حين يحكم الرعاع : بين الاستبداد الملكى والاستبداد الجمهورى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٢ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

حين يحكم الرعاع : بين الاستبداد الملكى والاستبداد الجمهورى

أولا :

1 ـ المقصود بمصطلح ( الرعاع ) هنا هو الحضيض الأخلاقى ، من النفاق والجهل والغوغائية والنذالة والخسّة والخنوع للقوى والتجبر على الضعيف . ليس على الاطلاق وصفا للفقر ، ففى معاناة الفقر تجد النبلاء والكرام وذوى الشهامة والعقلاء وأصحاب الضمائر الحية . هذه الأخلاق العالية لا ترتبط بالحالة الاقتصادية ، ولا ترتبط حتى بالنسب والوراثة فبين أفراد الأسرة الواحدة تجد الأخ اللئيم وله شقيق كريم ، وقد يكون الأب صالحا والأبناء سفلة . فى إعتقادى أنه إختيار شخصى ، كل فرد بلغ سنّ الرُّشد يقرر طريقه فى الحياة ومستوى الأخلاق الذى يرتضيه لنفسه ؛ أن يكون من النبلاء أو من الرعاع أو أن يرقص على السلم لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء .! .

2 ـ تأتى لحظة أو لحظات الاختيار أو الاختبار فى موقف البحث عن الرزق. من الناس من يسوّغ لنفسه الحصول على المال بأى طريق على حساب كرامته وأخلاقه ، ومن الناس يبحث عن الرزق بشروطه ، فيبتعد عن الحرام ، ولا يُهين نفسه فى سبيل المال ، موقنا بأن الرزق مضمون من لدن الله جل وعلا ، وعليه أن يحصل عليه بالحلال وأن ينفقه فى الحلال . ومن الناس من يعيش غافلا عن هذا وذاك.

  3 ـ والسُّلطة والثروة وجهان لعملة واحدة . صاحب السلطة يجمع بها الثروة ، وصاحب الثروة يسعى لحماية ثروته بالتقرب لأصحاب النفوذ . وفى قمة السلطة ( حيث الحكم والحكومة ) تتعانق السلطة والثروة من المركز ( العاصمة / قصر الحاكم ) الى أصغر قرية ( العمدة / شيخ الخفر ). والعادة أن تتدخل دولة الاستبداد فى تفصيلات الحياة للمواطن ، من شهادة الميلاد وشهاد الدراسة والزواج  والوفاة الى تقارير الأمن والدخل والأسعار والتوظيف والسفر للخارج. ورُخصة من صاحب النفوذ تجعل الفقير ثريا ، وتصريح رسمى بالبناء او الاستيراد يجعل المدين مليونيرا، ويجعل المليونير بليونيرا . والفلاح المصرى يضطر الى أن يتعامل مع (الدولة العميقة ) فى المدرسة والمسجد والرى والصرف والدورة الزراعية والضرائب والجمعية الزراعية والشرطة والتجنيد والتأمين والسجل المدنى ، ويديرها ملايين من   الموظفين يملكون السلطة ويجنون بها الثروة.  

4 ـ والسلطة المستبدة فى دول الشرق الأوسط أغلبها جمهوري ، وأقلها ملكى . وفى موضوعنا عن ( الرعاع ) نجدهم يحكمون فى النظام الجمهورى بينما يقل ظهروهم فى الاستبداد الملكى . لماذا ؟

5 ـ فى  النصف الأول من القرن الماضى كان النظام الملكى هو السائد تحت سيطرة إستعمارية ، قامت ثورات وانقلابات أقامت جمهوريات فى مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا وتونس والجزائر..الخ ، وصمدت النظم الملكية فى الخليج والاردن والمغرب . فى ظل النظم الجمهورية أنتشر الرعاع وحكموا بينما يقل تأثيرهم فى النظم الملكية . أيضا .. لماذا ؟

ثانيا : الفيصل هو تداول السلطة

1 ـ يوجد نظام ثابت لتداول السلطة فى النظم الديمقراطية بالانتخاب وتوازن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وحكم القانون وحرية الاعلام والثقافة ، ولكن تداول السلطة فى الشرق الأوسط   يتراوح بين كونه مشكلة فى النظم الملكية إلى أن يصبح كارثة فى النظم الجمهورية .  ولهذا دخل فى مدى ظهور وتحكم الرعاع .

