د. عبد الرزاق علي
اهتزت وربت

د. عبد الرزاق علي في الأحد ٠٧ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

اهتزت وربت
 
 د. عبد الرزاق علي
 
﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.الحج:(5)   
قبل ان نغوص فى اغوار الايه يجدر بنا ان نتدبر بعض  الألفاظ الغريبة في هذا النص القرآني الكريم ‏:‏
:‏ يقال في اللغة ‏‏ همدت النار أي خمدت وانطفأت جذوتها ;‏ ومنه أرض‏(‏ هامدة‏)‏ أي لا نبات فيها‏,‏ ونبات هامد‏,اى  يابس‏,‏ ‏(‏الاهماد‏)‏ هو الإقامة بالمكان كأنه صار‏(‏ ذا همد‏),‏,‏ ومعني قوله‏(‏ تعالي‏):‏ وتري الأرض هامدة أي جافة‏,‏ قاحلة لا نبات فيها‏,‏ يقال‏(‏ همدت‏)‏ الأرض‏(‏ تهمد‏)(‏ همودا‏)‏ أي يبست ودرست‏,‏ و‏(‏همد‏)‏ الثوب أي بلي‏.‏
وقد وردت الصفة‏(‏ هامدة‏)‏ مرة واحدة في القرآن الكريم‏,‏ وجاءت بنفس المعني بالتعبير‏(‏ خاشعة‏)‏ في قول الحق‏ تبارك وتعالي‏:‏
ومن آياته أنك تري الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتي إنه علي كل شيء قدير (‏فصلت‏:39)‏
‏ اهتزت‏:‏ هذا الفعل بهذه الصياغة وفي نفس المعني جاء في كتاب الله مرتين ‏(‏ فصلت‏:39,‏ والحج‏:5),‏ كما جاء بصيغة الأمر ‏(‏ هزي‏)‏ مرة واحدة‏ (‏ مريم‏:25),‏ وفي صيغة المضارع‏ (‏ تهتز‏)‏ مرتين‏(‏ النمل‏:10,‏ القصص‏:31).‏
ومعني اهتزت هنا‏:‏ انتفضت وتحركت ,‏ ويقال‏:(‏ هز‏)‏ الشيء‏(‏ فاهتز‏)‏ أي حركه فتحرك بشدة‏,‏ لأن‏(‏ الهز‏)‏ هو التحريك الشديد‏,‏ و‏(‏الهزة‏)‏ الأرضية هي الزلزلة‏,‏ وهي أيضا النشاط ‏.‏
‏‏ و‏(‏ربت‏):‏ أي زاد حجمها فانتفخت وعلت‏,‏ يقال في اللغة‏:(‏ ربا‏)‏ الشيء‏(‏ يربو‏)(‏ ربوا‏)‏ أي زاد ونما‏,‏ و‏(‏الربوة‏)‏ و‏(‏الرابية‏)‏ ما ارتفع من الأرض‏,,‏ ,‏ ويقال‏:(‏ أربي‏)‏ عليه بمعني ارتفع عنه فأشرف عليه‏,‏ و‏(‏الربو‏)‏ هو مرض الشعيبات التنفسيه الذى يكون فيه التنفس سريعا اى عاليا‏,‏ ويقال‏:(‏ ربا‏)‏ إذا اصابه مرض‏(‏ الربو‏),‏ ويقال‏(‏ رباه‏)(‏ تربية‏)‏ و‏(‏ترباه‏)‏ أي تعهده بالرعاية والعناية حتي‏(‏ نما‏).‏ 
ترد لفظة الأرض في القرآن الكريم بمعان مختلفة  تفهم من سياق الآية القرآنية، منها الكوكب ككل، أو الغلاف الصخري المكون لكتل القارات التي نحيا عليها، أو قطاع التربة الذي يغطي صخور ذلك الغلاف الصخري للأرض. وواضح الأمر هنا أن المقصود بالأرض في النص القرآني الذي نتعامل معه هو قطاع التربة الذي يحمل الكساء الخضري للأرض والذي يهتز ويربو بسقوط الماء عليه
تتكون التربة الأرضية أساساً من معادن الصلصال، والرمال، وأكاسيد الحديد، وكربونات كل من الكالسيوم والمغنسيوم. وبالإضافة إلى التركيب الكيميائي والمعدني لتربة الأرض فإن حجم حبيباتها ونسيجها الداخلي له دور مهم في تصنيفها إلى أنواع عديدة، وتقسم التربة حسب حجم حبيباتها إلى التربة الصلصالية، والطميية، والرملية، والحصوية، وأكثر أنواع التربة انتشاراً هي خليط من تلك الأحجام.
