الفراغ الإبستمولوجي عند سلف المسلمين

سامح عسكر في الثلاثاء ٠٨ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

توفى النبي محمد عام 633 م ولم يكن العرب حينها على قدر من المعرفة يمكنهم من فهم ما جاء به النبي من أطر وتعاليم، ويبدو أن الفترة التي عاشها بينهم لم تكن كافية لخلق حالة معرفية لديهم.. حتى شاع الكذب والانحراف عن المنهج..

فقد استحكمت فيهم نوازعهم وشاعت بينهم الرغبات والمطامع وتصارعوا على السلطة للحد الذي كفروا بعضهم بعضا ، وضاق لديهم الدين إلى أن لم يتجاوز حدود الفرد وشخصيته، والسبب أنهم نظروا للدين (كحالة سلطوية) تصبح فيها السياسة هي الدين، إلى أن تحول الدين إلى دولة ..ثم إلى سياسة ومصالح ما زال المسلمين يعانون من هذا التحوّل إلى الآن.

كان يجب على المسلمين الأوائل تجريد دولة الرسول من حالتها الدينية إلى حالتها السياسية واعتبارها مجرد (تجربه حكم) لا دولة تنطق بالحق الإلهي، ومع افتقارهم للعلوم الإبستمولوجية-التي لم تكن ظهرت في ذلك الزمن- كعلم النفس والاجتماع والتاريخ ومقارنة الأديان ..خلطوا بين دينهم والأديان الأخرى، ونظروا للدين بمنظورهم الداخلي على اعتبار أن الشخص منهم كان هو الدين وما يقوله هو الحق الإلهي..حتى انشق المسلمون إلى فرق ليست فقط سياسية ولكن أيضا دينية حتى اختزلوا المعرفة الإبستمولوجية في علم واحد فقط وهو علم .."الملل والنحل"..أو ما أسميه علم.."التكفير والكذب"..فأقل ما يقال عن هذا العلم أنه النقطة الأولى في بحر افتراق المسلمين وتكفيرهم لأنفسهم.

من هنا كان الفراغ الإبستمولوجي عند سلف المسلمين وتأثيره الذي جعل مقلديهم من التيارات السلفية والصوفية والشيعية تعاني من نفس الفراغ، حتى جاء عصر التكنولوجيا ووضح الفارق الرهيب بين الإنسان المعاصر وعلومه وبين مذاهب المسلمين..للحد الذي تحولت فيه مذاهب المسلمين إلى تاريخ قديم يليق فقط بالمتاحف ويتغنى به المرضى النوستالجيون، والمرضى الآخرون المغرمون بدماء وكرامة الإنسان 

كان لشيوع التقليد للسلف أثره في غياب منهج تفكير مسلم يستطيعون به تصور الحياة والكون على أسس علمية، كذلك أثر غياب المنهج في كيفية تعاملهم مع القرآن ، حتى تحول هذا الكتاب-القرآن- إلى كتاب مبروك فقط يقرأونه لجلب الحسنات ولا يهمهم ما فيه ولا العمل به، يكفي تقليد السلف في كل شئ حتى في وضعيات الأكل والشرب والنوم والمعاشرة..بعدها تحول الدين إلى مجرد أقوال وفتاوى أئمة أخذوا دور كهنة الأديان الذين أفسدوا المجتمعات وجعلوها رهينة لأطماع الحكام، والآن يكفي فقط أن تعارض السلطة في مصر حتى ينبري لك شيوخ الأزهر يتهموك بالزندقة وإشاعة الفوضى والكفر ، أو أن تعارض آل سعود في شبه الجزيرة حتى ينبري لك شيوخ المملكة ويتهموك بنفس التهمة....

