التهجير كان حدثا مأساويا، فلا معنى لإتخاذه أساسا للتقويم القمري
اللطائف القرآنية (67) المحور السابع : هوامش على دفتر الهجرة - التأريخ الهجري

محمد خليفة في الجمعة ٠٧ - أكتوبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

اللطائف القرآنية  (67)

المحور السابع    :  هوامش على  دفتر الهجرة -    التأريخ الهجري

التهجير كان حدثا مأساويا، فلا معنى لإختياره أساسا للتقويم القمري

 

المتتبع للنقط الحاكمة في الآية 40 من سورة التوبة سوف يلحظ الآتي

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }  آية رقم: (40) من سورة التوبة .

 

فقد بدأت بالإشارة إلى عدم المناصرة من أغلب المحيطين بالرسول  "  إِلاَّ تَنصُرُوهُ  "

ثم أعقبها التنبيه إلى أن رسول الله أُخرجه الذين كفروا، ولم يكن مسرورا حين أخرج   " إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ...."

ثم تلى ذلك قولة الاطمئنان المستمرة من الرسول لصاحبه "  لاَ تَحْزَنْ   "

 

ثلاث نقاط حاكمة تشير أولاهما لانعدام المناصرة من الأهل، وثانيهما إلى أن الرسول قد أضطر للهرب حفاظا على نفسه والأمانة الملقاة على عاتقة  - أمانة تبليغ الرسالة - ، وجاءت ثالثهما بما يخفف من تلاحق الأحداث الموجبة للحزن ، فهو بذلك الحزن الذي هو فوق الأحزان.

 

كان الأجدر بمن يتسابق  للاحتفال بذكرى ذلك اليوم، أن يذكر بل ويتذكر أنه كان يوم حزن لا يوم احتفال وفرح، ذلك الحزن النبيل الذي يولد معه الإصرار على التمسك بما عليه الإنسان من مبادئ الحق، ويتخلق في ذاته ماردا من الإرادة يدفعه إلى تحقيق ما هو قد آمن به من حق المبادئ.

نأتي إلى بيت القصيد، فبعد أن انتقل الرسول إلى جوار ربه، وتولى الصدِّيق أبو بكر الخلافة لقرابة الثلاثة أعوام ، فما لبث أن لقي ربه، وتلاه في سدة الحكم أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب ذو العقلية الإدارية الجبارة، والشخصية الحاكمة التي لا يشق لها غبار، واستقر الرأي على وضع  تقويم إسلامي خاص ، أو على الأحرى تحديد حدث جلل ليكون الحد المرجعي ويكون العد بالنسبة إليه.

 

كانت العرب وقبل الإسلام تؤرخ لأيامها بحدث هام، فمثلا عام داحس والغبراء، وعام البسوس، وأيضا عام الفيل، وكانت الأيام تمضي في العد طبقا لحدث كبير قد وقع وتسامعت به العرب، ثم لا يلبث حدث جلل أن يحدث فينتقل العد بالنسبة إليه وهكذا، أما عن الشهور وعدد الأيام بكل منها فقد تعارف العرب عليها من قديم الأزل، وجاء القرآن مصدقا لما تعارف الناس علية فقد قال الحق

{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًافِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) } سورة التوبة

 

فحين استقر الرأي على وجوب اتخاذ حدث رئيسي كمرجعية للعد التاريخي كانت الخيارات المتاحة هي

(1)      عام ميلاد الرسول ( ولد الرسول تقريبا في عام 571 ميلادية )

(2)        عام البعثة ( ابتعث الرسول عند بلوغه الأربعين وذلك تقريبا  عام 610  ميلادية )

(3)        عام الهجرة ( وقعت حادثة تهجير الرسول تقريبا عام 623 ميلادية )

(4)        عام الفتح   (فتحت مكة في العام الثامن الهجري )

 

مناقشة الاختيار الأول  : اتخاذ عام ميلاد الرسول مقياسا مرجعيا للتأريخ الإسلامي

كان من الصعب ذاك الزمان تحديد العام الذي ولد فيه الرسول أو أي من المواليد بدقة، لأنه لم يكن معمولا بنظام تسجيل المواليد،ولم تعرف العرب هذا النظام، ولم يكن يحظى باهتمامهم، ذلك لأن الطفل حين ولادته لا يكون شيئا مذكورا سوى أنه طفل ذكر أضيف لتعداد رجال القبيلة، أما حين الوفاة فإنه يكون قد أضحى كيانا وقدم أعمالا وأنهى منجزات خاصة به ، أي أصبح له تاريخه الخاص ، ولا يمكن أن يذكر شيء من منجزاته إلا وتقترن باسمه.

