مسلسل الدم :الخيزران تقتل زوجها الخليفة المهدى ثم تقتل ابنها الخليفة الهادى

آحمد صبحي منصور في السبت ٣٠ - أبريل - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

1 ـ فى ( دار السلام ) لا يقتصر الأمر على قتال المعارضين ، بل يصل الأمر الى قتل الخليفة نفسه ، قد يكون قتلا تآمرا بالسُّم (، أبو بكر ، يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد ، سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ، والسفاح العباسى ) وقد يكون قتلا عنيفا علنيا ( عمر بن الخطاب و عثمان وعلى و الوليد بن يزيد الأموى ) . وانتهت حياة المهدى العباسى وابنه الهادى قتلا بمؤامرة سرية ، نكشف عنها النقاب هنا .

2 ـ فى تصورنا  ـ من تحليل الروايات ـ أن الخيزران هى التى خططت لمقتل زوجها . أما قتل الخيزران لابنها الهادى فقد ذكرته الروايات صريحا . ودعونا نتعجب فى صمت من بحور الدماء التى تتفجر فى ( دار السلام ) بالاضافة الى تفجيرهم بحوردماء أخرى فى اوربا وآسيا ، بما يجعلنا نلعن هذه الخلافة الشيطانية وجهادها الشيطانى الذى يحمل إسم الاسلام زورا وبهتانا . ونعطى بعض التفصيلات عن مكائد القصر العباسى فى داخل ( دار السلام ).

أولا : مناقشة الروايات فى موت الخليفة المهدى  

1 ـ كان موت المهدى فى شهر المحرم عام 169 ، بعد خلافة إستمرت عشر سنين تقريبا .   وتوفي شابا وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، ( ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتهأ ، وصلى عليه ابنه الرشيد . ). مات بعيدا عن بغداد ، وبعيدا عن أهله وأعمامه وابناء عمومته العباسيين ـ مات ــ فجأة ـ فى آسيا فى منطقة اسمها ( ماسبذان ) .

2 ــ ما الذى أخرجه من بغداد الى تلك المنطقة التى لقلى فيها ختفه ؟ . تقول الرواية : ( مات المهدي أبوعبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي، فبعث إليه، وهوبجرجان، في المعنى، فلم يفعل. فبعث إليه في القدوم عليه، فضرب الرسول، وامتنع من القدوم عليه، فسار المهدي يريده، فلما بلغ ماسبذان أكل طعامأ ..فبقي بعد ذلك عشرة أيام ومات ) .

هنا رائحة مؤامرة . فالمهدى أراد عزل ابنه الهادى من ولاية العهد والعهد لابنه الرشيد مكانه ثم يكون الهادى بعد الرشيد . فرفض الهادى وكان فى جرجان ( جورجيا اليوم ) ، فبعث له المهدى ليأتيه فرفض الهادى الحضور فسار اليه أبوه ، وتوقف فى منطقة ماسبذان حيث أكل طعاما مسموما فمات منه . وبالتالى فقد بطل عمل المهدى فى تولية الرشيد العهد من بعده . وفاز الهادى ، ويكون قتل المهدى بالسم مؤامرة قام بها أتباع الهادى لمصلحة الهادى .

3 ـ وعن كيفية قتله تقول الرواية : ( وقد اختلف في سبب موته . فقيل إنه كان يتصيد، فطردت الكلاب ظبيأن وتبعته، فدخل باب خربة، ودخلت الكلاب خلفه، ثم تبعها فرس المهدي، فدخلها فدق الباب ظهره، فمات من ساعته . وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضُرّة لها بإناء فيه سم، فدعا به المهدي فأكل منه، فخافت الجارية أن تقول إنه مسموم، فمات من ساعته . وقيل: بل عمدت (حسنة ) جارية له إلى كمثرى فأهدته إلى جارية أخرى كان المهدي يتحظّاها ، وسمّت منه كمثراة هي أحسن الكمثرى، فاجتازت بالمهدي، فدعا به وكان يحب الكمثرى، فأخذ تلك الكمثرى المسمومة، فأكلهأ ،  فلما وصلت إلى جوفه صاح: جوفي جوفي! فسمعت صوته، فجاءت تلطم وجهها وتبكي وتقول:" أردت أن أنفرد بك، فقتلتك! " ، فمات من يومه. ) تتفق الروايات هنا على موته السريع ، بسقوطه من على ظهر حصانه ( وغريب هذا الموت المفاجىء بسبب السقوط من على الفرس ) . وليس غريبا الموت السريع من تناول طعام مسموم .

