( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٢ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

تساءلت الأستاذة نهاد حداد ـ أكرمها الله جل وعلا ـ  فى مقالة نشرتها فى موقعنا ( أهل القرآن ) عن المراد بقوله جل وعلا : ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )(12) التحريم )( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا )(91) الانبياء ). وأكتب هذا المقال تدبرا فى هذا الموضوع راجيا التوفيق من رب العزة جل وعلا .

 أولا : معنى : ( فرج ،  فروج )

1 ـ هناك ( الفرج ): بفتح الفاء وفتح الراء ، كأن تقول :" كنتُ فى محنة وجاءنى الفرج" . بمعنى أن ظلمة المحنة أطبقت عليك وأحاطت بك ثم جاءت (طاقة النور) أو الفرج فتم إنقاذك . أو مثل السجين الذى يتطلع الى ( طاقة أو نافذة أو فرج ) فيكون مطلق السراح ، ومثل قول الشاعر :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى   ذرعا وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما إستحكمت حلقاتها   فُرجت وكنت أظنها لا تُفرج

المعنى أنه إستحكمت حلقاتها حوله ، ثم جاءه الفرج ، نافذة من النور وسط الظلام . و( فرج ) من الأسماء الشائعة ، وهو إسم صديقى الراحل د . فرج فودة ، رحمه الله جل وعلا . وأيضا ( ابو الفرج ) ، والمؤرخ ابن الجوزى ( ت 597 ) كنيته ( أبو الفرج ) . وهناك  كتاب ( الفرج بعد الشدة ) للقاضى التنوخى ( المحسن ابن ابى الفهم ) ( 327 : 384  )،وقد خصصه لقصص عن أناس كانوا فى ضيق ومحنة ثم جاءهم الفرج . لفظ ( الفرج ) بفتح الفاء وفتح الراء  ـ لم يرد فى القرآن الكريم ، وإن ورد معناه فى آيات كثيرة،كقوله  جل وعلا:( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) الشورى)،( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) الشرح ).( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) يونس ) (  وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) الاسراء ) (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)الزمر).

 2 ـ ( فروج ) بضم الفاء ، أى (فُرجة ) بضم الفاء كنافذة أو شق فى بناء محكم . يقول جل وعلا عن تصميم الكون : ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ )( 6 ) ق )، ( ما لها من فروج ) ، اى ليس فيها فروج أى شقوق ،فالكون بناء مُحكم لا ثقوب فيه. وشرح هذا رب العزة جل وعلا هذا فى آيات كريمة تؤكد أنّ رب العزة جل وعلا خلق كل شىء بإحكام وبتقدير:( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) القمر )،( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الفرقان )، ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) الرعد). أو هو بالميزان أو التوازن الذى يحكم مسيرة الكون  من الذرة الى المجرة، يقول جل وعلا : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) الرحمن ) .و لا مجال فيه لأى فجوة أو تفاوت:( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) الملك ). هذا معنى أن السماء ( ما لها من فروج ).

ولكن هذا البناء المُحكم للكون سينهار فجأة ، والكون الذى ( لا فروج فيه) سيمتلىء فجأة بالفروج أو الشقوق ، يقول جل وعلا: ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( 9 )المرسلات). وشرحها رب العزة جل وعلا فقال : ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)) وقال : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) الحاقة )، ( إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) الانفطار ) ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)المرسلات )،( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) التكوير).

3 ـ ( الفرج ) ، بفتح الفاء وسكون الراء ، و الجمع : ( فروج ) بضم الفاء وضم الراء : عن الأعضاء التناسلية للذكر والأُنثى :

من الشهر السابع تنمو أوصال الجنين وتزداد نموا، فتبرز أصابعه فى الشهر الثامن ، ويستمر فى النمو الى أن تتكون أعضاؤه التناسلية فى الاسبوع السادس عشر. تتكون بين الساقين، أى فى ( فُرجة ) بين الساقين . جسم الانسان يتفرع الى ساقين ، بينهما (فُرجة ) يحتلها العضو التناسلى . ومن هنا جاء إطلاق إسم ( الفرج ) على العضو التناسلى للذكر والأنثى ، بإعتبار المكان الذى تكوّن ليوجد فيه. لذا فإن مصطلح ( الفرج ) هو للذكر وللأنثى ، يقول جل وعلا : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) النور ).

