لماذا أعارض السيسي؟

سامح عسكر في السبت ١٩ - مارس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

اخترت في البداية أن أدعمه لموقفه السياسي من الجماعات، وانتخبته كممثل لمصر الثائرة على الإخوان، وفي تقديري أن هذا الشعور كان هو المهيمن على أغلبية الشعب التي أعطته الأصوات في الدستور والرئاسة وأخيرا البرلمان.

كان موقف مرحلة ينظر بعين الواقع لا بعين القناعة التي أرفض من خلالها أي حكم ديني أو عسكري، وكنت أرى أن حكم السيسي وإن كان معنويا عسكري إلا أن ظاهره مدني بحكومة تكنوقراط، وسلطات مستقلة ودستور مهيمن وقانون يطبق على الجميع، وكذلك مضمونه الذي أكمل خارطة الطريق ولم يمارس أي ضغوط على الأحزاب أو النقابات ومؤسسات المجتمع المدني..بل أدركت الصحافة حقبة من الإصلاح في شقها الرسمي ممثلا في الصحف القومية، وشهدنا حركة تغيير واسعة طالت صحف الدولة، وسياسة جديدة متبعة لدعم قوى الشعب الحقيقية بعد ثورتي يناير ويونيو.

كانت رؤية تحاكي الفلسفة السياسية الحديثة التي يغلب عليها طابع التغيير بعد انهيار مجتمع الإقطاع في مصر، ثم قدوم المجتمع الاشتراكي..ثم الرأسمالي..ثم خليط مشوه لا يجد نظاما حقيقيا ولا رؤية واضحة يتبناها..وفلسفة التغيير عموما هي.."فلسفة قيم"..يعني إما تدعو لقيم الانفتاح والحرية الليبرالية..أو لقيم العدالة والمساواه اليسارية، وفي ظني أن ثورتي يناير ويونيو في مصر قامتا على القيم اليسارية والليبرالية معا، ولكن بعد يونيو حدث تراجع عن قيم الليبرالية لصالح بعض قيم اليسار، وقد تجلى ذلك في اكتساح قائمة في حب مصر للبرلمان، وهي قائمة تضم في معظمها عناصر يسارية وقوى عمالية واقتصادية واجتماعية تتبنى مبادئ اليسار عموما والناصرية على وجه الخصوص.

لكن هذا شكلا..يعني لم نجد هذا البرلمان اليساري يطرح قوانين أو يقدم مشروعات بأي شكل تدعو لقيم اليسار، والحجة أن الانتقال بمصر والتغيير لهذه القيم يستدعي مزيد من التنازلات.. في وقت مصر تحارب فيه على أكثر من جبهة، يعني فكرة التضحيات نفسها غير مقبولة وستقابل بعاصفة من النقد وربما التخوين، وبناء عليه أعتقد أن البرلمان بشكله الحالي أضعف من القيام بعملية التغيير.. إلا لو حدثت معجزة ،أو صحى السيسي يوما وهو يشعر بنفوذه المتغول وفي لحظة صدق يقرر التنازل عن "بعض"هذا النفوذ لصالح البرلمان وقوى الشعب..!

كنت أدرك أن النظام المصري بعد يونيو غير ديمقراطي بل ويرتكب أخطاء..وربما جرائم في حق المعارضين، لكن في نفس الوقت نجح في ملفي الأمن والتنمية وإعادة تشكيل الدولة وصياغة هويتها بعد حقبة الإخوان، يعني في الأخير هو.."نظام مرحلة"..يواجه الإرهاب ويحمي الأمن القومي ويحشد المصريين لمعركة مصيرية مع الإسلام السياسي، ومع ذلك لم أبحث في تبرير هذه الأخطاء واعترفت بوجودها..مع التشديد على ضرورة الديمقراطية وألا يصبح السيسي إلها يُعبد، أو أن تنجر مصر لصراعات لا تخصها أو تتعارض مع مبادئها وطبيعة شعبها.

