العلمانية في البوسنة والهرسك

سامح عسكر في الثلاثاء ١٧ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

من منا لا يعرف هذه البلد في قلب يوجوسلافيا السابقة؟..إنها أحد أشهر الأمم والدول في قلب العالم الإسلامي..نظرا لارتباطها في صراع مع الصرب السلافيين في منتصف التسعينات ، وتعرضها لمجازر وإبادة جماعية أشهرها مذبحة.."سربينتشا"..عام 1995، وهو نفس العام الذي شهد إيقاف الحرب البوسنية بتوقيع اتفاق دايتون للسلام..

كنت وقتها عضو في الإخوان لم يبلغ عامه ال 15 ،وذكرياتي لا تنسي الأغاني والأناشيد المحفزة للجهاد في البوسنة ومظلومية شعبها المسلم، ونشيد سراييفو الحزين بمقام الصبا، حتى غرسوا في الشباب أن قتل البوسنيين لسبب وحيد وهو.."كونهم مسلمين"..إذن هي مؤامرة على الإسلام، عزز ذلك مشاهد التعذيب والقتل والصور التي تأتينا وتعلق في المساجد..فترجمنا هذه الصور فورا مع مشاهد تعذيب قريش للمسلمين، وتعززت لدينا القناعة أن الإسلام في خطر..وعلينا تحصين أنفسنا جيدا بنشر الدعوة أكثر وأكثر..ومعها نشر مظلومية شعب البوسنة..

في الحقيقة لم نتأكد من صحة الصور التي كانت تأتينا، فوقتها لم يكن هناك إنترنت ولا تواصل اجتماعي لنكتشف الحقيقة.. كما اكتشفناها الآن في بورما التي أصبحت رمز للسخرية وموضوع شيق ومربح في ذات الوقت لكسب التعاطف المزيف بالصور المفبركة مجهولة المصدر..لكن مع ذلك فالأمم المتحدة شهدت على وقائع تعذيب واغتصاب وقتل جماعي..والعالم كله شهد بذلك وتم إدانة الجناه في محاكم العدل الدولية..لكن لا يعني ذلك أننا لم نقع ضحية لآلة الإعلام السلفي التحشيدية التي كانت تستهدف الشباب قبل كل شئ..

البوسنة والهرسك ارتبط إسمها بالجهاد..لكن مع ذلك أصبحت كالشيشان التي جاهد من أجلها المغفلون حتى اختار شعبها العلمانية والولاء لروسيا في الأخير، فلم تعد البوسنة ذلك المكان الجميل والصرح الخلّاب الذي سيستقبل جنود الخلافة لتطبيق الشريعة، الوضع تغير وسادت قيم الحداثة في البوسنة بسرعة الصاروخ..حتى لم تعد قيم السلفية والإسلام التراثي حاضرة في الوعي الأممي للبوسنيين، وشاع التحضر والتمدن الأوربي بعد مطالب للانضمام إلى أقوى اتحاد في العالم بعد أمريكا وهو الاتحاد الأوروبي..

البوسنة ليست كما يظن البعض أن كل أهلها مسلمين، بل يمكن القول أن أقل من 50% فقط مسلمين، والباقي 35% صرب أرثوذكس و15% كروات كاثوليك، ونسبة قليلة من البروتستانت والأديان الأخرى، أي أن أكثر من نصف سكان البوسنة ليسوا مسلمين، وهذه حالة اجتماعية لا تساعد على نشر مبدأ الأسلمة بالضبط كحالة شعب لبنان متعدد الأعراق والديانات.

الصرب بانتمائهم للقبائل السلافية أرثوذكس تابعين لكنيسة موسكو، وخلافهم مع الكروات الكاثوليك أقل عنفا مما حدث مع مسلمي البوسنة الذين يعرفون (بالبوشناق) أي طغى الخلاف الصربي البوشناقي أو (الإسلامي الأرثوذكسي) على غيره من الخلافات، وعليه كان يجب أن يكون محور البحث في مشكلة البوسنة من هذا الطريق..بدلا من الدخول في قضية اليسار واليمين أو الشيوعية والليبرالية..كما اعتاد مفكرو الحرب البادرة على التحليل به، وفي تقديري أن الجزء الأكبر من المشكلة كان من هذا الجانب (القومي والديني) أكثر من السياسي..

أما الجانب العرقي فالمثير أن البوشناق البوسنيين هم (سلاف) أيضا، أي أخوة وأشقاء للصرب، لكن في التاريخ محطات انفصلوا فيها عن بعضهم بدءا-في تقديري- من سقوط القسطنطينية عام 1453م، وحرص الدولة العثمانية على نشر الإسلام في البلقان، فنتج عن ذلك أن تدين أكثرية البوشناق بالدين الإسلامي، في حين فشل العثمانيون في أسلمة الصرب، وهنا حدثت القطيعة..