4 ـ هنا تشير أصابع الاتهام الى الهادى ، فهو صاحب مصلحة فى قتل أبيه حتى لا يخلعه من ولاية العهد ويولى مكانه أخيه ( الشقيق ) هارون الرشيد. وفعلا تولى الهادى الخلافة سريعا بعد موت أبيه المهدى. وهذا يعنى وجود تنافس بين الشقيقين الهادى والرشيد ، ولكن الرشيد كان هو الذى يصاحب أباه فى رحلته ، وهو الذى عمل على تولية أخيه الشقيق الهادى الخلافة ، ورجع بالجيش الى بغداد ليؤكد على بيعة شقيقه الهادى ، وقت أن كان الهادى غائبا فى جرجان ( جورجيا ). ولو أراد الكيد للهادى لفعل ، ومعه الجيش وجثة ابيه ، وأخوه الهادى غائب عن المشهد .  

5 ـ الذى نراه أن (المهدى ) كان يريد خلع الهادى ليس ليولى محله الرشيد ولكن ليولى إبنا آخر له ، ليس من أبناء محظيته الخيزران ( أم الهادى والرشيد ) . وكان التخلص من المهدى قبل أن يفعل هذا ، وتم هذا بتخطيط الخيزران والرشيد وخالد برمك .

 كان المهدى قد تزوج أميرتين عباسيتين : ريطة بنت الخليفة السفاح العباسى ، وأنجب منها إثنين ( على وعبد الله ) وتزوج عام 159 أم عبد الله  بنت عمه صالح بن عبد الله العباسى . وهو نفس العام الذى اعتق فيه جاريته الخيزران وتزوجها . وفى العام التالى 160 أخذ العهد لابنه الهادى ، وفى عام 166 جعل الرشيد وليا للعهد بعد الهادى .

ثم بلغ إبنه ( على بن المهدى ) المعروف بابن ريطة شهرة جعلت أباه يقوم بتصعيده ، خصوصا وهو حفيد أول خليفة عباسى ( ريطة بنت السفاح ). فجعله المهدى عام 168 يقوم بإمرة الحج ، وكان تصعيده هذا يمثل خطرا على أخويه لأبيه الهادى والرشيد وهما ابناء جارية ( الخيزران ) بعكس ابن ريطة بنت السفاح . والمنتظر أن يقع المهدى تحت ضغط من كبار أسرته العباسيين ، كى يجعل ولاية العهد لابنه ( على بن المهدى ).

وإذا كان عام 168 هو العام الذى شهد تصعيد على بن المهدى وتأميره على الحج الذى يحضره كبار القوم من البيت العباسى فإن العام التالى 169 هو الذى شهد مقتل المهدى بالسم ، فى بلد بعيد عن بغداد ، وبعيدا عن كبار الأسرة العباسية . وهكذا فالذى نراه هو تصحيح الرواية لتكون كالآتى : ( مات المهدي أبوعبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة لابنه عبد الله ( ابن ريطة بنت السفاح العباسى ) بولاية العهد وتقديمه على الهادي..). البيعة لعبد الله ابن ريطة وتقديمه على الهادى تعنى خلع الرشيد ، لأن الهادى سيكون رقم 2 ، هذا إذا تولى  الهادى أصلا . وبالتالى تضيع أحلام الخيزران فى تولى ولديها الخلافة . ولذا كان لا بد من التضحية بالمهدى .  ونتعرف أكثر على الخيزران :

ثانيا : الخيزران :

1 ـ "الخيزران " هي أم هارون الرشيد، ومن نسل هارون الرشيد جاء كل الخلفاء العباسيين ومن ثم فهي أم الخلفاء العباسيين .