لكن هذا شئ وتصوري عن الثورة شئ آخر، فالثورات تعني التغيير، والتعامل مع النظام القائم وقت التهديد لا يعني أن التعامل نفسه سيستمر، وفي تقديري أن التهديد الأكبر على مصر من الإرهاب قد زال، ولم يتبق سوى بعض الجيوب المعزولة والضعيفة في المحافظات ، أما في سيناء ومع زيادة الخسائر إلا أن الوضع بالمجمل تحت السيطرة بدلالتين: الأولى غلق الحدود مع غزة وقد نجح الجيش المصري في ذلك، الثانية فرض حظر التجول في مثلث العريش رفح الشيخ زويد، والنجاح في فرض حظر التجول يعني سيطرة أمنية لا تنفي بعض الاختراقات التي تحدث وتسبب خسائر لقوى الأمن من فرط اعتمادهم على المدرعات في الحركة، وفي تقديري أن هذه الجزئية بحاجة لمراجعة من الجيش.

كل هذا انتهى الآن وانتقلت مصر لأول طرق الدكتاتورية وهي القمع، مع بروز أدواتها من عدم التواصل والشفافية والتنكر لكل منجزات الشعب في ثورتي يناير ويوينو، ففي حين يثور الشعب على الإخوان يدعمهم النظام في اليمن، وفي حين ثار الشعب على الشيوخ يدعم النظام الأزهر ..بل ويعطيه سلطات مطلقة للتعامل مع الشعب وتقديم رؤية دينية تراثية في منتهى التخلف، وما أزمة وزير العدل .."أحمد الزند"..وطريقة إقالته إلا انعكاس لحالة الفوضى التي تمر بها مصر التي جعلت من القطيع والإرهاب الفكري والديني أن يتسبب في عزل وزير..بل وتكفيره، ومهما اختلفنا مع الوزير الذي أؤمن يقينا بأنه قاض متعجرف ومنافق وقصير النظر..إلا أن إقالته لم تحدث لذلك بل للفظ قاله في سياق ما تم تعميمه في سلوك عدواني في منتهى الجهالة.

مصر تحالفت مع السعودية لضرب اليمن، وعلى صفحتي نشرت فيديو للرئيس المصري وهو يبرر هذا العدوان بحجة باب المندب، في حين لم يضغط على آل سعود لوقف آلتهم الحربية التي تقتل المدنيين، وإلى هذه اللحظة لا زالت الحكومة تعطي غطاءً شرعيا وسياسيا للعدوان..بل وتشارك فيه إعلاميا لتضليل الشعب وعزله عن كل ما يحدث في اليمن من كوارث..

كان تصريح السيسي بتبرير عدوانه على اليمن بحجة باب المندب ضربة قاصمة لي، حيث نقلت الرجل من صورة.."الرئيس الصادق"..إلى صورة أخرى وهي.."الرئيس الكاذب"..فالسيسي لم يذكر أن باب المندب مضيق عالمي وأن حمايته مخولة من مجلس الأمن، وأن أساطيل إيران وإسرائيل يمرحون هناك بغطاء دولي، ولا قدرة لمصر ولا للسعودية على منع هذه الأساطيل أو تعطيل حركتها في المضيق..خصوصا وأن وجودهم هناك مبرر قانونيا بحماية سفنهم التجارية من القرصنة..وكذلك لم يذكر أن الحوثيين أضعف من تعطيل حركة الملاحة أو أن يملكوا الشجاعة على ذلك، فضلا عن عجزه في تفسير هذا السلوك منه قبل العدوان..فمن المؤكد أن تهديد باب المندب لم يظهر فجأة..وأن الحوثيون منذ 2012 هم القوى العظمى في الشارع اليمني..كلها حجج منطقية تنسف حجة السيسي في دعم العدوان..وظهر الرجل أفقر عقليا وأحطّ أخلاقيا لأول مرة بعد إزاحة الإخوان.

استمرت مجازر السعودية في اليمن وعلا صوتها دوليا والتنديد يتصاعد..في حين النظام الرسمي في مصر إعلاميا وسياسيا إما صامت أو مؤيد للعدوان على هذا الشعب الأعزل بحجة الحوثيين وخطر إيران، وهذه حجة ساقطة عقليا لثلاثة أسباب: الأول أن مصر لم تطرح دليل واحد يوضح علاقة اليمن بإيران وظهرت تحليلاتهم ظنية غير مؤكدة، الثاني: أن أمريكا اعترفت بعدم امتلاكها أي معلومة توضح علاقة الحوثي بإيران..وهذه أمريكا أقوى مخابرات في العالم كيف تغيب عنها تلك المعلومة؟!..الثالث: أن علاقة مصر باليمن كانت جيدة قبل الحرب ولم يسمع المصريون عن هذه العلاقة إلا بعد قرار المملكة شن العدوان، فأين هذا الخطر المتوهم؟..وهل يحق للسعودية رسم الأمن القومي للمصريين؟!