لكن عادت البوسنة جزء من كيان يوجوسلافيا في عهد.."جوزيف تيتو"..(ت 1980م) الذي استمر حكمه 27 عام ، نقل فيها الرجل شعوب يوجوسلافيا إلى الحرية والتمدن –بمن فيهم شعب البوسنة، وسادت قيم العلمنة، واحترمت الدولة التنوع والتعدد الديني والقومي الذي ميز البلاد منتصف القرن العشرين، حتى أضحت يوجوسلافيا أحد أهم القوى في العالم مع مصر والهند في التجمع السياسي المعروف.."بدول عدم الانحياز".

الآن عادت العلمانية وبقوة في المجتمع البوسني، لكن على ما يبدو أن بها لمحة أتاتوركية من ناحية القضاء، حيث أصدر القضاء حكمه في (فبراير الماضي) بحظر ارتداء الحجاب وكل الرموز الدينية في المؤسسات القضائية، والرموز تعني ما يصنف أتباعه ويعرفون بتدينهم .."كالصليب المسيحي-والطاقية اليهودية-والحجاب الإسلامي"..وهو نفس القرار الذي اتخذ في فرنسا وبعض دول أوروبا منذ سنوات، وبسببه احتشد المسلمون في الشوارع احتجاجا على ما أسموه.."بالقمع الديني"..

هي حالة فصام عقلي يعاني منها المسلمون في الغالب، لأن مجتمعاتهم لا ترضى برموز وأديان ومعابد المخالفين في الدين والرأي، لذلك كان احتجاجهم يثير نوزاع السخرية من فرط جهلهم الذي تسببت فيه أنظمة الاستبداد والقمع الحاكمة منذ قرون وإلى الآن..

رغم أن القرار البوسني بمنع الحجاب يعتمد على قانون قديم منذ عام 2003 تقريبا، ولم يتم تطبيقه إلا الآن، وهو لا يختص الحجاب كمقدس ديني أو معنىً لذاته، بل لعمومية القرار الذي أصاب أيضا كل ذوي الأديان، وهذه مفارقة تعطي الحجة العقلية والمعنوية للمانعين، وتجعل من الاعتراض حجة منطقية لاعتراض الآخرين، وهذا قد يثير حساسيات دينية داخل مؤسسات الحكومة وخصوصا القضاء، لذلك كان المنع له وجاهة عقلية وقانونية.

لكن مع ذلك لا نخفي أن حجة الآخر وجيهة أيضا، إذ لا يتعلق منع الرموز بالنقاب الساتر للوجه، لكن الحجاب الذي يلبسه حتى الغجر مع كونهم غير مسلمين، وهذا يعني أن الحجاب ليس صفة إسلامية ..بل يمكن اعتباره عادة مجتمعية أو زي أخلاقي أو فردي يتعلق بالشخصية، علاوة على جانب الحريات والقناعات الشخصية الليبرالية التي لم تكن يوما في صالح المنع .

الحالة السياسية في البوسنة تتسم بالتعددية، وأبرز الأحزاب هناك أحزاب.."العمل –الديمقراطي الاجتماعي-وحزب الاتحاد"..وجميعها أـحزاب علمانية وضعت في برامجها أهداف قومية كالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، إضافة لتعزيز قيم الليبرالية وضمان حقوق وحريات الطوائف الدينية الكاملة، وهذا لب المبدأ العلماني الليبرالي، وهو أن تضمن الدولة والأحزاب على برامجها قدسية الآخر وحقه في اختيار معتقده وممارسته بحرية..

طبعا هذا لن يعجب ذوي النزعات المتطرفة الذين حلموا يوما أن تصبح البوسنة مركزا لنشر الإسلام المتطرف كما نشروه أجدادهم العثمانيين، وهي تكرار لمأساتهم من قبل مع باكستان، حيث دعوا لانفصالها من أجل تحقيق خلافتهم الموعودة بعيدا عن (قذارة الهندوس) حسب تعبيرهم، وتكرار لمأساتهم أيضا في كشمير التي أصبحت مجتمع تعددي إسلامي مميز، أو الشيشان التي خلعت ربقة السلفية والوهابية منذ زمن، وقريبا سوريا التي استعصت عليهم لأكثر من 5 سنوات..لكن بعد أن دمروا البلاد والعباد.

وثقتي أن ما من مجتمع يهدمه الإسلاميون المتطرفون إلا ويعود أقوى مما كان بعد أن استلهم التجربة وخاض بنفسه صراعا يعينه على البقاء والتحضر لقرون..ومجتمع البوسنة العلماني الآن أصبح طارد للمتطرفين الذين استوطنوه منذ التسعينات بحجة الجهاد، وآن الأوان لرحيلهم عن مجتمع لم يعد يقبل بالسلطة العابرة للحدود..أو بمن يكفرون بمعنى الوطنية والحوار..

اجمالي القراءات 6750