هربا من النّكد : نوادر من تاريخ الخليفة المعتضد العباسى

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٧ - يوليو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : المعتضد الشجاع قاسى القلب :  

1 ـ كان الخليفة المعتضد العباسي مشهوراً بالحزم والقسوة والشدة والشجاعة ، قالوا عنه "  كان ملكاً شجاعاً مهيباً ظاهر الجبروت وافر العقل شديد الوطأة ، قليل الرحمة".

2 ــ كان إذا غضب على قائد من قواده أمر بدفنه في حفرة على مشهد من الجميع ، وكانت له طرق فظيعة في التعذيب ، وبذلك أخمد الفتن وأعاد هيبة الخلافة بعد أن ضعف شأنها في عهد عمه الخليفة المعتمد على الله ، ولذلك يلقب المؤرخون الخليفة المعتضد بأنه "السفاح الثاني " لأنه جدد ملك بنى العباس وأعاد سطوتهم في عهده.

3 ـ  عن شجاعته يحكى خادمه خفيف السمرقندى : يقول كنت معه في الصيد وانقطع عنا العسكر فخرج علينا أسد، فقال لي : أفيك خير ؟ قلت لا ، قال : ولا تستطيع أن تمسك فرسي ؟ قلت :بلى ، فنزل المعتضد وسل سيفه وقصد الأسد وتلقاه بسيفه قطع عضده ،ثم ضربه ضربة فلقت هامته ، ومسح سيفه في صوفة وركب فرسه ، وصحبته إلى أن مات فما سمعته يذكر ذلك وما عاتبني في خوفي وجبني..!

  4 ـ  وقد كان المقربون إليه من القادة يخشون بأسه ويخافون من غضبه خصوصاً وقد كان جريئاً على سفك الدماء طالما كان ذلك في حماية سلطانه، حتى لقد هم بأن يقتل ابنه الطفل جعفر الذي تولى الخلافة فيما بعد باسم المقتدر، لأنه رأى ابنه الطفل شديد الكرم مع أترابه الأطفال يقسم الطعام بينه وبينهم بالتساوي،فخاف إن تولى الخلافة أن يبسط يده في توزيع الأموال فتضيع هيبة الدولة وثروتها ، وتحقق ما تنبأ به المعتضد حين تولى ابنه المقتدر وأسرف في تضييع الجواهر العباسية التي حافظ عليها أسلافه.

ثانيا : المعتضد الداهية

   1 ـ  وفي العصر العباسي الثاني انتشر اللصوص المعروفون باسم العيارين وكان لأحدهم قصة مع المعتضد يظهر منها دهاء المعتضد وسعة حيلته وقسوته،  حدث أن أعطى المعتضد مرتبات الجند لناظر الجيش ،واستيقظ ناظر الجيش فوجد اللصوص قد نقبوا منزله وسرقوا الأموال  بتمامها وفي صناديقها .. ونشط صاحب الحرس واسمه مؤنس العجلي في العثور على اللصوص ، فاستدعى رؤوس العيارين وهددهم وكلفهم بإحضار المجرمين فتفرقوا في الدروب والأسواق وحانات الخمر وفي النهاية أحضروا رجلاً نحيفاً ضعيف الجسم رث الثياب وغريباً عن البلد ، فاستكثر صاحب الشرطة أن يقوم هذا الرجل بحمل صناديق المال وحده ولكنهم أكدوا له أنه وحده اللص ، فأقبل عليه يستجوبه فأنكر وصمم على الإنكار .. فأخذ يمنيه ويعده ويداهنه فلم يزدد إلا إنكاراً ، فلما يأس منه ضربه بالسوط والمقارع إلى أن غاب عن الوعي ولم يعترف .

2 ـ  وعرف المعتضد بالموضوع فأنّب صاحب الشرطة لأنه قد يهلك اللص وبذلك تضيع الأموال ، وكان عليه أن يحتال عليه ليعرف منه أين خبأها..فأقر صاحب الشرطة بأن كل حيلة معه قد فشلت في ذلك الرجل  ، فأمر المعتضد بإحضاره إليه.

3 ـ . وجاءوا له بالرجل مقيداً ، فقال له الخليفة : " ويلك،إنك إن مت لم ينفعك ذلك المال ،وإن برئت من التعذيب وعشت فلن أدعك تصل إلى المال ، ولكن إن اعترفت بالمال أعطيتك الأمان وضمنت لك إصلاح حالك. "  وأبى الرجل إلا الإنكار .. فأمر الخليفة بعلاجه ورعايته ، وأعطى مرتبات الجند من عنده .. وبعد مدة سأل عن اللص فعرف أنه أصبح صحيحاً معافى ، فاستدعاه ، وسأله عن المال فأعاد الإنكار فأخذ الخليفة يُمنّيه ويعده بالوظائف والعفو إن أعاد المال ، فصمم الرجل على الإنكار .. فاستحلفه بالأيمان المغلظة فحلف له إن ظهرت إدانته فيكون  حلالا دمه . وكاد الخليفة يقتنع ببراءته. ثم أجرى عليه الامتحان الأخير..