هذا غير أن هذا الزعم ساقط أخلاقيا..فمعنى أن تشن عدوان وقصف يومي على شعب أعزل بحجة ولائه لدولة أخرى هذه مصادرة لحق الحياه والاختيار، وكان الأولى التفاوض معهم على أسس السلام وحُسن الجوار، ولا أظن أن الحوثي كان يمتلك الشجاعة لغزو السعودية مثلا قبل الحرب..على خلاف ما يحدث الآن فقد امتلك الشجاعة والقوة المعنوية والشعبية لتنفيذ ذلك.. وقد ترجمه الحوثيون باختراق الحدود بالفعل واحتلال مدن ومواقع سعودية وقتل آلاف الجنود باعتراف مجتهد (حوالي 3500 قتيل و6000 جريح و400 أسير ومفقود)..ثم الوصول إلى اتفاق مؤخراً يقضي بانسحابهم مقابل وقف القصف بوساطة قبلية..وهذا يعني أن الحوثي ليس قوة ضعيفة في اليمن..بل هو الأقوى شعبيا وعسكريا وسياسيا..وزاد من قوته العدوان السعودي حيث ظهر بصورة المدافع عن الأرض والكرامة اليمنية..وكسب بفضلها جمهورا لم يكن يحلم به.

المشهد اليمني بالعموم كان فاضحا للنظام المصري وكشف عن طائفية حقيرة تحكم أصحاب القرار، حتى أن شيخ الأزهر لم يكن يتدخل في الشأن السياسي للدول وبفضل الاتجاه العام للسيسي تدخل في العراق وهاجم الحشد الشعبي وفي لبنان هاجم حزب الله، حتى أنه تبنى الرؤية السعودية القديمة بتكفير الزعيم المصري.."جمال عبدالناصر"..ونقل آراء توضح تبنيه رؤية الجماعات الثائرة في حقبتي الستينات والسبعينات، وتصريح أحمد الطيب مشهور بأن عبدالناصر دمر الأزهر ونشر الشيوعية والإلحاد في مصر..وهي نفس التهمة التي روجتها الآلة السعودية وتبنتها كافة جماعات الإسلام السياسي كالتكفير والهجرة والإخوان المسلمون، زاد على ذلك نشر فتوى قديمة لشيخ الأزهر .."محمد الخضر حسين".. يرفض فيه تصنيف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية بناءً على طلب عبدالناصر، ونشر الفتوى جاء خصيصا لدعم موقف الطيب وتبريره أخلاقيا ..كل هذا ساهم في تشكيل وبلورة النظام المصري الذي يتشكل الآن ويسير بخطى ثابتة نحو الأصولية وما يتبعها من رؤى عنصرية ومذهبية. 

يقول المخالف: كيف أن النظام المصري طائفي وهو يدعم العراق ضد داعش؟..والجواب: أن مصر تدعم العراق كدولة عربية وعضو في الأمم المتحدة، وجيشها ضد داعش..وهذا على المستوى الرسمي..في حين تُعارض الحشد الشعبي على المستويين السياسي والإعلامي..بينما الحشد هو ثمة .."انتفاضة شعبية على داعش"..وجبهة عسكرية واسعة قلصت نفوذ التنظيم الإرهابي وطردته من ثلاثة محافظات هي ديالى وصلاح الدين والأنبار، في حين أن الجيش العراقي الذي تدعمه مصر هو الذي انسحب من الموصل وسلم مفاتيحها لصبيان أبي بكر البغدادي، وهذه المفارقة لم تنل حظها من الاهتمام في مصر ولم يناقشها أحد..واكتفوا بترديد مزاعم الإعلام الخليجي والطائفي حول الحشد الذي يتكون من كل فئات المجتمع العراقي .."سنة وشيعة ومسيحيين وسريان وآشور وعرب وأكراد ..إلخ"..وإذا كانت تهمته أن الشيعة يشكلون العنصر الأبرز فهذا يعود لطبيعة المجتمع نفسه الذي يشكل فيه الشيعة الأغلبية..