2 ـ فى النظم الملكية الوراثية كانت وراثة الحكم ـ ولا تزال ـ مشكلة المشاكل منذ تولى يزيد بن معاوية الخلافة  بالوراثة ، وقد ترتب عليها كوارث كربلاء وإنتهاك حرمة المدينة وحصار الكعبة وحرقها وسقوط الحكم الأموى خلال الفتنة الكبرى الثانية والتى أفردنا لها مقالات هنا . إلتأم شمل الأمويين بتولية مروان ابن الحكم على أن يكون ولى عهده خالد بن يزيد بن معاوية ثم يليه عمرو بن سعيد الأشدق . ظهر بهذا لأول مرة ولاية العهد لاثنين ، أسقط مروان هذا الاتفاق وعزلهما وجعل ولاية العهد لابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز . وصارت عادة أن يتولى الأخ فيعزل أخاه ويولى إبنيه ، ويتولى الابن فيعزل أخاه ويولى ابنيه ، وأدى هذا النظام الى سقوط الدولة الأموية وإضعاف الدولة العباسية ، وظلت مشكلة فى الدولة الفاطمية ثم الأيوبية. وإخترع العثمانيون طريقة فظيعة لإنهاء التنازع بين الأمراء ، هى أن يقتل السلطان العثمانى الجديد كل أخوته . العهد لإثنين حدث فى المملكة الاردنية ، تولى الملك حسين وكان أخوه الحسن ولى عهده ، وطبقا لنفس العادة عزل الملك حسين ــ قبيل وفاته ـ أخاه الحسن وولى إبنه عبد الله . وضعت الأسرة السعودية نظاما لوراثة الحكم بين ابناء المؤسس عبد العزيز . ولم يخل الأمر من قلاقل ، وتفاقمت بوصول أحفاد عبد العزيز الى ولاية العهد ، فظهر العهد لإثنين كما كان سابقا فى العصور الوسطى . هذه القلاقل الحالية فى وراثة الحكم الملكى تظل داخل الأسرة الحاكمة ، ولا تصل الى الشعب لأن الشعب لا فارق كبيرا عنده بين هذا أوذاك . على أي حال ، تظل العائلة المالكة تحمل فى أحشائها هذا المغص الى أن تنهار بمؤثر داخلى أو خارجى .

3 ـ وإنهارت النظم الملكية فى مصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق ، وقامت فيها جمهوريات عسكرية وحزبية مختلفة التوجهات ، ولكنها إتفقت فى إعلان الجمهورية ومارست تحت هذا الشعار إستبدادا ، وصل فى النهاية الى أزمة ـ وليس مشكلة ــ تداول أو وراثة السلطة .

4 ـ المفترض أنّه ألّا توارث فى النظام الجمهورى الحقيقى . لذا توجد فى النظم الجمهورية الديمقراطية رؤساء سابقون يعيشون حياة عادية . هذا على العكس فى الجمهوريات الاستبدادية ، فالرئيس فيها فى الحكم أو فى القبر أو السجن أو المنفى : ( صدام ، القذافى ، مبارك ، بن على ) . المستبد الجمهورى يترسخ فى الحكم ويترسخ فى الفساد ، ولكى يحمى نفسه وأسرته وما سلبه من بلايين لا بد ان يولى ابنه أو أقرب الناس اليه بعده .

5 ـ النموذج المصرى فريد . بدأ النظام الجمهورى فيها مزدهرا واعدا ، أعطى الخبز والعدالة الاجتماعية مقابل الاستبداد ، فأضاع الاستبداد إنجازات عبد الناصر ، وتولى السادات نائبا لعبد الناصر فتآمر على عبد الناصر وقتله بالسم ، وتولى مبارك نائبا للسادات فتآمر على قتل السادات ، وتولى مبارك فرفض تولية نائب بعده حتى لا يلقى مصير من سبقه ، وترسخ فى الكرسى . وفى أواخر عهده تحيّر بين التوريث لابنه والتمديد .

