبيين حق الحب؟ هل هم أولئك الذين يفترون عليه الكذب، وينسبون إليه الخرافات والأساطير التي تشوه سيرته القرآنية العطره، وتجعله دمويا إرهابيا وشاذا جنسيا؛ أم نحن الذين نبرؤه من كل تلك الأكاذيب والجرائم المنسوبة إليه، ونزيل من على كاهل سيرته العطرة كل ذلك الغلو المختلق؟

لن نجيب على هذا التساؤل المنطقي، كي لا نكون من الذين يزكون أنفسهم، ونترك الإجابة لكل عاقل، بالغ، منصف، مسلما كان أم كافرا؛ ونذهب إلى كتاب الله جل وعلا، لنتدبر ونتأمل الآيات والمواضع القرآنية التي ذكر فيها (الغلو في الدين) .

ورد الغلو في الدين، في موضعين قرآنيين لا غير، الأول في سورة النساء، وفيه يقول الحق تبارك وتعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (١٧١) .

أما الموضع الثاني فقد ورد في سورة المائدة، وفيه يقول الحق تبارك وتعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ، قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ، قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (٧٥-٧٧) .

إذن جاء النهي الإلهي عن الغلو في الدين في هذين الموضعين فقط غير أنهما يحملان الكثير من الرسائل والدروس: كان النهي الإلهي عن الغلو موجها لأهل الكتاب باعتبارهم آخر من حرف وبدل وغالى في دينه، والقرآن الكريم من خلال مخاطبتهم يخاطب العالمين: بأن عليهم ألا يغلوا في دينهم غير الحق. ولو قُدر لكتاب سماوي جديد أن ينزل، لكان خطابه موجها لأهل القرآن: قل يا أهل القرآن لا تغلوا في دينكم غير الحق.

والشيء الآخر، هو أن الحديث عن الغلو في الدين، ارتبط بتأليه أهل الكتاب لنبي الله عيسى، من خلال تعظيمه وتقديسه واعطاءه صفة وصبغة وطبيعة إلهية، فكان كلام الله واضحا: بأن عيسى لا يعدو عن كونه رسول مثله مثل غيره، وذلك بقوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وهو نفس الأسلوب الذي رد به الحق تبارك وتعالى، سلفا ومسبقا على الذين يؤلهون خاتم النبيين محمد، وذلك بقوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل (آل عمران ١٤٤) . وقد ينط علينا أحد بهاليل السلفية بشقيها السني والشيعي، ليقول لنا: ولكننا لا نؤله محمدا. وهنا نقول له: بل تؤلهونه يا فالح. تؤلهونه بأن جعلتموه معصوما، مشرعا، موجودا قبل الخلق، وحيا في قبره، شفيع ومحاسب للناس يوم الدين، وسيدا للخلق .. الخ.

ونترك ذلك البهلول، ونعود إلى استلهام بقية الدروس والعبر من هذين الموضعين، ولكن في الخطبة الثانية.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالی ملك بر رؤوف رحيم.

قلت ما سمعتم، واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم، ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

من الواضح أن الغلو في الدين، يرتبط بالتقول على الله جل وعلا، غير الحق، فالغلو والتعصب يعمي بصيرة الإنسان، فيجعله يتقول على الله جل وعلا، ما لم يقله ولا يرضاه سبحانه، فيخترع الأحاديث ويضع فيها كل ما يلبي رغباته ورغبات أسياده، ثم بعد ذلك ينسبها لله تعالى، ويسميها: أحاديث قدسية، أو يخترع بنفس الحقارة أحاديث وينسبها للنبي، ويسميها: أحاديث نبويه، ويزعم أنها وحي، أي أنها كلام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

والتقول على الله جل وعلا، يعتبر إحدى خطوات ووسائل الشيطان الرجيم لتحريف دين الله جل وعلا، نفهم ذلك من قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (١٦٧-١٧١) .

إذن بالغلو في الدين، يقع الإنسان في حبائل وخطوات الشيطان، فيتقول على الله تعالى، ويفتري عليه الكذب، ويرفض الإكتفاء بما أنزل الله تعالى (القرآن الكريم) ، متمسكا بموروثه المزور الذي توارثه عن آباءه وأجداده، فيصبح ذلك الإنسان كما صوره القرآن الكريم، حمار ينعق بما لا يسمع، أصم أبكم، أعمى، لا يعقل شيئا.

ولهذا تكررت التحذيرات الإلهية، وتكرر تحريم التقول على الله تعالى، في كثير من الآيات القرآنية، لان التقول على الله تعالى، يرتبط بانتشار الفواحش، والإثم والبغي، والشرك، ونكتفي بالإضافة إلى ما ذكرنا، قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (الأعراف ٣٣) .

إذن فالغلو في الدين، يقود الإنسان إلى الكذب والإفتراء على الله تعالى، حسب هواه، ويرث الأبناء والأحفاد هذه الأكاذيب على أنها جزء من دين الله تعالى، ومع مرور الزمن يصبح ذلك الموروث المفترى هو التدين السائد، والمعلوم من الدين بالضرورة، ويجد دعاة القرآن العظيم أنفسهم أمام مغالين ومتعصبين جدد، يستكبرون ويرفضون آيات الله جل وعلا، ويؤثرون عليها ما وجدوا عليه آباءهم، ولها يصبح ذلك المغالي ممن قال فيهم الحق تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون (الأنعام ٩٣) .

 

ختاما: يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر 60) .

ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا علی رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علی الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا علی القوم الكافرين.

قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله

اجمالي القراءات 8520