هذا التباين بل والتضاد في المواقف وعدم تقدير الأمور سيؤدي حتما إلى الاستقطاب بين مصر والعراق، وقد ظهرت بوادره في أزمة حزب الله في الجامعة العربية ومجلس التعاون، واستدعاء الخارجية العراقية للسفير المصري للاحتجاج على تصريحات شيخ الأزهر ضد الحشد الشعبي، وبدلا من معالجة الأمور بحكمة وتكليف لجان متخصصة أو مجموعة باحثين مصريين لدراسة المشهد العراقي فوجئنا بمزيد من التدخلات للأزهر في العراق..وهذا ينبئ أولا: على جهل مصري للعراق ومكوناته وأحداثه..ثانيا :بتصعيد بين البلدين لا تحمد عواقبه.

السيسي الآن منخرط وداعم للسياسة الطائفية للسعودية،حتى أنه لا يطالبهم بالإصلاحات ومساواة السنة والشيعة في المملكة..أسوة بما ينادي به بمساواة المسلمين والمسيحيين في مصر، ولو كانت حجته أن ذلك تدخلا في شئون الآخرين غير مقبول..فلماذا تدخل في اليمن أصلا ولم يدعم السلام أو يرعاه قبل الحرب..وهو الدور المفترض أن يكون منوطا بالسياسة المصرية وليس بهذا الشكل المسئ...كذلك يكثر من شعارات العروبة ودعم الأخوة والأشقاء في الخليج..بينما يتغاضى عن حقوق أغلبية شعب البحرين الثائر في الشوارع منذ 5 سنوات مطالبا بملكية دستورية ومساواه دون نتيجة..هذا يعني أن دعمه للبحرين طائفي أيضا بدعم السلطة الملكية لآل خليفة..وهي سلطة أثبتت الوقائع وتقارير الأمم المتحدة وحقوق الإنسان أنها سلطة قمعية وطائفية تمارس التمييز..

يقول المخالف: كيف أن النظام المصري طائفي وهو يدعم الجيش السوري ضد الإرهابيين؟..والجواب: هذه هي الشبهة الوحيدة التي تقضي بعدم طائفيته، وفي العسكرية المصرية ترجمة لهذا الإشكال الذي أراه أحد بواعث القومية العربية التي انتشرت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي..وتبناها الزعيم جمال عبدالناصر على أجندته..وأكملها بوحدة مصر وسوريا 3 سنوات، وتشكيل الجيشين الثاني والثالث واعتبار أن الجيش الأول في سوريا..ويعني كل ما سبق أن الجيش السوري في العقيدة المصرية هو جزء من الجيش المصري ..ويستحيل التخلي عن هذه العقيدة الآن، وكل ما سبق يعني أن مصر تتعامل مع سوريا بمنطق العروبة والقومية الناصرية وليس بمنطق .."الدين لله والوطن للجميع"..

والفرق بين المنطقين كبير، فالأول يعني حالة تم استدعائها من الوجدان تحت مؤثرات قومية ويسارية غزت الشارع المصري بعد ثورة يناير، لكن ظلت معزولة عن التطبيق في حقبتي المجلس العسكري والإخوان..والدليل على ذلك أنه وفي زمن المجلس العسكري محمد مرسي كانت مصر داعمة للإرهابيين حتى تمكنوا وتم طرد ممثل الدولة والجيش السوري من الجامعة..حتى أن وزير الخارجية .."نبيل فهمي"..كان يكثر من تصريحاته الداعمة للثورة السورية، وصورة الرئيس الأسد في الإعلام المصري كانت في منتهى السوء..أما المنطق الثاني فيعني مصر كانت ستدعم الجيش السوري ودولته بغض النظر إن كان عربي أم لا..أو ناصري ويساري أم لا..يكفي أن الدولة السورية كانت ولا تزال تحوي كل أبناء الوطن وفي مراكز مرموقة..وهي من أفضل النظم العلمانية التي تطبق مبدأ.."الدين لله والوطن للجميع"..بحذافيره..

