خطبتي جمعة
خليل الله (1)

عبدالوهاب سنان النواري في السبت ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

الخطبة الأولی:

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل.

الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوی علی العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع.

 

هو الذي أرسل رسوله بالهدی ودين الحق ليظهره علی الدين كله.

قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.

كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين.

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فسنتناول في هذه الساعة المباركة، شخصية نبي الله إبراهيم (عليه السلام) ، لنستلهم منها الدروس الإيمانية والتوحيدية والمنطقية والفلسفية. وشخصية بني الله إبراهيم، من أعظم الشخصيات النبوية وأشجعها وأكثرها إثارة للجدل، إلی درجة أن يتخذه الحق تبارك وتعالی (خليلا) ، مؤكدا سبحانه بأنه لا يوجد علی وجه الأرض من هو أحسن دينا ممن اتبع ملة إبراهيم، جاء ذلك في قوله تعالی: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (النساء 125) .

شخصية زعم المشركون واليهود والنصاری: أنهم منها وأنها منهم، مما استدعی نزول العديد من الآيات القرآنية التي تفند مزاعمهم، موضحة حقيقة الأمر، مبينة من هم أولی الناس بهذه الشخصية العظيمة، ونكتفي بقوله تعالی: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، إن أولی الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولي المؤمنين (آل عمران 67-68) .

رجل يصفه الحق تبارك وتعالی في عدة آيات قرآنية، بأنه: أواه، حليم، منيب، وبأنه رجل كأمة، اجتباه سبحانه وهداه إلی صراط مستقيم، وءاتاه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة من الصالحين، ثم أوحی إلی خاتم أنبياءه أن يتبع ملة هذا الرجل، جاء ذلك في قوله تعالی: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلی صراط مستقيم ، وءاتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الأخرة لمن الصالحين ، ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (النحل 120-123) .

فما هو السر خلف هذه الشخصية التي حازت كل هذا المجد والشرف؟

الآيات السابقة ليست كل شيء، والمتأمل فيها يجد بعض الإجابات عن تساؤلنا، بأنه كان قانتا لله، شاكرا لأنعمه جل وعلا، مسلما لله سبحانه، خارجا عن قطيع الضالين. وقد وضح الحق تبارك وتعالی خلاصة ملة إبراهيم، التي تعني الذوبان في الله جل وعلا، وعدم الإشراك في تقديسه وحبه وعبادته أحدا، وذلك حينما أمر خاتم أنبياءه باتباعها، نفهم ذلك من قوله تعالی: قل إنني هداني ربي إلی صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء (الأنعام 161-164) .

كل هذا الشرف الذي حازه الخليل إبراهيم، لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة إجتيازه الإمتحانات الإلهية التي خضع لها بكل جدارة، بأن أسلم نفسه لرب العالمين، ليصبح من السفه بعد ذلك علی الناس أن لا يتبعوا ملة هذا الرجل، نفهم ذلك من قوله تعالی: وإذ ابتلی إبراهم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ... ومن يرغب عن ملة إبراهم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الأخرة لمن الصالحين ، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (البقرة 124- 131) .

ودعونا نتتبع الحياة الإيمانية والمنطقية والفلسفية لخليل الله إبراهيم، من خلال القرآن الكريم، بحثا عن العبر والدروس، فهي حياة حافلة بالأحداث والمواقف المدهشة. تفجرت مواهب خليل الله، في مجتمع جاهلي يعبد الحق تبارك وتعالی، ولكنه يقدس إلی جانبه ومن دونه، أولياء يتخذهم أندادا وشفعاء ومشرعين، يتوسلون ويتقربون بهم إلی الله تعالی، ويصنعون لهم الكثير من الكرامات الخرافية .. الخ.

تقص علينا سورة مريم، ذلك الحوار المنطقي النابع عن إيمانا وعلم راسخ، حوار دار بين إبراهيم وأبيه لا غير، قال تعالی: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ، قال أراغب أنت عن ءالهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسی ألا أكون بدعاء ربي شقيا (41-48) .

وتقص علينا سورة الأنعام، ذلك الجدل الفلسفي الذي دار بين خليل الله، وبين أبيه وقومه، وهو جدال يدل علی أن عبادة الكواكب كانت أيضا منتشرة في عصره، إلی جانب تقديس قبور وأوثان وأصنام الموتی، قال تعالی: وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ، وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ، فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين ، فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال اتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ، الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ، وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم علی قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (74-83) .

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالی ملك بر رؤوف رحيم.

قلت ما سمعتم، واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم، ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

إذن نزع خليل الله، من قلبه الخوف، بعد أن إمتلك الحجة والبرهان، وأعلن عداوته لكل ما يقدس من دون الله جل وعلا، وضع موروث الآباء والأجداد تحت قدميه، وإكتفی بالله وحده لا شريك له، جاء ذلك في قوله تعالی: واتل عليهم نبأ إبراهيم ، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ، قال هل يسمعونكم إذ تدعون ، أو ينفعونكم أو يضرون ، قالوا بل وجدنا ءاباءنا كذلك يفعلون ، قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وءاباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ، واجعل لي لسان صدق في الأخرين ، واجعلني من ورثة جنة النعيم ، واغفر لأبي إنه كان من الضالين ، ولا تخزني يوم يبعثون (الشعراء 69-87) .

ودائما ترتبط بتلك الأوثان والأنصاب مصالح اقتصادية، فتصبح حياة كثير من المشركين معتمدة علی المواسم الشركية، مثل مناسبة مولد أو مصرع ذلك الولي بن الولي، وما يتحصله المشركون من مبيعات لتماثيله وصوره وشعاراته وأعلامه، ناهيك عن عملية البيع والشراء التي تزدهر حول تلك الأوثان، بالإضافة إلی ما يتم جمعه من نذور وهدايا لذلك الميت .. الخ. لذلك يخاف المشركون من ضياع مصالحهم وأرزاقهم، وقد نبه الخليل قومه إلی هذا الجانب، مؤكدا لهم أن رزقهم بيد الله جل وعلا، جاء ذلك في قوله تعالی: وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (العنكبوت 16-17) .

إذن كان خليل الله، صدق وإخلاص وتسليم، ولا أدل علی هذا التسليم والإخلاص من ذلك الاختبار الرهيب، الذي نجح فيه بإمتياز، اختبار ذبح ولده الذي رزق به علی كبر من السن، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أری في المنام أني أذبحك فانظر ماذا تری قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، فلما أسلما وتله للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم ، قد صدقت الرءيا إنا كذلك نجزي المحسنين ، إن هذا لهو البلاؤا المبين ، وفديناه بذبح عظيم ، وتركنا عليه في الأخرين ، سلام علی إبراهيم ، كذلك نجزي المحسنين (الصافات 102-110) .

 

ختاما: يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر 60) .

ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا علی رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علی الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا علی القوم الكافرين.

قوموا إلی صلاتكم يرحمكم الله

اجمالي القراءات 7770