أزمة مسلمين أم أزمة نخبة؟

سامح عسكر في الجمعة ١٨ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

يُحكى أن اثنين من العلمانيين تشجعا وقررا أن يصلحا من مجتمعها الديني الغارق في الخلافة ودماء الشريعة والحدود، فتكلم الأول عن العدالة السياسية والاجتماعية والحق الطبيعي والديموقراطية وحقوق الإنسان، فلاقت دعوته قبولا حتى تم ترسيخ هذه المبادئ في المجتمع شيئا فشيئا..حتى تشرب الشعب قيم الانفتاح ورأى أن الخلافة والشريعة لم تعد تُرضي طموحه بعدما وجد البديل الأنجع والأفيد..

بينما الثاني أول ما تكلم نطق بكلمة كارل ماركس.."الدين أفيون الشعوب"..فهاجت الجماهير ضده حتى قتلوه ووئد مشروعه الإصلاحي في مهده..

النموذجان ماثلان للعيان في المجتمع العربي، فبين من يؤمن بمنهج ومنظومة فكر ومبادئ إنسانية..وبين ناقد وثائر لا يحمل في جعبته القيم أكثر مما يحمل من مشاعر الرفض، وفي تقديري أن النموذج الأول ساد بين العرب في حقبة التنوير أوائل القرن العشرين..في هذا الزمن تكلم العرب والمسلمين عن الحقوق حتى رأينا من يكتب ويناضل في حق المرأة في وقت كان فيه التعليم لها من المعائب، رأينا أيضا من يكتب في حقوق الأقليات الدينية وأن نموذج الخلافة الإسلامية هو نموذج عقيم ومضاد للشريعة الإسلامية، بل إن الإسلام برمته ليس فيه نموذج حكم..فكان من ثمرة هذا النموذج الأول حقبة تنوير رائعة دامت عشرات السنين وصل فيها العرب إلى العالمية ، أصبح معها الأدب العربي رأسا برأس مع نظرائه في أوروبا وروسيا وأمريكا اللاتينية.

بينما النموذج الثاني هو الذي يسود الآن كرد فعل على شيوع الوهابية التي غزت المسلمين والعرب في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فوقعت الشعوب بين نقيضين الأول إيماني أصولي والثاني إلحادي أصولي أيضا، أزعم فيه أن الصراع الآن ليس صراع نماذج وأفكار في الحقيقة بل صراع رغبات ومطامع وغرائز..

يتكلمون عن العلمانية..وهي فكر ومنهج قد يحمله الصالح والطالح، شأنها كشأن أي فكر.. فيقوم المتعصبون ضدها بحمل خطايا الفاسدين منهم على أنها خطايا للعلمانية..والعكس..أي يقوم العلمانيون المتعصبون بحمل مزايا الصالحين منهم على أنها مزايا للعلمانية..

هذا خطأ وهذا خطأ..

مبدئيا : العلمانية خالية من نظام (الذمة) وأوصاف (الكفر والردة والزندقة) التي يُوصف بها كل معارض للسلطة ولرجال الدين..أي أنها تؤمن بحرية الاعتقاد وتحمي المجتمع من الحروب الدينية

قد تحدث حروب أخرى أيدلوجية مثلا أو بين أعراق وبعضها أو قوميات أو قبائل وعائلات..لكن الحرب الدينية غير موجودة في المجتمع العلماني..بل إذا تشبعت إحدى الشعوب بالعلمانية روحاً وثقافة تصبح محصنة ضد هذا النوع من الحروب والمظالم أجيال متعاقبة..

بل لا أبالغ بقولي أن المجتمع المتشبع بالعلمانية يصير عاشقا للعلوم، والعكس صحيح أي المجتمع الكاره للعلمانية ويخلط بين الدين والسياسة..بين العقائد والمصالح هو مجتمع خطير ومتخلف، وفي تقديري أن تخلف المسلمين بدأ منذ انفتاحهم على الشعوب الأخرى ولم يستفيدوا بعلومهم، انفتحوا على الأسبان في الأندلس ولم نستفيد منهم شيئا، كذلك في فارس ومصر لم يستفيد المسلمون منهم شيئا، وقد روى ابن خلدون في مقدمته أن جيش الصحابي سعد بن أبي وقاص أحرق مكتبات الفرس التي كانت تضم نفائس من العلوم والمعارف العقلية والأدبية بدعوى أن القرآن أهدى منها جميعا..!

نعم العلمانية تشجع على العلم ولا تضع حواجز ضده، فلو كان بن وقاص يدرك معنى العلم لحافظ على تراث الفرس وهمّ بترجمته ونشره، لكن من أين له ذلك والعرب كما وصفهم ابن خلدون بأنهم.."أمة وحشية ليس لهم عناية بالأحكام وكل همهم الرياسة والرئاسة"..وأحوال دول الخليج-أصل العرب-الآن تعكس هذه الحقيقة بوضوح، فجميعهم قبائل متصارعة على السلطة وبأموالهم نشروا الحروب والفتن، وبعقولهم جهلوا العصر وما فيه فأصبحوا في ذيل الأمم لا علم ولا حضارة ولا تمدن..

منذ فترة نشرت كتابي الأخير.."رحلتي من الإخوان إلى العلمانية"..وأوضحت فيه تصوري الكامل للتعلمن وأدبه، واليوم أضيف أن العلمانية ينتهي دورها عند فصل الدين عن الدولة كإجراء ضروري لحماية المجتمع من رجال الدين وصراعاتهم وتكفيرهم للجميع، بعدها يبدأ النموذج الذي اختاره الشعب سواء ليبرالية أو يسارية..اشتراكية أو رأسمالية..دكتاتورية أو ديمقراطية..كيفما تريد وتهوى..