ولكن يبقى السؤال..ما طبيعة المنطقين والآثار المترتبة عليهما؟..الجواب باختصار: أنه لو شعرت مصر أن سوريا تخلت عن عروبتها أو أن ما يشاع عن جيشها بأنه الجيش الأول سيجري على الفور استعمال السلاح الطائفي ضدها..وكما حدث في حقبتي المجلس العسكري والإخوان سيحدث أكثر من ذلك باعتبار سوريا تهديد لأمن مصر القومي وذراع إيران في المنطقة، وفي تقديري أن الأصولية التي باتت تحكم قطاعات كبيرة في مصر تعني أن الدولة المصرية تسير بخطى منتظمة لهذه النتيجة..

الحصاد المر الذي جناه السيسي في اليمن باعتبار نظامه وحكومته مصدر تهديد لحياة اليمنيين بات مصدر قلق للعراقيين والسوريين أنفسهم..وتخوف كبير وشك يرسم ملامح الهوية المصرية الحالية والمقبلة، وعجز عن تفسير متناقضات كثيرة خلقها الرجل بانسياقه الأرعن وراء رغبات ومطامع آل سعود، بينما لم يسأل نفسه سؤالا واحدا..ما الذي يجبره على السير في هذا الطريق بينما إيران على الوجه الآخر من الكرة الأرضية تتقدم وترسم ملامح لمستقبلها بعيدا عن صراع الديوك المذهبي؟..وهل تكلم أحد في مصر عن انفتاح العالم على إيران وأنها ليست هي الدولة التي رسمت في المخيلة المصرية بعمامة سوداء ورجال يلطمون في الشوارع ويضربون ظهورهم؟!..بالتأكيد يوم أن يقرر السيسي ونظامه الانفتاح على إيران ستذهب هذه المخيلة ولو بالتدريج..لكن من غير المؤكد أن مصر ستعيش دورها الحقيقي والمفترض أن يكون في زمن السيسي..لأن الأوضاع الحالية لا تنبئ بخير..بل بمزيد من التدهور..

كذلك ففي ملف التنوير فشل السيسي فشلا ذريعا..وبعد ما يقرب من عامين على حكمه أثبتت خطوطه العامة أنه مؤيد للشيوخ والفقهاء والرؤية التراثية للدين، وأنه خصم حقيقي للمثقفين، فمهزلة حبس إسلام بحيري وفاطمة ناعوت وأحمد ناجي دالة على توجه إقصائي فاشي للنظام وأركانه في مؤسسة القضاء، ودل على ذلك فشل البرلمان إلى الآن في إلغاء المواد سيئة السمعة – كقانون ازدراء الأديان-أو حتى تعديلها، أو ابتكار تشريعات تتناسب مع الدستور الذي صوت عليه المصريون بالأغلبية المطلقة، صحيح المصريون لم يقرأوا الدستور في معظمهم..لكنه في المجمل -وعن تقدير شخصي -هو من أفضل الدساتير المصرية برغم ما يعيبه من بعض المواد المطاطية والتي قد تستخدم للقهر والإقصاء.

وبخصوص البرلمان كتبت عن أزمته مع توفيق عكاشة، وقلت أن ضرب نائب بالأحذية وطرد المضروب من المجلس مع عقوبة حفيفة للضارب..يعني أن البرلمان ظالم وأحادي ينظر بعين واحدة، وأن أعضائه ليسوا مؤهلين للقيادة ولا للتشريع إذا افتقدوا أبسط مبادئ النزاهة وهي سعة الصدر والحوار وقبول الآخر، فظهر البرلمان عنصري شوفيني من كثرة ما رددوه من شعارات معادية لإسرائيل أثناء وعقب طرد عكاشة، رغم أن مصر على المستوى الرسمي ليست عدوة لإسرائيل وبينهما اتفاقية سلام سارية منذ 38 عام برعاية أمريكية ودولية، والعتب على البرلمان أنه يمثل الشعب والدولة ويخرج منه هذا الإجراء الظالم الذي لم يتحقق في تاريخ المجلس منذ نشأته..أن يطرد البرلمان عضو لتوجهه السياسي ودون حكم قضائي مهزلة بكل المقاييس ومصادرة لرأي عشرات الآلاف الذين انتخبوا هذا العضو في دائرته..

