ملك اليمين : أنواع الاسترقاق : الخصيان فى قصور العثمانيين

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٧ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

فى عصر الخليفة المأمون  ‏:‏ كان القائد عبد الله بن طاهر المتوفى عام 230 كارها لظاهرة الخصاء مشمئزا منها ، وقد كان ( لا يدخل خصيًا داره ويقول‏:‏ " هم مع النساء رجال ومع الرجال نساء ‏." ). هذا مع أن وجود الخصيان فى الحياة الاجتماعية فى العصر العباسى وقتها غدا أمرا مألوفا بحيث لم يعد هناك  حرج من الحديث الصريح عنهم جنسيا ، كما شهدنا مما قاله عنهم الجاحظ المتوفى عام 255 . . وبمرور القرون تعزز وجودهم بحيث اصبحت لهم مكانة رسمية فى القصور العثمانية . ونعطى لمحة عنهم من خلال ما كتبه استاذنا الراحل د عبد العزيز الشناوى فى موسوعته ( الدولة العثمانية : الجزء الأول ) ، ثم نعطى لمحة أخرى عن الخصيان فى مصر من خلال ما كتبه العلامة الفرنسى ( كلوت بك ) فى كتابه ( لمحة عامة الى مصر )

أولا  الخصيان فى القصور العثمانية

   عموما : كان الخصيان من أهم مراكز القوي في البلاط العثماني ، وكان التنافس قويا وشديدا بين الخصيان السود والخصيان البيض ، والتحمت مصالح الخصيان مع مصالح الحريم السلطاني . إذ كان الخصيان يقومون للسلطان العثماني بنفس الدور ( الجنسى ) الذي تؤديه النساء ، وكانت للدولة العثمانية إجراءات رسمية في استقبال الخصيان وكان لها نظام تدريبي تثقيفي في إعداد أولئك الخصيان للخدمة في قصور السلطان . وقد حاول السلطان العثماني أحمد الثالث ، إلغاء نظام الخصيان 1716 ، ولكنه لم يفلح ، وظل نظام الخصيان قرينا بالخلافة العثمانية إلى أن أنتهي معها في عهد السلطان عبد الحميد .ونعطى بعض التفصيلات :

1 ـ مصادر الحصول على الخصيان : كان حكام الولايات يختارون أجمل الأطفال الرقيق ويقومون بخصائهم ويرسلونها هدايا للسلطان العثمانى، وكان عملاء السلطان العثمانى يتعاملون مع عصابات خطف الأطفال فى أواسط أوربا ، حيث كانت تجرى لهم عمليات الخصاء بمعرفة آسريهم ، ثم يباعون إلى السلطان العثمانى وما يفيض عن حاجته يتم تصديره إلى الأسواق فى الولايات ليباع رقيقا ، ثم كان من وسائل معاقبة (الإنكشارية / المماليك الحربية ) الخصاء، وبعدها يتركون الخدمة العسكرية وينضمون للخصيان البيض.

2  ـ إجراءات إستقبال وإعداد الخصيان : عند وصولهم إلى إسطنبول ، كانوا يعتنقون الإسلام ويلتحقون بالسراى الجديد حيث يتم عرضهم على رئيس الخصيان السود ثم رئيس غلمان البوابة كبير ضباط حرس الخصيان، وتتم كتابة أسمائهم فى كشوف التعينات ثم أخيرا يؤخذون للمشرف العسكرى ( لالا) الذى يقوم على إعدادهم علميا وتدريبهم عسكريا، فيتعلمون اللغة التركية وشيئا من الثقافة الإسلامية باللغة العربية ويقوم بتعليمهم الخوجات ( المدرسون). ويتلقون تدريبا عسكريا ليكونوا بمثابة حرس لأبواب أجنحة الحريم .

3 ـ نوعا الخصيان  : حسب اللون كانوا نوعين: الخصيان السود الذين يعملون فى خدمة الحريم ، رئيسهم  (دار السعدات أغاسى ) وأصغر فرد فيهم ( أن أشاغى أغا) وهو أخر خصى يلحق  بالخدمة فى الحريم السلطانى وأمامه إمكانية التدرج إلى أن يصل إلى رئيس الخصيان السود.

الخصيان البيض : رئيسهم هو( أغا باب السعادة أو أغا البوابة)  وكانوا يتقاسمون مع الخصيان السود حراسة وخدم الحريم السلطانى ، وكان  يعاون رئيس الخصيان البيض خمسة مساعدون وكانوا يشرفون على تعليم وتدريب الغلمان الذين يؤتى بهم للسلطان العثمانى كحصيلة ضريبية (ديوشرمة) فرضها السلطان على الولايات الأوربية القريبة التى كانت تخضع لنفوذه .