 والتعبير القرآنى ( فرج / فروج )عن العضو التناسلى للإنسان بالغ الرقى والتحضر ، فهو منسوب للمكان ( الفُرجة ) بين الساقين ، وليس إسما خاصا بهذا العضو أو بما يرتبط به من شهوة . وفى الموضوعات الجنسية والأعضاء الجنسية يوجد مستويان للتعبير فى ألسنة البشر: المستوى الراقى الذى    نجده فى التعبير القرآنى عن العملية الجنسية ، فهى ( التّماس ): ، كقوله جل وعلا  (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) (3) المجادلة ) (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ .. )(237) البقرة) و(المباشرة ) : ( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) ( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )(187)البقرة )،و( الملامسة ) (أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ )النساء (43) المائدة 6 ). ونفس المستوى الراقى لاسم العضو الجنسى يأتى وصف المكان ( الفُرجة ) بين الساقين . ثم هناك المستوى الهابط والمعروف والمتداول . وكل إنسان ـ مهما بلغت تقواه ـ يستعمل أحيانا الاسلوب الهابط ، يقوله الزوجان مثلا فى نشوة اللقاء الجنسى ولكن يخجلان من قوله فى الأوقات العادية ، ولا يتفوهان به أمام الناس أو أمام الأولاد .

ثانيا : معنى ( حفظ الفروج )

  1 ـ ومن التعبير القرآنى الراقى  ( حفظ الفروج )، وهو تعبير مجازى رائع . إذ لا يعنى حفظ العضو التناسلى فى ( حزام العفة ) كما كان يحدث فى اوربا العصور الوسطى حيث كان الفارس الصليبي قبل خروجه للحرب يجبر زوجته على ارتدائه، ويغلقه ويحمل مفتاحه معه حتى لا تخونه في غيابه. التعبير القرآنى عن حفظ الفروج لذكر والأنثى معا:(  وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ )( الاحزاب 35 ). وهو ضمن صفات المؤمنين المفلحين من الرجال والنساء، فى قوله جل وعلا : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) المؤمنون ). ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31) المعارج ).

2 ـ المعنى المجازى هو العفة الجنسية أى حفظ الانسان نفسه من الوقوع ليس فقط فى جريمة الزنا ولكن أيضا فى مقدمات الزنا . وهذه العفة تبدأ بالقلب لأنها عفة إيمانية فى الأساس يقوم بها من يتقى ربه جل وعلا فى السّر قبل العلن . ثم إن الشهوة الجنسية تبدأ بالتفكير ( الشهوانى ) ، وبالتالى فإن العفة (أى حفظ الفرج ) من الوقوع فى الزنا يبدأ بمنع القلب من التفكير الجنسى  ثم ما يتلوه من الكلام والهمس واللمس وكل المقدمات المعروفة قبل المباشرة الجنسية . والله جل وعلا يحرّم الزنا والعادة السرية وكل مقدمات الزنا فى قوله جل وعلا :( فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) المؤمنون ( المعارج 31) ، وفى قوله جل وعلا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) الاسراء  ) .

 

ثالثا : معنى (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا )

1 ـ هذا التعبير القرآنى الراقى (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) هو ايضا تعبير مجازى ، لم تقم بوضع العضو الجنسى فى ( حصن ) أو ( قلعة منيعة ) بل هى العفة التامة .