4 ــ أمر ثلاثين من العسكر أن يلازموه ليل نهار ثلاثة أيام يمنعونه النوم، فظل قاعداً لا يتكئ ولا يستند ولا يستلقي ولا يضطجع حتى قارب عليه التلف ، فاستدعاه الخليفة واستحلفه ، فحلف له انه ما سرق المال، فقال الخليفة للحاضرين : "بذلك تظهر براءتك وقد أثمنا في حقك .. وحان وقت إكرامك" . ثم أمر بإعداد مائدة فخمة وأمره بالأكل معه منها،وصار يؤاكله حتى امتلأ ، ثم أمر له ببخور وطيب فتطيب،وهو لا يعقل من شدة حاجته للنوم . ثم سمح له الخليفة بأن ينام على سرير وثير. فلما استلقى وغفا أمر الخليفة بسرعة إيقاظه  ، فحملوه إليه وفي عينيه النوم لا يحس بما حوله ،  فقال له الخليفة : " حدثني كيف صنعت ، وكيف نقبت البيت ؟ ومن أين خرجت ؟ وإلى أين ذهبت بالمال؟ ومن كان معك ؟ فقال له وهو لا يدري من غلة النوم عليه  : " ما كنت إلا وحدي ، وخرجت من النقب الذي دخلت منه ، وكان مقابل الدار حماماً له كوم من الشوك يوقدون به ، فأخذت المال ورفعت ذلك الشوك ووضعت تحته المال وهو هنالك .

5 ـ   فأمر الخليفة برده إلى فراشه . وأمر بإحضار المال من الموضع الذي قال عنه اللص ، فأحضروه ، وحضر القواد ورئيس الشرطة ، ثم أيقظوا اللص بعد أن اكتفى من النوم ، وجاء به إلى مجلس الخليفة ، فأعاد الخليفة استجوابه  ،فأخذ يؤكد براءته وينكر السرقة، فأمر الخليفة بكشف البساط فظهر المال ، فلما رآه اللص أسقط في يده وأمر المعتضد بقتله شر قتلة.

ثالثا : المعتضد يضحك .!!

قصة طريفة للمعتضد مع ابن المغازلي المضحك.

1 ـ  كان ابن المغازلي يكتسب عيشه من الوقوف في الطريق يقص القصص والنوادر والمضاحك  ، وكان في غاية الظرف لا يستطيع من يسمعه إلا أن يضحك . ويحكى ابن المغازلي قصته مع المعتضد، ونرويها بألفاظه وكلامه  فهي أصدق في التعبير عن شخصه وظرفه .

2 ـ يقول : ( .. فوقفت يوماً في خلافة المعتضد على باب القصر أضحك وأنادر ، فحضر حلقتي بعض خدم المعتضد  ، فأخذت في حكاية الخدم  فأعجب الخادم بحكايتي  ، ثم انصرف عني .. فلم يلبث أن عاد وأخذ بيدي وقال : " إني لما انصرفت عن حلقتك دخلت فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين فذكرت في نفسي حكاياتك ونوادرك فضحكت فرآني أمير المؤمنين فأنكر ذلك مني وسألني فقلت له : يا أمير المؤمنين ، على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يضحك ويحاكي ولا يدع حكاية أعرابي وتركي ونبطي وزنجي وسندي إلا حكاها ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثكول ،  وقد أمرني الخليفة بإحضارك ولي نصف جائزتك.".فقلت له وقد طمعت في الجائزة الثانية : " يا سيدي أنا ضعيف وصاحب عيال ، وقد منّ الله على بك فما عليك إن أخذت سدس الجائزة أو ربعها ".! . فأبى الخادم إلا نصف الجائزة، فرضيت لنفسي بالنصف.

3 ( فأخذ بيدي وأدخلني على الخليفة ، فسلمت عليه وأحسنت ، ووقفت في الموضع الذي أوقفت فيه ، فرد على السلام ، وقد كان ينظر في كتاب ، فلما انتهى منه رفع رأسه إلىّ وقال : " أنت ابن المغازلي ؟ قلت : " نعم يا أمير المؤمنين " ، قال : " قد بلغني عنك أنك تحكى وتُضحك وأنك تأتى بحكايات عجيبة ونوادر ظريفة . " ، قلت  : " نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تفتق الحيلة وهى طريقة اكتسب بها عيشي ، " . قال: " فهات ما عندك وخذ في فنّك، فإن أضحكتني كافأتك بخمسمائة درهم ،وإن لم أضحك فما لي عليك ؟ " فقلت لسوء حظي وخذلاني : " ما معي يا أمير المؤمنين إلا قفاي ، فاصفعه ما أحببت وكم شئت وبما شئت " فقال لي:" قد أنصفت ،إن ضحكت فلك ما ضمنت لك ،وإن أنا لم أضحك صفعتك بهذا الجراب عشر صفعات. "  ، فقلت في نفسي : " إنه لا يصفع إلا بشيء يسير وبشيء خفيف هين .". ثم التفتُّ إلى الجراب فإذا هو شيء ناعم في زاوية البيت ، فقلت في نفسي : " ما أخطأ حزري ولا أخلف ظني وما عسى أن يكون من جراب فيه ريح ؟ إن أنا أضحكته ربحت ، وإن أنا لم أ ضحكه فأمر عشر صفعات بجراب منفوخ أمر هين ..! " .