والسبب في تصدر رجال الدين دفاعهم عن السلطة هو هذا الفراغ الإبستمولوجي الذي اكتسبوه بالوراثة من تقليدهم لسلفهم الأول، فالحرية عندهم أصبحت فوضى، والمعارضة لديهم كفر بالأساس، ومن يطلع على فترة تكوين دولة الخلافة الراشدة أو الأموية أوالعباسية سيجد تشابه -أو تطابق- إلى حد الغرابة بين ما كان يفعله شيوخ البلاطين الأموي والعباسي وبين ما يفعله شيوخ البلاطين المصري والسعودي..مع الفارق

كانت أول محاولة لملء هذا الفراغ الإبستمولوجي مرحلة ما تسمى.."بالفتوحات الإسلامية"..أو الغزوات، والسبب أنها صنعت احتكاك مباشر للعرب مع شعوب مصر والشام وأفريقيا وفارس والأندلس، وربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة لتلك الغزوات التي سجلها التاريخ الإسلامي ونقلها كعظائم وأمجاد، بينما نقلها تاريخ غير المسلمين كمظالم وجرائم، وقد لوحظ أن شعوب مصر وفارس بالذات لم يكتسبوا طبائع العرب ولم ينخرطوا في الغزوات العربية في ذلك الحين-من القرنين 1 : 3 الهجري تقريبا-حتى أن المصريين ما زالوا محتفظين ببعض ثقافاتهم وعاداتهم الموروثة منذ زمن الفراعنة وطباعهم وتسامحهم السلمي الذي لم يستطيع الغازي العربي التأثير عليه إلى الآن.

وفي الأندلس اكتسب العرب طباع الأسبان وبقايا حضارتهم الموروثة منذ عهد الإغريق والرومان حتى صارت الأندلس مشعل تنوير عربي وإسلامي لعدة قرون، وللعلم أن ما أنجزه العرب في الأندلس من حضارة يشهد لها العالم -ببناياتها وهندستها القائمة إلى الآن-لم يكن له أن يكون لولا التواصل الثقافي الذي حدث بين العرب والأسبان (1) وإلا ما الذي أحدثه العرب من عمران قبل هذا التواصل؟

الحال يختلف قليلا مع مصر ، فالمصريون كانوا تحت الاحتلال الروماني الذي أخذ الصبغة المسيحية منذ عهد قسطنطين ومقررات مجمع خلقدونية في القرن الثالث الميلادي، وفي التاريخ أن أقباط مصر انشقوا بين مؤيد ومعارض للغزو العربي، ولم يستشعر المصريون بخطورة هذا الغزو إلا بعد عشرات السنين فحدثت ثورتي الأقباط البشموريين الأولى والثانية، وفي تقديري أن تلك الثورات لو تقدم زمنها إلى عهد ابن العاص لتغير التاريخ، ولكن يبدو أن زمن قيرس-أو المقوقس- كان عصر اضمحلال مسيحي روماني بالفعل والدليل أن العرب لم يكتفوا بمصر بل طالت غزواتهم الشام وبقية ساحل المتوسط الأفريقي.

هذه البيئة المصرية في عهد ابن العاص كانت تعني قطيعة إبستمولوجية أخرى بين الأقباط وسلف المسيحيين الأول، وعلى إثر هذه القطيعة استسلموا للغازي العربي بدون أن يفكروا حتى في طبيعة تلك الغازي وهل هو متحضر أم لا؟ فامتزجت الحالة المصرية بين فراغين (إسلامي ومسيحي) لم يسفر عن حضارة مستقلة ، والدليل أن العرب لم ينجزوا في مصر ما أنجزوه هندسياً في الأندلس من مدارس ومساجد وقلاع وبنايات مميزة.

وكل ما يملكه المصريون الآن من بقايا تحضر موروثة منذ عهد الفراعنة ، الذي كان الدين لديهم لا يعني (الحرب) بينما الدين عند العرب هو معركة عسكرية بالأصل.. لها صفات توسعية ونوازع إمبريالية ما زالت أسرات آل سعود وإمارات وممالك الخليج تتمتع بها إلى اليوم..كذلك يختلف المصريون عن العرب كونهم ما زالوا يتعاملون مع الدين بثنائية (الروح والجسد) مما أشاع بينهم الرؤية الصوفية وحبهم للرقص، بينما العرب في شبه الجزيرة يرون الدين بمنظور الجسد فقط وهو منظور (اختزالي) جامد يتيح لهم رؤية الدين بطريقة (شكلية) لا مضمون لها أو روح.

