القرآن والواقع الاجتماعى : (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ ): الخليفة ( المنتصر) قاتل أبيه

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٨ - مارس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، " صدق الله العظيم "

أولا :

1 ـ يقول رب العزة جل وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) التغابن ).

2 ـ هنا تأكيد ب ( إنّ ) ، التأكيد على أنّ بعض الأولاد ( ذكورا وإناثا ) يكونون أعداءا للوالدين . ويأمر رب العزة بالحذر منهم ، ويأمر أيضا بالعفو والصفخ عنهم والغفران لهم وليس بالانتقام منهم . والله جل وعلا غفور رحيم .

3 ـ والعادة أن الآباء ( الأب والأم ) هم الأكثر عطفا على أولادهم ، فهذه طبيعة فيهم ، وهم لا ينتظرون أوامر الاهية للعناية بأولادهم . ولكن الأوامر تأتى للأولاد بالاحسان للوالدين ، لأنه من الممكن أن يفرّط  الأولاد فى رعاية الوالدين ، خصوصا عندما يصل الوالدان ـ أو أحدهما ـ الى مرحلة الضعف والشيخوخة ، حيث الحاجة الى الرعاية والتحمل . وتكون الكارثة عندما يصل الوالدان الى مرحلة الضعف وفى حاجة للرعاية والاحسان اليهما ، ثم يتحكم فيهما أولاد أعداء لهما .

4 ـ وبعض الناس يظلم الناس ويجمع المال السُّحت ليوفر لأولاده ثروة ، ثم يكون أولاده مشكلة له فى حياته وعذابا له فى شيخوخته . ومن العادات السيئة الشائعة أن الأخ الأكبر يأكل حق أخوته الصغار وأخواته البنات ، لكى يوفّر ثروة لأبنائه ، ثم يكون أبناؤه أعداء له وعذابا له .

5 ـ وبعض الناس يبلغ به الحمق الى درجة أن يجعل إبنه يقتله . وهذا ما حدث فى قتل المنتصر لأبيه الخليفة العباسى المتوكل . ونعطى فكرة عن المتوكل لنفهم الظروف التى دعت إبنه المنتصر الى قتله

ثانيا :  الخليفة المتوكل العباسى :

1 ـ  هو (جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي ). مولود عام :207 هجرية ،وبويع بالخلافة عام  232 ، وقتله إبنه المنتصر عام 247 . وعاش المتوكلأربعين سنة، وحكم أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام.   

2 ـ المتوكل من أسوأ الخلفاء العباسيين ، به بدأ ضعف الدولة العباسية ، وبه يبدأ ما يسمى بالعصر العباسى الثانى عنوانا على ضعف الخلافة والجدولة العباسية . من أعماله وسياسته يوصف بالمجون والتعصب ، ومع ( المجون والتعصب ) تمتع بقدر ـ لا بأس به ــ  من الحمق .

3 ـ فى مجونه تكالب على شرب الخمر ، وحين قتلوه كان سكرانا مع وزيره الفتح بن خاقان . واشتهر بالافراط فى الجنس ، ذكر المسعودى أنه كانت له 3 آلاف محظية من الجوارى وأنه وطأهن جميعا ، ومع المبالغة فى هذا ففي الخبر إشارة الى جنونه الجنسى . وكانت أشهر محظياته ( قبيحة ) أجمل نساء عصرها ، وأم ابنه ( المعتز ). ولم يكن مخلصا لها بسبب ولعه بالنساء ، ولكنه كان لها سميعا مطيعا ، وتسبب هذا فى مقتله . والواقع أن ( قبيحة ) تسببت فى قتل المتوكل كما تسببت فيما بعد فى قتل ابنها الخليفة المعتز . ‏وقد عرضنا لها فى كتابنا المنشور هنا ( حق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية ).

4 ـ كان (جعفر بن المعتصم ) هو ولى العهد بعد أخيه الخليفة الواثق . وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم وعمه الخليفة المأمون فى تقريب المعتزلة ، ونشبت فى عهدهم ( المأمون ـ المعتصم ـ الواثق ) فتنة القول ب ( خلق القرآن ) وتعصب أولئك الخلفاء للمعتزلة القائلين بخلق القرآن ، وإضطهدوا أصحاب ( الحديث ) أو ( الحشوية ) الرافضين للإتجاه المعتزلى العقلى . وقد فصلنا هذا فى كتابنا عن ( الحنبلية  ــ أم الوهابية ـ وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) ومنشور مقالاته هنا .