أي أن العلمانية ليست ديمقراطية بالضرورة، فأسس النظام العلماني لا تضع شكلا للحكم، قد يكون الحاكم علماني دكتاتور وقد يكون ديموقراطي...أو علماني اشتراكي وقد يكون رأسمالي...وهكذا 

شخصيا أنا ضد الاستبداد والانفراد بالرأي وأطالب بالمشاركة الديموقراطية كسبيل لتدافع الأفكار ومن ثم الوصول إلى مفاهيم وتعريفات أكثر دقة من أثر التدافع، لذلك يمكن توصيفي .."بديموقراطي علماني"..وهذا الوصف هو أشد خصوم الجماعات الدينية المؤمنة بالخلافة، حيث أن نظام الخلافة يقوم على الحق الإلهي لصالح سلطة الخليفة أي (دكتاتورية ورجال دين معا) وكلاهما على تضاد كامل مع الفكرة التي أؤمن بها عن العدالة..

لكن مع ذلك أؤمن أن الديموقراطية ثقافة قبل أن تصبح شكلا انتخابيا، فالمجتمع المثقف هو وحده الذي يمكنه التشبع بالديموقراطية وفهمها وإدراك آلياتها وأبعادها الاجتماعية والسياسية، لذلك جزء كبير من مشروعي النهضوي يبدأ .."بنقد الموروث الديني"..كوسيلة لتنوير وتثقيف المجتمعات، إضافة طبعا إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة بالتوازي مع مشاريع النقد الذاتي..

العالم العربي الآن ليست فيه ديموقراطية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي لا توجد مشاريع نقد ذاتي وفصل للدين عن الدولة معا وبالتوازي، وكل ما يحدث هو ما يُعرف.."بمتلازمة الجاكتة والبنطلون"..الشهيرة في مسرحية المتزوجون لسمير غانم، فعندما أراد أن يضبط البنطلون القصير والجاكتة الطويلة..خرجت ببنطلون طويل وجاكتة قصيرة...هذا ما حدث مع العرب..فعندما أرادوا نقد الموروث في عصر التنوير والنقد الذاتي بداية القرن العشرين كانوا غارقين في الاستبداد الديني وسلطة بني عثمان، واليوم عندما تخلصوا من الاستبداد الديني وأصبحت السلطة علمانية تركوا النقد الذاتي وأفسحوا المجال للمشايخ..وكأن قدر العرب أن يقعوا تحت رحمة المستبدين ورجال الدين معا..

ولا مناص للفكاك من تلك الرحمة إلا بمشروع اجتماعي وثقافي شامل يقوم عليه ذوي العقول وأصحاب المال معا، يجب نشر فضائيات للتنوير ومواقع ألكترونية وصحف عديدة تتحدث بالعقل لا بما يريده أصحاب الجريدة أو الممولين لها

الشيوخ ورجال الدين يكرهون العلمانية لأنها:

أولا: تحط من منزلتهم الاجتماعية وتضيع من فرصهم السياسية ونفوذهم في الحكم والسيطرة

ثانيا: من اسم العلمانية.."نشر العلم"..الذي يعني هنا العلوم التطبيقية والبرهانية كالفيزياء والهندسة والكيمياء، وقد ظهر المصطلح في زمن صارت فيه التجربة هي المعيار الأول والأهم للعلوم، وبالتالي أصبحت غيبيات الشيوخ ورجال الدين ليست بعلم..وكلما افترقوا في الأمور العقائدية والنظرية اقتربوا من تلك الحقيقة بجلاء..

نعم الدين كمعتقد هو فكرة نظرية قد تهتم بالتوحيد أو التعدد ويسلك في ذلك رجال الدين للبرهنة على صحة معتقداتهم فقط من وجهة نظر عقلية وليست تجريبية، بينما العصر الذي نعيش فيه تجريبي، والعلمانية-كلفظ- ترفع من أسهم ذلك العصر وتطالب بأن يكون المعيار الأوحد للعلوم هو التطبيق أو قابليته على الأقل

المسلمون مطالبون بإعادة النظر في دينهم وتجريده من أي رغبة سياسية سلطوية أو طريقة حكم باسم الله..هذا إن لم يحدث سيقضي على كل الفرص لإعادة إنتاج دينهم بشكل جديد يتسق مع روح العصر ويتماشى مع عقل الإنسان الحديث، وما موجات الإلحاد التي تحدث الآن –من خلفية إسلامية- إلا رد فعل لطغيان الجانب السياسي على الإسلام، بل وإقرار معظم المشايخ والجمهور المسلم بذلك كحقيقة دينية لا تقبل القسمة على اثنين.

صحيح لقد جعل المسلمون نبيهم مجرما من حيث لا يشعرون، كذبوا وأشاعوا أنه قتل 700 نفس بين نساء وأطفال من يهود بني قريظة، هذه جريمة حرب لو فعلها النبي اليوم-حاشا لله- لتم تقديمه لمحكمة العدل بلاهاي وأصبح بجوار ميلوسيفيتش وبقية سفاحي القرن العشرين، فهل يفطن المسلمين إلى هذه الحقيقة أم سيظلوا ينكرون بغباوة ما هم عليه من التيه والإفك حتى ينقضي دينهم وتصبح فيه الكعبة –مستقبلا-مزار سياحي يدخله الراغبون بتذاكر ويقال لهم.."كان يوما ما هنا إسلام"..!!

اجمالي القراءات 7454