ويتكون جزيء الماء من اتحاد ذرة أكسجين واحدة مع ذرتي أيدروجين برابطة قوية لا يسهل فكها، وترتبط هذه الذرات مع بعضها البعض فى شكل زاويه او مثلث ، له قطبية كهربية واضحة لأن كلاً من ذرتي الإيدروجين يحمل شحنة موجبة نسبية، وذرة الأكسجين تحمل شحنة سالبة نسبية، مما يجعل جزئ الماء غير متعادل كهربيا، والماء بهذه الصفات الطبيعية المميزة إذا نزل على تربة الأرض أدى إلى إثارتها كهربياً مما يجعلها تهتز وتتنفس ويزداد حجمها فتربو وتزداد، وذلك لأن تربة الأرض تتكون في غالبيتها من المعادن الصلصاليه ومن صفات تلك المعادن  أنها تتشبع بالتميؤ أي بامتصاص الماء التي يؤدي تميؤها( اى اختلاطها بالماء) إلى اهتزاز مكونات التربة، وزيادة حجمها، بمجرد نزول الماء عليها مما يؤدى الى ارتفاعها إلى أعلى حتى ترق رقة شديدة فتنشق مفسحة طريقاً سهلاً آمناً لسويقة النبتة الطرية الندية المنبثقة من داخل البذرة المدفونة بالتربة
ومن أسباب اهتزاز التربة وانتفاشها وربوها ما يلي:
- تتكون التربة أساساً من المعادن الصلصالية، ومن صفات تلك المعادن أنها تتشبع بالتميؤ أي بامتصاص الماء، مما يؤدي إلى زيادة حجمها زيادة ملحوظة فيؤدي ذلك إلى اهتزازها بشدة وانتفاضها فتؤدي إلى اهتزاز التربة بمجرد نزول الماء عليها
- تتكون المعادن الصلصالية من رقائق من أكاسيد السيليكون والألومنيوم تفصلها مسافات بينية مملوءة بجزيئات الماء.ونظرا لدقة حجم الحبيبات الصلصالية‏(‏ والتي لايتعدي قطرها واحد علي‏256‏ من الملليمتر أي اقل من‏0.004‏ ـ من الملليمتر‏)‏ وهي المكون الرئيسي لتربة الأرض‏,‏ فان اختلاط الماء بتلك التربة يحولها الي الحالة الفردية وهي حالة تتدافع فيها جسيمات المادة بقوة‏,‏ وبأقدار غير متساوية في كل الاتجاهات‏,‏ وعلي كل المستويات في حركة دائبة تعرف باسم الحركة البراونية نسبة الي مكتشفها‏,‏ وهي من عوامل اهتزاز التربة بشدة وانتفاضها‏,‏ وكلما كان الماء المختلط بالتربة وفيرا زاد تباعد المسافات بين حبيبات التربة‏,‏ وزاد من سرعة حركتها‏  
- - إن العمليات المعقدة التي كونت تربة الأرض عبر ملايين السنين اختصتها بالعديد من العناصر والمركبات الكيميائية اللازمة لحياة النباتات الأرضية، كما أن الكائنات الحية الدقيقة والكبيرة التي أسكنها الله تعالى تربة الأرض لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في إثرائها بالمركبات العضوية وغير العضوية، وعند نزول جزيئات الماء ذات القطبية الكهربية، وإذابتها لمكونات التربة فإن ذلك يؤدي إلى تأين تلك المكونات (اى تحول ذراتها الى ايونات ذات شحنه كهربائيه)، وبالتالى تنافر الشحنات المتشابهة على أسطح رقائق الصلصال وفي محاليل المياه مما يؤدي إلى انتفاض تلك الرقائق واهتزازها بشدة
- تحمل الرياح، والطيور، والحشرات، والكائنات الدقيقة إلى التربة بذور العديد من النباتات خاصة مما يسمي بالبذور المجنحة  والجراثيم وحبوب اللقاح التي تحملها الرياح لمسافات بعيدة، وعندما ينزل الماء على التربة الأرضية وتستقي منه تلك البقايا النباتية القابلة للإنبات مثل البذور فتنشط أجنتها، وتتغذى على المواد المذابة في مياه التربة فإنها تنمو، وتندفع جذورها إلى أسفل مكونة المجموعات الجذرية لتلك النباتات، وتندفع سويقاتها (ريشتها) إلى أعلى مسببة اهتزازات لمكونات التربة.