2- كانت تجارة الجواري رابحة في العصر العباسي ، كان يؤتى بهن من بلادهن الأصلية ويقوم النخاسون " تجار الرقيق " بتعليم الجارية الحسناء علوم اللغة والأدب والشعر والغناء والألحان مع أساليب المحادثة والبروتوكول .وكانت الجارية يؤتى بها من بلادها ساذجة وسرعان ما تتحول إلى دائرة معارف وقد صقلوا عقلها لتضيف إلى جمال الوجه والجسد حلاوة اللسان وذكاء العقل وحسن الحديث وحضور البديهة ، وحينئذ يعلو ثمنها وتكون مرشحة لقصور الخلافة وقصور الوزراء وعلية القوم . وكانت الخيزران واحدة من هؤلاء ..جاء بها النخاس إلى مجلس المهدي ولى العهد في خلافة أبيه المنصور ، وتأملها المهدي واستعرض جمالها فأعجبته إلا خشونة ساقيها ، وصارحها برأيه فردت عليه بجواب أثار عقله وكوامن شهوته فاشتراها وحظيت عنده . ويقول أحد أحفاد الخيزران وهو هارون بن عبد الله بن المأمون يصف اللقاء الأول بين جدته الخيزران وجده المهدي:( لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها: "والله يا جارية انك لعلى غاية التمني ولكنك حمشة الساقين "، فقالت : يا مولانا انك أحوج ما تكون اليهما لا تراهما ..!! فاشتراها وحظيت عنده ) .

3- ومع أن الخيزران حظيت عند المهدي فقد تزوج ثلاثة بعد أن تولى الخلافة ، ومع ذلك فقد كان لها نفوذ فى خلافة المهدى فقد أنجبت له مبكرا ( موسى ) الهادى و( هارون ) الرشيد ، وعملت كل جهدها ليجعل ولاية العهد فى ولديها الهادى ثم الرشيد ، ولتصعيدهما أوكل لهما المهدى قيادة الجيوش ضد ( دار الحرب ) فى الشرق وفى الغرب لتكون بطولاتهما الحربية مما يجبر النقص فى كون أمهما جارية سابقة. وحتى لو كانت الخيزران من الحرائر ولم تعرف الاسترقاق فكيف لها أن تنافس اميرتين من البيت العباسى ، وإحداهما بنت السفاح وقد أنجبت له إبنا ( عبد الله )، تبدو عليه مخايل النجابة بحيث كان امير الحج فى حضور أعمام أبيه كبار الأسرة العباسية .  

هنا نفهم دوافع الخيزران . وأعانها على تحقيق ما تريد مستشارها يحيى بن خالد البرمكى .

ثالثا : يحيى بن خالد البرمكى

1 ـ كانت الخيزران صديقة لزوجته ، وحين ولدت زوجة يحيى البرمكى ابنها الفضل بن يحيى عام 148 أرضعت الخيزران الفضل بن يحيى  فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة، ثم أرضعت ام الفضل الرشيد أيضا .