والخصيان السود والبيض الذين أجريت لهم جراحة الخصاء الكامل ( بإستئصال الخصيتين والعضو الذكرى ) كانوا ينتقلون سريعا إلى الخدمة الداخلية فى غرف الحريم من السلطانة الوالدة والباش قادين والقادينات وبنتات السلطان وفتيات الغرف من الجوارى، وكانوا يعتبرون جزءا من الهيئة النسائية فى الحريم السلطانى.

4 ـ  نفوذ الخصيان : فى فترة ضعف السلاطين العثمانيين تزايد نفوذ زعماء الخصيان. وطبقا للبروتوكول العثمانى كان الخصى الأسود ( أغا دار السعادة ) يعد أكبر موظف فى القصر السلطانى ويشغل  المركز الثالث بعد الصدر الأعظم وشيخ الإسلام.  وكان كبار الخصيان يشاركون فى  الحكم مع الحريم السلطانى إلى درجة أن رئيس الخصيان السود فى عهد السلطان محمد الرابع كان هو الذى رشح محمد كوبريلى ليتولى منصب الصدر الأعظم، وهو من أعظم القادة فى الدولة العثمانية. وقد إلتحم نفوذهم مع نفوذ الحريم السلطانى وكانوا يتلقون الأوامر من الحريم فينقلها رئيس الخصيان إلى الصدر الأعظم ( رئيس الوزراء ) أو الوزراء فيتم تنفيذها فورا، سواء كانت طلبات شخصية أو فى أمور عامة تتصل بالسياسة العليا للدولة. وشارك الخصيان السود والبيض فى المؤامرات داخل القصر خدمة للحريم السلطانى. وأصبح كبار الخصيان أكثر ثراءا بهذا النفوذ.

ثانيا : الخصيان فى مصر العثمانية ( دموع العبيد )

 كتاب (لمحة عامة إلى مصر) من نوادر الكتب التي أرخت لمصر في النصف الأول منالقرن التاسع عشر. ألفه الطبيب الفرنسى (أ. ب. كلوت بك) (1793 : 1868 ): رئيس مصلحة الصحة في القطر المصري أياممحمد علي، وعضو أكاديمية الطب الملوكية بباريس وأكاديمية العلوم بنابولي. وأهدىالكتاب إلى محمد علي والي مصر وقام بتعريبه محمد مسعود المحرر الفني بوزارةالخارجية بمصر والمتوفى عام (1940م) . وننقل عنه بعض ما قاله عن الخصيان فى عصره :

1 ـ قال كلوت بك عن إستمرار عملية الخصاء فى مصر حتى عهده : (أما عملية الجب فلا تجري الآن في غيرالقطر المصري، فهذا القطر أصبح المورد الذي تستورد منه الخصيان برسم حرَم العظماءوالأثرياء في كل مكان... ومدينتا أسيوط وجرجا هما الوحيدتان من مدائن القطر المصرياللتان تباشران تلك العملية الشائنة. ومن كان يخطر بباله أن الموكلين بمباشرتهاجماعة من المسيحيين، وأنهم من رجال الأكليروس القبطي، هؤلاء الذين أصبحوا عارا علىالدين وخزيا ووصمة مزرية بالإنسانية وموضع احتقار السكان في تينك المدينتين.. وقريةزاوية الدير من (أسيوط) عاصمة السفاكين السفاحين الذين يقومون بعملية الجب ، وهميرتكبون جرمها الشنيع على نحو (300) شخص في كل عام. ويختارون هذه الضحايا من صغارالعبيد الذين تختلف أعمارهم من ست سنوات إلى تسع، وتأتي بهم قوافل الجلابة من سنارودارفور. ) (لمحة عامة إلى مصر) (ج1 ص630). ومن يقرأ كتاب ( لمحة عامة الى مصر ) يجد هذه النبرة الاصلاحية الناقمة على ما يحدث ، ينقله ويحتج عليه . وهو هنا ينقم على رجال الدين القبطى تخصصهم ليس فى الدعوة للحب بل فى خصاء الأطفال المساكين ، رغبة فى الكسب المادى ، حيث كان أولئك الأطفال المساكين يُباعون الى قصور ( الملوك والأعيان). يقول : ((  ويباع هؤلاء التعساء بحسب المزايا المتوفرة فيهم من (1500) قرشا إلى(3000) قرش.)