2 ـ ويلاحظ  ألفارق بين تعبيرى ( حفظ الفروج ) (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا  ). ( حفظ الفروج ) جاء أمرا للمؤمنين عموما ذكورا وإناثا ، وهو أمر مقيد بحفظها من الزنا فقط ، وليس منعها من التلاقى الجنسى الحلال . أما (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) فليس أمرا ، بل جاء وصفا خاصا بمريم إبنة عمران ـ بعد موتها بقرون ـ فى معرض المدح ، وهو وصف يبالغ فى عفتها بأن ينسب اليها أنها هى قامت من تلقاء نفسها بالإحصان ((أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا )، وهو أشد دلالة من مجرد ( الحفظ )، ثم هو إحصان كامل وتام عن الموضوع الجنسى كله حلالا أو حراما . جاء هذا فقط فى قوله جل وعلا عن مريم ابنة عمران:( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )(12) التحريم )( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا )(91) الانبياء ).

رابعا : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ).

1 ــ ان" الروح " هو جبريل عليه السلام ومايتعلق به.  ولأن جبريل عظيم القدر بين الملائكة فالله جل وعلا يذكره بينهم مميزا وبما يوحى بهذه المكانة ، يقول جل وعلا عن الهول العظيم يوم القيامة "( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) النبا ) ويقول جل وعلا  عن ليلة القدر ونزول الروح مع الملائكة فيها بأوامر الله تعالى فى الخلق والرزق والقضاء والقدر:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر ) .وهنا ربط بين الروح والأمر الالهى. وسنجد ذلك الربط يصاحب الروح جبريل فى النسق القرآنى.

2 ـ  ذلك لأن للروح جبريل وظائف  محددة بالنسبة للعلاقة بين الله تعالى والبشر. إنه الذى حمل الرسالات  الالهية للبشر ، لذلك يوصف أحيانا بأنه رسول؛ يقول تعالى عن القرآن الكريم وجبريل ورؤية خاتم النبيين محمد له حين نزل جبريل بالوحى القرآنى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)) هذا الكلام الهائل وصف لجبريل.بعده يقول تعالى عن محمد عليه السلام مخاطبا قريشا المعاندة (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) ) ، وأنه رأى جبريل بالأفق المبين:( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) التكوير ). أى أن محمدا عليه السلام رأى جبريل رؤية واضحة فى الأفق المبين. وحين تحدث بها اتهمته قريش بالجنون. وهذا ما جاء فى مطلع سورة النجم عن اول لقاء رأى فيه الرسول محمد عليه السلام جبريل ، وتم فيه (طبع ) الكتاب الالهى فى قلبه عليه السلام : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) ).  إن لجبريل أوصافا كثيرة مثل الرسول وذى القوة والمطاع والمكين والأمين وشديد القوى ، ولكن أهم أوصافه وأسمائه هو ( الروح ) لارتباط وصف الروح بالمهام أو الأوامر النى يقوم بها جبريل والتى تتلخص فى حمل الكلمة الالهية أو الأمر الالهى ( كن ).

3 ـ فالروح جبريل هو الذى حمل الأمر الالهى بخلق آدم. والله تعالى يقول للملائكة فى ذلك السياق : (  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحجر ) ، فالياء فى كلمة"روحى" تفيد الملكية كما تقول كتابى ، اى الروح الذى امتلكه.

وقد خلق الله جل وعلا ( آ دم ) بدون اب وام ، ثم خلق المسيح  عليه السلام بدون اب ، وارسل (الروح ) جبريل الى مريم يحمل الامرالالهى"كن" فكان بشرا سويا. والله جل وعلا يقول عن خلق المسيح وكونه مثل خلق آدم: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) آل عمران ). وكما قال عن خلق آدم : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )، قال عن خلق عيسى وأمه مريم: :( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )(12) التحريم )( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا )(91) الانبياء ).