2 ـ ومن هذه الصلة العائلية توثقت مكانة يحيى البرمكى فى خلافة المهدى ، وجعله المهدى ــ بنفوذ الخيزران ــ قائما بأمر الرشيد . تقول الرواية فى الكامل لابن الأثير عن المهدى عام 161  ( وجعل مع هارون يحيى بن خالد بن برمك ). وفى العام التالى 162 ، كانت الحملة الكبرى لغزو الروم بقيادة هارون ( الرشيد ) ، والتى صُنعت لتلميع وتصعيد هارون ( الرشيد ) ، وكان ممن صحبه يحيى البرمكى، وعنه  تقول الرواية : ( ..ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمر العسكر، والنفقات، والكتابة وغير ذلك. ) . وفي نفس العام تولى الرشيد معظم الولايات ، وكان الذى يديرها عنه يحيى البرمكى  . ونلمح أصابع الخيزران فى تجهيز ابنها الثانى هارون ( الرشيد ) وتدريبه وتعليمه بمستشارها يحيى البرمكى ، الذى كان والد هارون الرشيد ( من الرضاع ).!. وعن صلة يحيى البرمكى بالخيزران تقول الرواية فى الكامل لابن الأثير : (وكان يحيى يصدر عن أمر الخيزران أم الرشيد . ).!

3 ــ لهذا نتصور أن ما بنته الخيزران كان على وشك أن يضيع بظهور عبد الله ابن الخليفة المهدى حفيد الخليفة السفاح ، وتصدره ، وخلفه كبار الأسرة العباسية ، لذا كان لا بد من التخطيط لقتل المهدى ، وأن يتولى ذلك إثنان : هارون ويحيى بن خالد بن برمك .

رابعا : البيعة للهادى ( الغائب فى جورجيا ) بتدبير الرشيد ويحيى بن خالد البرمكى :

1 ــ بعد موت المهدى بالسُّم ( فى الغربة )، تقول الرواية : ( وبويع لابنه موسى الهادي في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهومقيم بجرجان، يحارب أهل طبرستان؛ ولما توفي المهدي كان الرشيد معه بماسبذان، فأتاه الموالي والقواد، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن تنادي فيهم بالرجوع، حتى تواريه ببغداد.فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد، وكان يحيى يتولى ما كان إلى الرشيد من أعمال المغرب، من الأنبار إلى إفريقية، فاستدعي يحيى إلى الرشيد، فقال: ما تقول فيما رأى هؤلاء؟ وأخيره الخبر. قال: لا أرى ذلك، لأن هذا لا يخفي، ولا آمن، إذا علم الجند، أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخلي حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوأ ، ولكني أرى أن يوارى، رحمه الله، هاهنأ،  وتوجه " نصيراً " إلى أمير المؤمنين الهادي الخاتم والقضيب، والتعزية، والتهنئة، فإن الناس لا ينكرون خروجه، إذ هوعلى بريد الناحية، وأن تأمر لمن تبعك من الجند بجوائز مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالرجوع فلا تكون لهم همة سوى أهلهم.ففعل ذلك، فلما قبض الجند الدراهم تنادوا: بغداد بغداد! . )

2 ـ وتولى الهادى الخلافة بلا تعب ، وشكر الخليفة الجديد يحيى البرمكى، وجعله مستشارا لهارون الرشيد ، وهذا بإشارة أمه الخيزران . وكان ( الربيع ) حاجب المهدى هو المسيطر على عقل المهدى ، وكان متآمرا خبيثا وخطرا على الوضع الجديد ، فكان لا بد من قتله ليحل يحيى البرمكى محله فى الخلافة الجديدة ، وفعلا ـ وكما تقول الرواية فقد (كتب الهادي إلى الربيع كتاباً يتهدده بالقتل؛ وكتب إلى يحيى يشكره، ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد.) ، وتقول الرواية عنه (وفي هذه السنة أيضاً هلك الربيع.).

خامسا : الخليفة الشاب ( الهادى ) يسارع بمحاولة عزل أخيه الرشيد من ولاية العهد

1 ـ بوصول الهادى للخلافة ــ بتدبير أمه ويحيى البرمكى وهارون ــ وقع فى نفس الخطأ ، وهو أن يعزل أخاه الرشيد ليعهد لابنه الطفل ( جعفر ). وكالعادة أمر بتحقير الرشيد ، وكالعادة أيضا تقرب القواد للخليفة بتأييده فيما يفعل . ولكن صمد يحيى بن خالد مدافعا عن حق الرشيد .