2 ـ عن عملية الخصاء يقول كلوت بك : ( وتجري لهم عملية الجبّ في فصل الخريف، باعتبار أنه أوفق فصول السنةلنجاحها. ولا يقتصر الجب على بتر عضو التذكير وحده، بل يبترون جميع الأجزاء البارزةالمرتبطة به، ثم يصبون في الحال مكان البتر شيئا من الزيت المغلي، ويركبونه أنبوبةفي الجزء الباقي من مجرى البول، وبعد إلقاء الزيت يذرون على مكان الجرح مسحوقالحناء، ثم يدفنون الفتى المعذب في الأرض إلى ما فوق البطن، وبعد أربع وعشرين ساعةيستخرجونه من التراب، ويدهنون مكان الجرح بعجينة من طين الابليز والزيت. ثم إن نحوالرُّبع من الغلمان المساكين الذين تجري عليهم هذه العملية الشنعاء لا يعيشون بعدها،أما الباقون فيقضون حياتهم في الضعف والآلام. )

3 ـ ويقول عن مستقبل هؤلاء الخصيان بعد وصولهم الى قصر السلطان العثمانى : ( نعم إن المسلمين يحيطونهم بكل ما هومستطاع من الاحترام والرعاية والتكريم، حتى إن كبير الخصيان في (الأستانة العلية)مثلا يعد من أعاظم رجال الحاشية السلطانية، وإن السلطان محمود رفع أحد خصيانه إلىمرتبة الباشوية وعهد إليه قيادة جيوش الدولة..)

4 ـ وعن الحملة على الاسترقاق فى عصره يقول : (  ولقد حمل كبار الفلاسفةوالمفكرين وبعض رجال الحكومات العاملين في أيامنا هذه الحملة الشعواء علىالاسترقاق، وها نحن أولاء نرى أوربا تسير سيرا حثيثا في الطريق المؤدي إلى إلغائه،ولكن عادة اتخاذ الخصيان فضيحة كبرى للطبيعة، وهتك مخز لأستار النواميس الطبيعيةوالخلقية، والغريب مع هذا أنني لا أعلم بين الشعوب التي تتولى زعامة الحضارةالعصرية من استجمعوا قواتهم وجهودهم لمكافحة عادة اتخاذ الخصيان.) .

ويدعو أوربا الى أن يكون تدخلها فى الآستانة بغرض الاصلاح وإلغاء الخصاء ، يقول : (  وتدخل أوروبااليوم في شؤون الدولة العثمانية، ذلك التدخل الذي أصابها ببالغ الضرر كان يمكن أنيكون نافعا ومجديا وجديرا بثناء الإنسانية وشكرها لو كان الغرض منه إدخال الإصلاحاتالمطابقة لروح الحضارة والمدنية، لا التي يقصد بها تحقيق تلك الأغراض السياسية،وليس من بين هذه الإصلاحات ما هو أوجب للحمد والثناء كمنع الجب واتخاذ الخصيان،وأتمنى صونا لكرامة أوربا وشرفها، ووقاية لمجدها أن تفكر حكوماتها في الحصول علىهذا الإلغاء من سلطان تركيا ووالي مصر. وإني لموقن أنه يكفي لتحقيق هذه الأمنيةالشريفة أن تعرب تلك الحكومات لهما عن مقاصدها الخيرية نحو الإنسانية المعذبة، لترىمنهما الإقبال السريع على إجابة مطالبها، وها هو محمد علي المعروف بالمسارعة إلىاتباع النصائح النافعة والمشورات النبيلة لن يتوانى في العمل بهذه النصائح، وبذا لاتصبح مصر ميدانا لجريمة لا يسع هذا الجيل بعد الآن أن يتهاون في أمرها أو يتغاضىعنها.) .

أخيرا :

نجد (بعض ) العزاء فى أن ( بعض ) هؤلاء التعساء وصلوا الى السلطة والثراء ، وربما لو ظلوا فى بلادهم ما حصلوا عليها . ومن المفارقات أن يعيش الفلاحون الأحرار مسترقين للمستبد ، أو ( قنّ الأرض ) ( الفلاح القرارى ) فى اوربا وغيرها ، بلا أمل فى تحسين الأوضاع . بينما من يتم إسترقاقه بملك اليمين ـ حتى لو صار خصيا ـ قد تنفتح أمامه أبواب الترقى . بل وصل بعض الخصيان والمماليك الذكور والإناث الى مقعد الحكم والسلطنة ربما تعويضا عما قاسوه ، بينما لم يجد الفلاح (قنّ الأرض ) تعويضا .

ندخل بهذا على بعض الملوك من العبيد السابقين وملك اليمين . 

اجمالي القراءات 9891