من أجل الربيع المصري القادم

كمال غبريال في الخميس ١٦ - يونيو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

رغم أن "الثورة" لم تكن يوماً في تاريخ الشعوب أمراً مخططاً له إجمالاً أو تفصيلاً، إلا أن الفارق شاسع بين ما يمكن ‏تسميته "هوجة" أو "فوضى"، وبين ما يستحق تسميته "ثورة". فالثورة ‏Revolution‏ قلب لأوضاع قائمة مرفوضة، لتحل ‏محلها أوضاع أخرى مرغوبة، لذا فإن أي تحرك جماهيري يؤدي فقط إلى هدم القائم المرفوض، دون أن يتبعه ولو بعد ‏حين (قد يطول أو يقصر) التأسيس لبناء جديد أرقى حضارياً، وأكثر قدرة على تلبية تطلعات الجماهير التي قامت ‏بالثورة، لن يستحق هذا التحرك تسمية "ثورة".‏

وإذا كان الشق أو المرحلة الأولى من "الثورة" عملاً جماهيرياً يبدأ عفوياً، والأغلب أن تستمر العفوية وغياب التخطيط فيه ‏أغلب الوقت، فإن الشق الآخر أو المرحلة الثانية التي يتم خلالها تأسيس الواقع الجديد لابد وأن تستند لمقومات مادية ‏ومعنوية يفترض أن تكون موجودة في أرض الواقع، وكانت تنتظر التخفف من هيمنة النظام القديم، لتتمكن من الفاعلية ‏والتحقق.‏

يأتي بنا هذا إلى البحث في هذه المقومات، التي تقوم عليها عملية التغيير الجذري الشامل في المجتمعات ومؤسساتها، ‏وليس مجرد عمليات إصلاح جزئي لا تحتاج للثوارت بتكاليفها المجتمعية والاقتصادية الباهظة.‏

تقوم المؤسسات صغيرها وكبيرها على أربعة عناصر: المقومات المادية ‏hardware- النظام ‏system(القواعد ‏والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)- العنصر البشري (بمؤهلاته المهنية والشخصية) ‏human resources‏- الفكر ‏software‏ الذي يهيمن على إدارة العمل بسائر مستوياته. تحتاج هذه العناصر الأربعة لكي تعمل ‏معاً بطريقة صحيحة لأن تكون متوافقة ‏compatible.‏

في معرض التغيير الجذري وليس مجرد التحسين، يحتاج الأمر لتغيير متواز ومتوافق في العناصر الأربعة معاً. فتقوية ‏أو تغيير عنصر واحد أو أكثر مع بقاء عنصر أو أكثر لم يمسه التغيير لن يؤدي في أغلب الأحوال للنتائج المطلوبة. ‏ليس فقط لضعف تأثير عنصر واحد مستجد على ثلاثة عناصر باقية على حالها، بما يشكل افتراضاً غير دقيق بأن ‏نسبة تغيير واحد مقابل ثلاثة تشكل 25% من حجم التغيير المطلوب، ولكن لأهمية التوافق ‏compatibility‏ بين ‏العناصر الأربعة مع بعضها البعض. فالفكر ‏software‏ الجديد مثلاً لإدارة المؤسسة أو الدولة، لن يعمل في ظل بقاء ‏العناصر الثلاثة الأخرى غير المتوافقة معه على حالها، وسيظل في هذه الحالة مجرد كلام إنشائي غير مفعل عملياً.‏

ولقد اختبر كاتب هذه السطور في حياته العملية في شركة قطاع عام هذا الأمر، حيث حاول رئيس الشركة القفز بأدائها ‏عبر تغيير عنصر واحد وهو النظام ‏system‏ (القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)، وذلك بالحصول ‏على شهادة الأيزو ‏ISO، والتي تعيد ترتيب القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل وفق أحدث نظم الإدارة، ‏وهو نظام الجودة الشاملة ‏Total Quality، بالطبع مع بقاء العناصر الثلاثة الأخرى على حالها، وأخطرها كل من ‏العنصر البشري ‏human resources‏ والفكر ‏software‏. كانت النتيجة رغم حصول الشركة بالفعل على شهادة ‏الأيزو ‏ISO‏ باعتماد من شركة عالمية متخصصة هي صفر كبير، وبقيت نظم الأيزو المفروضة مجرد أوراق يتم تلفيقها ‏على عجل، قبيل كل تفتيش دوري من الشركة المعتمدة للشهادة، وظلت النظم والقواعد القديمة هي المطبقة فعلياً على ‏أرض الواقع، تحت حراسة ورعاية كل من العنصر البشري ‏human resourcesالمتخلف، والفكر ‏software‏ الأشد ‏تخلفاً.‏

الحماسة إذن والشعارات والصراخ والمظاهرات قد تقلب أو تهدم نظاماً، لكنها غير قادرة على تأسيس واقع جديد أكثر ‏تحضراً. فالجديد المأمول إن لم تتوفر مقوماته لن نناله أبداً، وهي تلك العناصر الأربعة التي لابد أن تتغير معاً، لتكون ‏متوافقة ‏compatible‏ ومن ثم قادرة على العمل المتناغم.‏

نقول هذا تنبيهاً وتحسباً لتطلعات المستقبل، لأن الربيع المصري في 2011 في سعيه للتغيير لم يتخلص فقط من بعض ‏من العناصر الأربعة سابقة الذكر، لتحل محلها عناصر جيدة منفردة، وترك بقية العناصر على حالها ففشل التغيير، ‏ولكن ما حدث هو أننا وضعنا رموز النظام القديم في السجن، وأتينا أولاً عبر انتخابات ديموقراطية برموز جديدة من أهل ‏التقوى والورع الديني، والذين ربما يعرفون فقط وحصرياً معالم الطريق إلى جنة الخلد في الحياة الآخرة، ثم استبدلناهم ‏عبر ثورة أخرى، أتت بمن ربما قد نثق فقط وحصرياً في مقدرتهم على قيادة الدبابات وإطلاق الصواريخ وتحريك ‏الأساطيل والطائرات في أزمنة الحرب. وكلا التغييرين ببساطة كان تغييراً لعنصر واحد هو العنصر البشري ‏human resources، وتصادف لسوء الحظ أن كان التغير للأسوأ وليس للأفضل!!‏

اجمالي القراءات 6677