2 ـ وفى هذه الرواية نرى دهاء يحيى بن خالد وحُمق الخليفة الشاب ( الهادى ) والصراع بين القادة من ناحية ويحيى البرمكى من الناحية الأخرى . تقول الرواية : (  وكان يحيى بن خالد بن برمك يتولى أمور الرشيد بأمر الهادي، فقيل للهادي: " ليس عليك من أخيك خلاف إنما  يحيى يفسده "؛ فبعث إليه، وتهدده، ورماه بالكفر، ثم إنه استدعاه ليلة، فخاف، وأوصى، وتحنط، ( أى إستعد للموت ) وحضر عنده، فقال له: " يا يحيى! مالي وما لك؟ " قال: " ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته؟!. " . قال: " لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي؟ " قال: " من أنا حتى أدخل بينكما؟ إنما  صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره، فانتهيت إلى أمرك. " . فسكن غضبه . وقد كان هارون طاب نفساً بالخلع، فمنعه يحيى عنه. فلما أحضره الهادي، وقال له في ذلك، قال يحيى: " يا أمير المؤمنين! إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوكد للبيعة " . قال: "صدقت. "، وسكت عنه . فعاد أولئك الذين بايعوه من القواد والشيعة، فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع، فاحضر يحيى وحبسه، فكتب إليه: " إن عندي نصيحة. " ؛ فأحضره، فقال له: " يا أمير المؤمنين! أرأيت إن كان الأمر الذي لا يبلغه، ونسأل الله أن يقدمنا قبله، (يعني موت الهادي )، أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهولم يبلغ الحنث، أويرضون به لصلاتهم، وحجهم، وغزوهم؟"  قال: " ما أظن ذلك! " . قال: " يا أمير المؤمنين! أفنأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك، مثل فلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ والله لوأن هذا الأمر لم يعقده المهدي لأخيك، لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي له! ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ جعفر أتيته بالرشيد، فخلع نفسه له وبايعه." فقبل قوله، وقال: نبهتني على أمر لم أنتبه له. وأطلقه . ثم إن أولئك القواد عاودوا القول فيه، فأرسل الهادي إلى الرشيد في ذلك، وضيق عليه؛ فقال له يحيى: استأذنه في الصيد، فإذا خرجت فأبعد، ودافع الأيام! ففعل ذلك وأذن له، فمضى إلى قصر بني مقاتل، فأقام أربعين يومأ .. )

3 ـ وخلال هذه المدة قتلت الخيزران ابنها الهادى .  

سادسا : الخيزران تقتل ابنها الهادى

1 ـ كان الهادى شابا قوى البنية رشيق الحركة بحيث كان يقفز على الدابة وعليه درعان ثقيلان ، وكان شجاعا مقداما مندفعا جسورا غيورا . لذا كان من المنتظر أن تفقد الخيزران في خلافته نفوذها الذي تعودت عليه . إلا أن الطبري يذكر أن الهادي سمح باستمرار نفوذ أمه أربعة اشهر وقال : وكانت الخيزران في أول خلافة ابنها موسى الهادي تفتات عليه في أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهى .إلا أن الهادي ما لبث أن ثار على ذلك الوضع ولم يحتمله فقال لها : انه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك ، وعليك بصلاتك وتسبيحك . إلا أن المواكب التي اعتادت الوقوف بباب الخيزران استمرت في التوافد عليها ، واستمر أصحاب الحاجات يطرقون بابها لتتوسط لهم بنفوذها ، فلجأت الخيزران لابنها تكلمه في قضاء بعض الأمور فرفض ، ( فقالت له : أنى ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك ، فغضب الهادي وقال : ويل له .. والله لا اقضيها له ، فقالت : إذن والله لا أسألك حاجة أبدا . فقال : إذن والله لا أبالى ، فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها وصرخ فيها : والله لئن بلغني أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ، ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك ؟ ثم إياك وإياك أن فتحت بابك لمسلم أو ذمي .. " فانصرفت عنه وما تعلم كيف تسير .. وقاطعته بعدها فلم تكلمه. ثم إنه قال لأصحابه: أيما خير أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير. قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقال: فعلت أم فلان، وصنعت؟ قالوا: لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها؟ فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها...)