- مع ازدياد هطول الماء على التربة تنتعش كل صور الحياة فيها من البكتريا، والفطريات، والطحالب، وغيرها، فتزداد  الجذور النباتيه سمكا ونموا على سطح الأرض، ويؤدي النشاط الحيوي لكل من هذه الكائنات إلى زيادة حجم التربة، وإلى زيادة الأنشطة الكيميائية والفيزيائية فيها مما يؤدي إلى انتفاض مكوناتها واهتزازها، وربوها، وكثرة الإنبات فيها، وقد صورت هذه المراحل بالتصوير البطيء وأثبتت الصور صدق القرآن الكريم، في كل ما أشار إليه في هذه القضية
وبعد نزول الأمطار على الأرض الهامدة وحصول عمليتي الاهتزاز والانتفاخ، لاحظ العلماء أن النبات يستفيد من ذلك الماء فتبدأ البذور الجافة والموجودة في التربة بامتصاص الماء والمواد المعدنية من الوسط المحيط بها، وتتحرك العمليات الكيميائية الحيوية في البذور، فتنبت الدرنات والأبصال، وتصبح مساحة سطحية من الشعيرات الجذرية للنباتات معرضة لمحلول التربة مما يسهل عليها امتصاص الماء والعناصر الغذائية. كما تنشط ملايين الكائنات الحية الموجودة في التربة، فالفطريات والبكتريا تحول بقايا النباتات والحيوانات إلى مواد معدنية تمتصها النباتات عبر الجذور، وتقوم ديدان الأرض بحفر الأنفاق عبر التربة، مفسحة المجال لدخول الهواء والماء من خلال التربة، فتصبح الأرض مخضرة بإنباتها من كل زوج بهيج
أخبر القرآن الكريم عن اهتزاز التربة وربوها بعد نزول الماء عليها، وهما عمليتان دقيقتان غير مشاهدتين ولا محسوستين، ولا يمكن إدراكهما إلا من خلال استخدام المجهر.، وتفاصيل العلاقة بين اهتزاز حبيبات التربة ورَبْوها وإنبات الأرض خفية لم يدركها الإنسان إلا بعد تقدم علم التربة وتطور أدواته المعملية، فأول ملاحظة للاهتزاز كانت في عام 1827م على الرغم من أن الميكروسكوب الضوئي، وهو الأداة التي لوحظ من خلالها الاهتزاز قد اخترع عام 1590م، كما أن الميكروسكوب الإلكتروني الماسح والذي يمكن استعماله في فحص الاتحادات البنائية المكونة لحبيبات التربة لم يخترع إلا في عام 1952م
.وعملية الاهتزاز والربو لحبيبات التربة يحصل بنزول المطر، وهذا الاهتزاز يمكن الماء بإذن الله من التخلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات، فتنتفخ الحبيبات ويزداد حجمها وتصبح مخازن للماء يستفيد منها النبات، حيث تتشرب البذور الموجودة في التربة الماء وتنبت، وتمتصه الشعيرات الجذرية للنباتات فتنمو برحمة الله.
ويتجلى السبق العلمي للقرآن بصورة أكثر عندما نستعرض أقوال المفسرين الذين لم تسعفهم علوم عصرهم في فهم ظاهر الآية الكريمة فاضطر أكثرهم إلى تأويلها وحملها على المجاز، وإخبار القرآن بكل وضوح عن هذه الأسرار دليل على أنه الكتاب المنزل من عند الله الذى يعلم السر في السماوات والأرض القائل: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 6]، والذي وعدنا في كتابه أنه سيرينا آياته بقوله سبحانه ﴿وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: 93].
.‏
اجمالي القراءات 7602