وفي تقديري أن العنف الديني يتغذى على هذا المنظور(الاختزالي) فكل فكرة أو سلوك ديني (شكلي) له تفسير واحد لا يقبل القسمة على اثنين..فاللحية والسواك والجلباب والنقاب والذكر والدعاء بصوت مرتفع مثلا..كل هذه سلوكيات دينية شكلية لها تفسير واحد فقط وهو أنها من صميم الدين..والسبب أن المنظور نفسه اختزالي شكلي.. فتظل دائرة الاختزال تضيق وتضيق إلى أن تجعل الدين في طريقة النوم أو الجلوس أو حتى المعاشرة كما سلف ذكره..وهذا يردنا إلى الأصل أنه لولا الفراغ الإبستمولوجي الذي عانى منه سلف المسلمين ما تركوا أي مساحة لهذا الاختزال أن يحدث..ولرأى المسلمون دينهم كما يرى البوذي دينه..أنه وسيلة فقط للارتقاء وبلوغ السمو الروحي والعقلاني..أو ما يسمونه في الصين (بالاستنارة)..

نعم بوذا نفسه- أو المعلم كما يطلقوا عليه-كان نموذج إبستمولوجي صيني دعا للتفاعل بين الإنسان ونفسه وبين الحيوان والنبات والسماء حتى الأسماك في البحار كطريقة تفكير فلسفية شاعت في عهده وعرف بها حكماء الصين، فاكتسب الصينيون مزيجا من الروح والعقل والجسد..جراء تفاعلهم مع الكون والأشياء، حتى تفوقوا على العرب والمصريين في زمن ابن العاص، وأنشأوا حضارة عظيمة لا زالت معارفها العقلية سائدة إلى اليوم في الصين، حتى إذا ذكر الإنسان الصيني ذكرت الاستنارة أو بلوغ المقام العقلي والروحي والمادي الذي بلغه بوذا المشهور بالنيرفانا.

والنيرفانا حالة بوذية تصف حال المعلم بوذا بعد أن أطفأ نيران.."الشهوة والحقد والجهل"..في جلسته الشهيرة المصور بها في معابد البوذيين، تأملوا على ماذا ثار البوذيون..على الشهوة (الجسد) وعلى الجهل (انتصارا للعقل) وعلى الحقد (انتصارا للروح) وبالتالي أحيوا مكارم وفضائل الإنسان، لذا تعد البوذية أحد أكثر الفلسفات والديانات اهتماما بالعقل والأخلاق، حتى أن بوذا نفسه لم يكن اسمه كذلك بل .."سيدهارتا جوتاما"..أما بوذا فهي كلمة هندية قديمة تعني الاستنارة أو الاستيقاظ ووصف بها المُعلّم بالمتيقظ من الخطايا والشرور..

هكذا وصل الصينيون الأوائل دينهم بالإبستمولوجيا فعاش دينهم ما يقارب الآن من 2500 عام، ولم يتحول دينهم يوما ما لسياسة أو لطريقة حُكم أو رغبة للسيطرة والهيمنة، وعاشوا طوال هذه الفترة ولم يجاوزا دينهم الفرد والجماعة المستنيرة فحسب، لم يعتدوا على أحد باسم الدين ولم ينشروا الخرافات..بل حتى لم ينسبوا جهلهم بالتكنولوجيا لبوذا وسعوا لاكتساب تلك التكنولوجيا أول ما ظهرت، وهذا يفسر سرعة تجاوب الصينيين مع العصر والعلم ، لكن تبقى طريقة الحكم هناك منفصلة وخطايا الماركسيين مهما كانت لم تكن باسم الدين..