ويصور رب العزة جل وعلا مجىء (جبريل / الروح ) الى السيدة العذراء فيقول: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) مريم ) جاءها ( جبريل / الروح) أو بتعبيره جل وعلا : ( روحنا ) و (مريم ) العفيفة التى أحصنت فرجها ــ فزعت من رؤيته فى خلوتها : ( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً (18) مريم ) وردّ عليها جبريل بأنه رسول من رب العزة يحمل الأمر ( كُن ) : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) مريم ) ، وتساءلت مستغربة : ( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً (20)مريم ) وردّ جبريل بأن رب العزة جل وعلا جعله هينا :  ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (21)  مريم ) .  

وبسبب ارتباط المسيح عليه السلام بجبريل الروح فقد اصبح من القا ب المسيح كلمة الروح . يقول تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (171)  النساء ) .

4ـ ومن وظائف الروح جبريل النزول بالوحى ومعه ملائكة الوحى . والله سبحانه وتعالى يقول عن كل الرسالات السماوية: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) النحل ) ويقول أيضا  : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي (15) غافر ) .  

ونزل الروح جبريل بوحى القرآ ن على خاتم النبيين عليهم جميعا السلام، والله سبحانه وتعالى يقول عن جبريل ونزوله بالوحى القرآنى على قلب خاتم النبيين  : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) البقرة ) . ويقول جل وعلا  أيضا عن القرآن ونزول جبريل ( الروح ) به: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)  النحل ) ، ويقول جل وعلا ايضا عن القرآن ونزول جبريل ( الروح الأمين ) به على قلب خاتم النبيين : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) الشعراء ) . وبسبب ارتباط القرآن  بجبريل الروح فإنه – اى القرآن – قد اكتسب ايضا وصف الروح، يقول تعالى عن القرآن: (  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا )  (52) الشورى ) .  ويتبع وظيفة انزال الوحى قيام الروح جبريل بتأييد المؤمنين المتمسكين بالوحى ، يقول جل وعلا : (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (22) المجادلة )

5 ـ وكان مشركو  قريش فى عنادهم وجدالهم حول القرآن الكريم يسألون عن الروح جبريل فقال سبحانه وتعالى يرد عليهم يربط بين الروح جبريل وأمر الله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) الاسراء ) الى أن يقول تعالى عن القرآن الكريم : ( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) الاسراء)، اذن فالحديث عن الروح أى جبريل والوحى القرآنى. ولأن ( الروح / جبريل) ( غيب ) من الملأ الأعلى فهو  فوق ادراك البشر لأنه: ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) الاسراء ) . أما النفس البشرية داخلنا فهى مستودع اسرارنا وسريرتنا وغرائزنا ،أى أن من الممكن أن يعرف الانسان ما تريده نفسه ،والله جل وعلا  يقول عن الانسان : ( بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) القيامة )   فالإنسان بصير بنفسه وسريرته ولكنه لايعلم شيئا عن الروح جبريل عليه السلام.

6 ـ إن الانسان يتكون من نفس وجسد  والله جل وعلا يتكلم عن أبناء آدم فى جميع اطوارهم بأنهم أنفس ، وليسوا أرواحا. فعن خلق الانسان يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )(1) النساء) . وعن الوفاة يقول جل وعلا : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا )(42) الزمر). فالنفس هى التى تخرج من ثوبها الجسدى عندالموت وليست الروح ، ويقول جل وعلا عن البعث : (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ  )(28) لقمان )، ويقول جل وعلا عن الحشر يوم القيامة: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق ) ويقول جل وعلا عن الحساب والجزاء لكل نفس:(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)).   اذن ففى داخل كل منا نفس وليست الروح على الاطلاق. أما الروح فهو جبريل عليه السلام الذى يحمل أوامر الله تعالى حين خلق آدم وحين خلق المسيح حين حمل كلمة ( كُن ) .

7 ــ  وهذا ـ فى رأينا ـ هو معنى قوله جل وعلا :( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )(12) التحريم )( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا )(91) الانبياء ).   

اجمالي القراءات 12198