لذا اهتمت العرب بتسجيل الوفيات ( أي التفاصيل المتعلقة بالوفاة، مثلا البلدة التي حدثت فيها الوفاة ، وتاريخ ذلك والحالة التي جاءت عليها تلك الوفاة ، وآخر ما  قال المتوفى وبماذا أوصى وهكذا) ولهم في ذلك مؤلفات وسجلات بل مجلدات ( مثل أعلام الوفيات ) ، والشيء  بالشيء يذكر أنه جرت العادة عند الاحتفال بمولد النبي أو بمولد أي من آل البيت أن يتم ذلك في ذكرى وفاته وليس في يوم مولده كما يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى ، ذلك لأنه لم يهتم أحد بتسجيل يوم الميلاد.

 

اختلف في اليوم وفي الشهر الذي تمت فيه ولادة النبي، وحدث شبه إجماع على أن ولادته عليه أفضل الصلوات وله أتم التسليم جاءت في عام الفيل لكن لا يوجد وثائق أو مخطوطات تؤكد ذلك، وقد بنا المؤرخون حساباتهم للسنين بالراجع من تاريخ الوفاة ، فتاريخ الوفاة محدد ومعلوم، فإذا بدأنا منه الحساب بالرجوع عشر سنوات ( وهي مدة تواجد الرسول في المدينة ) فسوف يحدد تاريخ حدث التهجير، بعدها أيضا بالرجوع ثلاثة عشر عاما ( وهي المدة التي استغرقتها الدعوة في أم القرى ) فسوف نقف عند تاريخ البعثة، ثم نعد للخلف أربعين سنة عندها يعرف تاريخ مولد الرسول، أو هكذا تصورت الأسلوب الذي حسبت به  المواقف والأحداث.

ونظرا لأنه لم يكن هناك يقين حسابي في أي منها، وأيضا نظرا لأن أتباع نبي الله عيسى قد اتخذوا من موعد ميلاده ( غير المحدد تحديدا دقيقا وجازما) بداية التأريخ لديهم، لذا واختلافا معهم فقد جرى البحث عن محدد أخر لبداية التأريخ الإسلامي.

 

مناقشة الاختيار الثاني :  اتخاذ العام الذي ابتعث فيه الرسول مقياسا مرجعيا للتأريخ الإسلامي

أغلب الظن أن العام الذي ابتعث فيه الرسول كان قرابة عام 610 من ميلاد المسيح، إذ بلغ رسول الله محمد عامه الأربعون، وهو العمر الذي يكون المرء قد تعدى مرحلتي الفتوة والشباب وبلغ مبلغ الرجال، حيث يشير الحق في كنابه الكريم

{ وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ بِوَ‌ٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰنًا ...حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةًۭ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَ‌ٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحًۭا تَرْضَىٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىٓ ۖإِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴿15﴾ } سورة الأحقاف

إلى أن الشاهد أنه لم ترد في القرآن إشارة زمنية لعام البعثة، ولا إشارة وصفية لهذا الحدث، حتى نتخذ منه مرجعا للعد.

 

مناقشة الاختيار الثالث : اتخاذ حدث التهجير من مكة مقياسا مرجعيا للتأريخ الإسلامي

أما عام الهجرة فعلى الرغم من الثلاث صفات المحبطات والتي وردت فيه ووصف بها (عدم الانتصار لرسول اللهوعدم نصرته، تهجير الرسول وإخراجه من مكة، الحزن التراكمي والذي هو فوق الأحزان ) ، فقد حدث واختير كمرجعية عامة وكتقويم لتعاقب الأيام والسنين في النظم الإسلامي، وأطلق عليه التقويم الهجري.

 

مناقشة الاختيار الرابع : اختيار عام الفتح ليكون هو أساس حساب التأريخ الإسلامي

كان الأجدر بهم أن يقع اختيارهم على عام الفتح ، ذلك لأن الله قد احتفى بذاك الفتح وقرن به النصر، ونبأ به قبل أن يقع وبـَشـَر به المؤمنين { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَانَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } سورة الصف

 

وأشار إلى هذا الفتح ووصفة بالفتح المبين،

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) } سورة الفتح

ثم اقترن هذا  الفتح بالنصر في آخر سور القرآن تنزلا

{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } سورة النصر

ألم يكن إذن من الأليق أن يكون اختيارنا لهذه المناسبة التي تغنى القرآن بها لتكون مرجعية عامة لتأريخنا الإسلامي،  لكن .... ما من فائدة ترجى من البكاء على اللبن المسكوب.

 

م / محمد ع. ع. خليفة

الأحد 2 أكتوبر  2016

       1 المحرم  1438 هـ

اجمالي القراءات 6260