ورغم أن عكاشة على المستوى الشخصي إنسان ردئ وأراه منافقا أيد نظام آل سعود في حرب اليمن..لكنه لا يستحق ذلك..وما حدث معه تاريخ أسود يسجل على حقبة السيسي ، رغم أن عكاشة نفسه هاجم آل سعود مؤخرا بعد هجمة البرلمان عليه..وهذا الذي كشف نفاقه أكثر بعد شعوره أنه خرج من مولد السياسة المصرية خالي الوفاض.. وفي تقديري أن أزمة هذا النائب هزت صورة السيسي وشعبيته بين شريحة البسطاء والفلاحين الذين كانوا يعتمدون على عكاشة وحياة الدرديري في بناء رؤيتهم ونسج مخيلتهم، فمع سلبيات عكاشة إلا أنه الإعلامي الوحيد الذي كان يخاطب فلاحي مصر وبسطاءهم بعقليتهم..وهذا يعني أن طرد عكاشة أكسب خصوم السيسي مساحة كبيرة للنقد والحركة..

كذلك ففي ملف الاقتصاد فشل السيسي في بناء حياة كريمة للمصريين، ومع الإنجازات في التنمية وحل مشاكل الكهرباء والغاز إلا أن المواطن يعاني من ارتفاع الأسعار بصورة جنونية تعيد إلى الأذهان أزمة الخبز والزيت في أواخر عهد مبارك، وكذلك العجز في الميزان التجاري وصل لأرقام قياسية، والتضخم والديون كذلك..ومع الأمل الذي عقده المصريون من وراء مؤتمر شرم الشيخ لدعم الاقتصاد المصري جاء نوع من اليأس بعد طول الانتظار وعدم تحقق شئ والاعتراف من بعض الجهات الإعلامية أن مؤتمر شرم الشيخ.."فشنك"..وكذلك قناة السويس أصبحت عبء على الاقتصاد بعد انخفاض الإيراد الرسمي لها بواقع 290 مليون دولار عن العام السابق..وفي تصريح لمهاب مميش قال أن الانخفاض سببه تباطؤ الاقتصاد العالمي وانخفاض سعر النفط..والسؤال مباشرة: لماذا إذن كلفتم الشعب المصري 64 مليار جنيه لحفر القناة هذا التوقيت وأنتم تعلمون أن الدولة ستتحمل الفوائد؟!

خطأ كبير حدث في قناة السويس يجب الاعتراف به، وما كان دعمي للمشروع في السابق إلا لدلالتين: الأولى: أن اجتماع المصريين على قضية قومية في هذا التوقيت حدث جلل يستحق الثناء ويحشد قواهم وراء الدولة والبناء، الثانية: أن مستقبل المشروع جيد في حين ارتفعت أعداد السفن عن الحد المسموح به للمرور في القناه القديمة، وهذا ما تنبه له مميش وقال أن تأثير القناه الإيجابي لن يكون قبل عام 2020، لذلك فالإشكال يظل موجود..لماذا الحفر الآن واستهلاك أموال المصريين وجهود الدولة في عمل يمكن تأجيله؟..هذا يطرح شبهة كبيرة وهي أن النظام كان يبحث عن مشروع قومي لحشد المصريين بأي ثمن حتى ولو مشروع خاسر..وأتمنى أن لا يكون كذلك..لأن بتعبير المصريين سيظهر الشعب بمظهر لا يليق به أبدا ولا يتمناه..!

إن ما حدث هو ثمرة لقيادة الدولة برؤى قديمة لا تتناسب مع ظرفها الحالي، وهذا يضطرنا للحديث عن أوضاع القيادة والثقافة والنخبة والطبقات..ولا أظن أن الدولة المصرية تهتم بالبحث في هذه الأشياء الآن، فما يجري ويعتمد له هو تأسيس رؤية أيدلوجية ومذهبية وعنصرية تجتاح الإعلام الآن وتمس كل مفاصل الدولة، وبدلا من الحديث عن التنوير والتجديد بصورة حقيقية تحدث الإعلام عن أخطار وهمية كالشيعة وإيران، وهي آفة خطيرة مستوردة من الثقافة السعودية التي تتغول الآن في مصر، وآخرها مشروع إنشاء مراكز ثقافية سعودية تنشر الفكر الوهابي..ووضعية مميزة للمملكة في كل ما يخص الثقافة سواء في معرض الكتاب أو حلقات التنوير وخلافه..وهذا يعني أن الرؤية السعودية في التغيير تنتشر الآن في المحروسة، والسيسي يغض الطرف عن ذلك بدعوى أنهم أشقاء..ولا يدري هذا السيسي أن السعودية تدمر شباب مصر وتزرع فيهم التطرف وتبعدهم عن هويتهم المصرية إلى هوية أخرى عنصرية أقرب لروح البداوة والغلظة.