6 ـ وفى فترة التّيه هذه ترسّخ رؤساء جمهوريون فى السلطة من حافظ الأسد وصدام والقذافى ، وأخذ كل منهم يجهز ابنه لوراثة الحكم . وانتهى الأمر بثورات وسقوط  المستبد الجموهورى وحروب اهلية. كل هذا بسبب أزمة توارث السلطة فى تلك الجمهوريات ، بينما ظلت الملكيات الوراثية على حالها فى الأردن والخليج ومصر والمغرب .

ثالثا : الرعاع يحكمون فى النظم الديمقراطية الاستبدادية

1 ـ هذا المستبد الجمهورى يحمل فى أحشائه مرض الهلع من أى منافس له من العسكر أو من الشعب ، ويؤمن بأى تنازل للشعب فى مجال الحريات سيؤدى إن آجلا أو عاجلا الى سقوطه ومصرعه . لا يوجد هذا الهلع بهذه الدرجة لدى النظم الملكية المستبدة لأن الشعوب تعلمت الولاء للأسرة ، ولأن وراثة الملك فيها أقرب الى الاستقرار ، ومعروف للعالم كله من هو الملك القادم .  

2 ــ هذا الهلع يدفع المستبد الجمهورى الى كراهية أهل الكفاءة لأنهم أكثر منه كفاءة ، ويولى مكانهم أهل الثقة الذين يتغنون بحمده ويرقصون فى مواكبه . وأى إنسان محترم لا يرضى لنفسه أن يرقص فى موكب السلطان الظالم . لا يفعل هذا إلا ( الرعاع ) .

3 ـ  هؤلاء الرعاع مكانهم السجن فى أى نظام ديمقراطى لكنهم فى دولة المستبد الجمهورى هم القادة والنُّخبة وأهل الثقة و ( الملأ ) و( الأسياد ). تخيل أن يكون الرعاع أسيادا فى بلد ما .!.الرعاع فى مصر هم كبار رجال الدين ورجال الأعمال ورجال الاعلام وأصحاب الشهرة فى القنوات الفضائية. ثقافة الرعاع عندما سادت فى مصر إنحطّت بمصر فى لغة الخطاب وفى التحرش بالنساء وفى الفتاوى وفى الفنّ وفى إختراع عبد العاطى لجهاز الكفتة ، وجعلت رعاع البذاءة نجوما تلهث خلفهم وسائل الاعلام ، وجعلت أبا جهل ( شيخا للاسلام ).

4 ـ وجود الرعاع ليس ظاهرا فى النظم الملكية المستبدة ، لأن هذه النظم الراسخة تعتمد على تأييد الطبقة العليا فى المجتمع من رءوس القبائل والعصبيات والعشائروالأثرياء ، وهم يعيشون فى ارستقراطية عريقة ومتحضرة ومثقفة ، ولهم أبناء تعلموا تعليما راقيا يصبحون به من أهل الكفاءة وأهل الثقة معا ، لذا يرصّع الملك بهم سلطانه . والفارق هائل بين الطبقة العليا التى قادت الحياة السياسية والفكرية فى مصر قبل تحكم العسكر وبين ما نراه الآن من تحكم الرعاع فى مصر ومؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية والدينية والثقافية والاعلامية والاقتصادية .

5 ـ ولأن المستبد السياسى عريق فى الفساد فإن أتباعه لا بد أن يكونوا مفسدين وأعوانا له فى الفساد ، يفسدون باسمه وبسلطانه . وكلما طال الاستبداد انتشر الفساد وعمّ الخراب الى أن تهبط الدولة الى مستنقع التقسيم والحرب الأهلية . وتشهد هذه المرحلة الأخيرة سيطرة حاشية من أحط الرعاع يتصارعون فيما بينهم على أطلال وطن .

6 ـ لا أهلا بالرعاع ...!

اجمالي القراءات 8022