4 ( . ثم أخذت في النوادر والحكايات  ،فلم أدع حكاية أعرابي ولا نحوى ولا مخنث ولا قاض ولا زيطى ولا نبطي ولا سندي ولا زنجي ولا خادم ولا تركي ولا شاطر ولا عيار إلا أحضرتها وأتيت بها ، حتى نفد جميع ما عندي وتصدع رأسي وانقطع حسّي فسكتُّ وبردتُ ، فقال لي : " هية ، هات ما عندك.! "، وهو مغضب لا يضحك ولا يبتسم ، ولم يبق وارئي خادم إلا هرب بسبب غلبة الضحك عليه والخليفة كما هو مقطب الجبين .. فقلت له : " يا أمير المؤمنين قد نفد والله ما معي ، وتصدع رأسي وذهب معاشي وما رأيت قط مثلك ، وما بقيت لي إلا نادرة واحدة .! " . فقال  : "هاتها " ، فقلت: " يا أمير المؤمنين وعدتني أن تصفعني عشراً وجعلتها مكان الجائزة فأسالك أن تضاعفها وتضيف إليها عشراً ." . فأراد أن يضحك ولكنه تماسك ، ثم قال : " يا غلام خذ بيده " . فأخذ بيدي ومددت قفاي ، فصفعني بالجراب صفعة فكأنما سقطت على قفاي قلعة ، وإذا في الجراب حصى مدور كأنه صنجات ، فصفعت به عشر صفعات كادت أن تنفصل رقبتي وينكسر عنقي ، وطنّت أذناي ، وقدح الشعاع من عيني ، فلما استوفيت العشرة صحت : " يا سيدي نصيحة.! " ، فرفع الصفع عني بعد أن عزم على تكملة العشرة الباقية ، فقال : " ما نصيحتك ؟ " قلت : " يا سيدي إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة ولا أقبح من الخيانة ، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني عليك نصف الجائزة على قلتها أو كثرتها ،  وأمير المؤمنين  ــ  أطال الله بقاءه ــ  قد أضعفها ، فقد استوفيت نصفها ، وبقى لخادمك نصفها ." .  

5 ــ ( فضحك الخليفة حتى استلقى ، واستفزّه ما كان قد سمعه مني أولاً ، وكان يتحامل عليه ويصبر ويكتم ، فلما انطلق في الضحك غلبه الضحك ، فما زال يضرب بيده ويفحص برجليه ويمسك ببطنه ، حتى إذا سكن ضحكه ورجعت إليه نفسه قال : "علىّ  بفلان الخادم  . " فأُتي به ،وكان طويلا جسيما ، فأمر بصفعه ، فقال : " يا أمير المؤمنين وما جنايتي؟ . قلت له: " هذه جائزتي وأنت شريكي ، وقد استوفيت نصفها وبقي النصف الآخر لك ." .. فلما أخذه الصفع وطرق قفاه الصافع أقبلت عليه أقول له : " قلت أني ضعيف وصاحب عيال وشكوت له الحاجة والمسكنة وأقول لك : يا سيدي لا تأخذ نصف الجائزة لك سدسها أو ربعها ، وأنت تقول : ما آخذ إلا نصفها ، ولو علمت أن أمير المؤمنين ـ  أطال الله بقاءه ــ جوائزه كلها صفع وهبتها لك كلها.! " ، فعاد الخليفة إلى الضحك من قولي للخادم وعتابي له ، فلما استوفى صفعه ، وسكن أمير المؤمنين من ضحكه أخرج صرة قد أعدها فيها خمسمائة درهم ، فقسمها  بيني وبين الخادم .)

أخيرا : آخر نكتة للمعتضد

 1 ــ ومرض المعتضد ، ومات يوم الاثنين 22ربيع الآخر سنة 289هـ .

2 ـ وظلت هيبته قائمة وهو يموت ، ظلوا يخافون منه .  وقد شكُّوا في موته وهو يحتضر، فتقدم منه الطبيب فجسّه فأحس به المعتضد وفتح عينيه ، فركله برجله فتدحرج الطبيب ومات لوقته من الفزع .. ومات المعتضد بعده .. !! .

3 ـ  وكانت هذه آخر نكتة فى تاريخ الخليفة المعتضد .

اجمالي القراءات 16739