كذلك فالمعرفة الأخلاقية عند بوذا اهتمت بالمساواة ولم تعترف بالطبقية الهندوسية في رحلة التناسخ، رغم أن بوذا نفسه كان من الأثرياء لكن ثار على ظلم الإقطاعيين وطالب بأن يكون معيار التفاضل فقط هو بلوغ النيرفانا، أي التكامل بين الروح والعقل والجسد، وهو في الأخير (معيار سلوكي) لا يهتم إلا بمن يصدق أفعاله أقواله ..وأن يكون إيجابي ينهض بنفسه وبمجتمعه دون المساس بحقوق الآخرين..

إن ما قرره بوذا من معرفة إبستمولوجية كانت.."طريقة تفكير"..تضمن عدم الظلم والجهل والشهوة..وذلك عن طريق التفكير الدقيق والتأمل الصوفي (2) وفي التفكير الدقيق إشعال لقدرات الذهن في الإحاطة والإدراك والشك..بينما في التأمل الصوفي إعلاء للشعور الأخلاقي والوجدان الإنساني، وفي تقديري أن ما أضيف للإبستمولوجيا حديثاً كعلوم الفيزياء والبيولوجيا والنفس وغيرها لم يتصادم عمليا مع قواعد البوذية، لذلك أتفهم بعض الأقوال التي تدعي أن البوذية هي الأقرب لعلماء العصر من كل الأديان كمعتقد يحض على الفضيلة وعلى اكتساب العلم..

أتخيل أن سلف المسلمين الأوائل كانوا مثل بوذا لم يهتموا بالسياسة والدولة قدر اهتمامهم بالعلم والأخلاق..أتصور أن التاريخ كان سيتغير وليُصبح المسلمين الأوائل نموذج يُحتذى به ضمن كل الأسلاف، وقتها لن نرى داعش أو القاعدة أو الإخوان، لن نرى سنة وشيعة يتصارعون على الإمامة منذ 1400 عام، لن نرى حمقى ينكرون كروية الأرض أوصعود الإنسان للقمر.. أو شيخا يطالب بأسر الشعوب لحل مشكلة الاقتصاد..أو شيخة تُجيز لقائد المسلمين الاستمتاع بأسراه من النساء وإذلالهن جزاء لضعفهن أمام القائد المُلهم والناطق بالحق الإلهي..!

إن المسلمين لم يتسقوا مع أنفسهم حين سموا حقبة ما قبل رسالة الإسلام (بالجاهلية) إذا يتطلب ذلك تسمية مرحلتهم (بالعالمية) نسبة إلى العلم الذي جاءوا به، والعلم هنا يعني المعرفة ..يعني الإبستمولوجيا التي تمكنهم من التميز حقاً عن الجاهلية، ولكن فور وفاة النبي مباشرة ترى أنهم قد عادوا إلى جاهليتهم الأولى يشنون الحروب على الدين وعلى المصالح وأقل الأسباب..بل أخذوا من الأديان والأمم ونشروا خرافاتهم حتى أصبحت سمة مميزة لهم عن بقية الأقران..

لم يضيفوا للبشرية أي شئ حتى من أضاف منهم علما أو نفعا اتهموه بالكفر والزندقة، ولنا في ابن رشد والفارابي وابن سينا والكندي وابن حيان وغيرهم نموذج، حتى أصبح دينهم على تضاد مباشر مع العلم، وكلما ظهر شئ جديد أو معرفة جديدة كرهوها وأخذوا موقفا منها، وإلى اليوم بات من المؤكد استحالة أن يتحضر المسلمون إلا بالقطيعة الإبستمولوجية التامة مع سلفهم الأول..ينفضون بها غبار السنين وجمود الفكر وتخلف العقل، وأن يعيدوا صياغة دينهم بطريقة جديدة تمكنهم من قراءة العالم..ليس لأن يصبح دينهم مقنعا..على الأقل أن يحموا أنفسهم من أنفسهم بعد أن صار الإسلام –الآن-هو الخطر الأول على المسلمين..


هوامش

1- الإسلام والخلافة العربية للمستشرق الروسي.."فاسيلي بارتولد"..المتوفي عام 1930 ضمن أعماله الكاملة ص 227

2- أديان العالم للدكتور :هوستن سميث ص 141

اجمالي القراءات 7527