مصر الآن متحالفة مع الوهابية دينيا وسياسيا، ولم يعد يليق بشخص مثلي معادٍ للتيار الإسلامي –الديني والسياسي-أن يظل يدعم سلطة تصادر هوية الشعب ورغبته في الاستقلال إلى متاهة أخرى يدخلها الشعب بإرداته، وكما تخوفت من الإخوان وخطرهم الأيدلوجي والطائفي على المنطقة..أتخوف الآن من نظام السيسي الذي أصبح أكثر خطورة من الإخوان على شعب اليمن، ومشروع قلق وتهديد لشعبي العراق وسوريا ولبنان فيما لو تخلت روسيا عن دورها المنوط بها لحماية الدولة السورية من الإرهاب والتقسيم..

قد يسأل البعض ما سر هذا التحول السريع؟..والجواب: لم يكن سريعا بل اتخذت دوري المفترض كناقد وباحث قبل التحول، منذ عام وأكثر وأنا أنتقد النظام ، وقدمت رؤى عديدة للحل..ولكن كيف لشخص مغمور مثلي أن يتكلم؟..أو لا يكتب في صحف كبيرة ومجلات مشهورة أن يفهم؟..أو فقير لم يطبع كتاب واحد من أعماله أن يعارض كبار المثقفين المؤيدين للنظام؟..كل الحكاية أنني أنظر للسياسة باعتبارها علاقة مجتمع لا يرتبط أعضائه بقرابات الدم أو الديانة أو القومية أو الزمالة، وأراها وسيلة للتعايش والمصلحة معا..وليست مصلحة دون تعايش أو العكس، أنظر بالسياسة إلى المواطن كعنصر بناء وليس وسيلة للحشد، وأرى أن مصادرة الآراء ليست فقط نوع من التمييز..بل هي غباء مستشري حل على العباد والبلاد..

كنت أرى أن الثورات كما هي فرصة للتغيير..هي أيضا فرصة لخلق دكتاتوريات أخطر وأبشع من السابق، فما يعيشه المصريون الآن من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مع بعض الدول ، وما تعيشه المنطقة من حروب وصراعات مذهبية لم يكن له أن يكون لولا أن ما ترتب على هذه الثورات اعتمد منطق الدكتاتور بالأصل، فجاءت السلطة الظالمة وتغلغت في المجتمع وتغولت في أركانه بروح الثورة، وكلما قدست الثورة كلما تغول الدكتاتور أكثر وأسرع..وهذا يتحمل وزره المجتمع والسلطة معا، فالمجتمع الجاهل لا يمكنه التحرك دون قيادة، وفرصة تمرد الجياع معدومة..وكلما جاع الفقير كلما ضمن الحاكم مقعده لفترة أطول..فالجائع بالأساس لا يفكر سوى في الطعام..أما الثائر بالأساس فهو من وعده الحاكم وأخلف..أو شباب مثقف وضائع رآها فرصة للتغيير..

وهذا يعني أن فرصة ثورة المصريين ستكون أكبر إذا أخلف السيسي وعده بالتحسن الاقتصادي، أو إذا رأى المصريون الوضع العربي والإسلامي ضعيف والدول هشة والشعوب تعاني والحكام ضعفاء ومنافقين، وهي نفس الصورة المنطبعة عن الحكام العرب قبل عصر الثورات، وهذا يعني أن استعادة هذه الصورة في مخيلة الشعوب مرة أخرى ربما يدعوها للتفكير بالتغيير، لذلك حذرت في أكثر من مناسبة أن الحروب المذهبية التي يعاني منها العرب، والأوضاع الاقتصادية المتأزمة، وكثرة الصراعات ليست في صالح الحكام ، بل ربما تكون فرصة للشعور بالأمل في التغيير بعد سنوات وعقود من الذل واليأس..

اجمالي القراءات 7182