2-  ثم تطور الأمر بينهما بمحاولة الهادى خلع أخيه هارون (الرشيد )، وهو المطيع لأمه الرفيق بها . وقفت ضد الهادى فى هذا ، ورد الهادى بحبس يحيى بن خالد ، مما يُعدُّ تحديا للخيزران .

3 ـ وحتى هذا الأمر ، فليس من المنتظر أن تقدم الخيزران على اغتيال ابنها لذلك السبب وحده ، لذلك تأتى القاصمة ، وهى من جانب الهادي لتجعل الخيزران تقتنع بأنها إذا لم تقتل الهادي فان الهادي سيقتلها وربما يقتل ابنها الرشيد أيضا . فقد بعث لها الهادي بطعام مسموم مع رسالة منه إليها تقول : "انه استطاب ذلك الطعام فأحب أن تأكل أمه منه "، وكانت على وشك أن تأكل ، لولا أن جاريتها ( خالصة ) حذرتها ، وجاءوا بكلب أكل من ذلك الطعام فتساقط لحمه ومات . ميتة بشعة بلا شك .!  لذلك تحركت الخيزران فدست بعض الجواري فقتلن ابنها الهادي خنقا وهو نائم. وبعثت الخيزران إلى يحيى بن خالد ليتولى عقد الخلافة للرشيد في نفس الليلة، ( لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد، وهونائم في فراشه، فقال له: قم يا أمير المؤمنين! فقال: كم تروعني إعجاباً منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا؟ فأعلمه بموته، وأعطاه خاتمه ). ومارست الخيزران نفوذها فى خلافته كما تريد الى أن ماتت .

4 ـ ومات الهادي شابا سنة 170 هجريا . مات بعد خلافة قصيرة بلغت سنة واحدة وبضعة أشهر . مات شابا فى الثالثة والعشرين من العمر .

5 ـ وفى عام  178 ( فوّض الرشيد أمور دولته كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي )،.

أخيرا : حتى لايضيع منا طرف الخيط :

نذكركم بعنوان الكتاب : الأصل التاريخى لتقسيم العالم الى ( دار السلام ودار الحرب ).

ونذكركم :

1 ـ بأن الله جل وعلا لم يخلق البشر ليكونا معسكرين متحاربين ، بل خلق البشر جميعا  أخوة من أب واحد وأم واحدة ، وجعلهم شعوبا وقبائل كى يتعارفوا سلميا ، لا لكى يتقاتلوا ، يقول جل وعلا يخاطب البشر جميعا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات )

2 ـ إن الله جل وعلا أرسل رسوله بالقرآن الكريم رحمة للعالمين وليس لقتال العالمين ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء )

3 ـ إن الله جل وعلا أمر المؤمنين بالدخول فى السلام كافة ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) البقرة ). وتشريعات القتال الدفاعية هى إستثناء يخدم السلام .  ولكن الصحابة إتبعوا خطوات الشيطان بالفتوحات ، وجعلوها دينا ، نتج عنه تقسيم العالم الى معسكرين متحاربين ـ حربا مستمرة ، لا يزال الوهابيون يواصلونها حتى اليوم

4 ـ القتال فى الاسلام هو لرد العدوان فقط ، وهذا معنى أن يكون فى سبيل الله جل وعلا . أما القتال المعتدى الذى فعله الصحابة فهو فى سبيل الشيطان ، وليس هناك توسط : إما قتال دفاعى فى سبيل الله جل وعلا ، وإما قتال باغ معتد ظالم يريد الثروة والسلطة ، أى فى سبيل الشيطان . يقول جل وعلا عن نوعى القتال : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ  )(76) النساء  ) 

اجمالي القراءات 47218