وفى خلافة الواثق كان المعتزلى ( ابن الزيات ) هو الوزير المتحكم ، وكان يُغرى الخليفة الواثق ليعزل أخاه ( جعفر بن المعتصم ) ليعهد لابنه بدلا منه . وكان ابن الزيات ـ  بموافقة الخليفة الواثق ـ  يعامل ولى العهد ( جعفر ) بإحتقار ليُسقط هيبته فى القصر وبين القواد الأتراك توطئة لارغامه على التنازل عن ولاية العهد . ومات الخليفة الواثق ( فجأة ) ، وكان ابنه صغيرا ، ولا يزال أخوه ( جعفر ) وليا للعهد ، فتولى ( جعفر بن المعتصم ) الخلافة بلقب ( المتوكل على الله ) .

 وبدأ المتوكل سلطاته بالانتقام من ابن الزيات بقتله بعد تعذيب هائل ، وتتبع المعتزلة بالاضطهاد ، ومنع مقالتهم فى ( خلق القرآن ) ، ورفع من شأن أهل الحديث ، وأرسل كبار المحدثين لنشر ( السُّنّة ) فى ( الافاق )  وجلوسهم للتبشير بها . ومن أجلهم أبطل المتوكل لقب ( الحشوية ) وأحل محله ( أهل السُّنّة )، وتعصب مثلهم فاضطهد الشيعة  وهدم ضريح الحسين فى كربلاء وهدم المساكن من حوله سنة 237هـ ، كما إضطهد رواد التصوف فيما يُعرف بفتن سمنون ، وإضطهد أهل الكتاب  فأمر سنة 235هـ بإلزامهم بلباس معين له لون معين  للتحقير، وعزلهم من دواوين الدولة ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين ولا يعلمهم مسلم وألزم بتلك الشروط كل بلاد دولة الخلافة .

وتغاضى المؤرخون السنيون والرواة السنيون عن مساوىء المتوكل بسبب تعصبه لهم ، فقالوا عنه ( ‏وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله‏. ) .

وبعد مقتل المتوكل إخترع السنيون منامات تمدحه وتُغرى الخلفاء بعده بإتّباع طريقته فى (إحياء السُّنّة)،  ويتناقل المؤرخون السنيون فى ترجمة المتوكل هذه الخرافة : ( وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال‏:‏ فقلت‏:‏ المتوكل ‏؟‏قال‏:‏ المتوكل‏ .  ‏قلت‏:‏ فما فعل بك ربك ‏؟‏ قال‏:‏ غفر لي‏.‏ قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏ قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏ ) وفى اسطورة أخرى ( ..‏  فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال‏:‏ ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏فقال‏:‏ غفر لي‏.‏قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏ قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏ قلت‏:‏ فما تصنع ههنا ‏؟‏قال‏:‏ أنتظر ابني محمداً ( المنتصر ) أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم‏.‏ ‏ ). وأنتقم السنيون من ( محمد المنتصر ) قاتل أبيه بتأليف روايات ، منها : ( وقال بعضهم‏:‏ دخلنا عليه يوماً فإذا هو يبكي وينتحب شديداً، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال‏:‏ رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول‏:‏ ويلك يا محمد ‏!‏ قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياماً يسيرة ثم مصيرك إلى النار‏.‏قال‏:‏ فما أملك عيني ولا جزعي‏.‏فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم‏:‏ هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك‏.‏ فأمر بالشراب فأحضر، وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسوراً حتى مات‏.‏ ).

5 ـ حمق المتوكل يظهر فى تعصبه للأتراك وإحلالهم محل الفرس والعرب فى الجندية فأزال ذلك التوازن بين القوى العسكرية الذى كان من قبل . بدأ المعتصم فى الاعتماد على الأتراك وإستقدامهم جندا وحُرّاسا ، ولكن المتوكل تعصب لهم ، وإعتمد عليهم فقط ، فصاروا مركز قوة ، وعندما خشى من سطوتهم سجن قائدهم إيتاخ ، ومات إيتاخ فى السجن ، فاكتسب المتوكل من أتباع إيتاخ أعداءا لا قبل له بهم .

 6 ـ حمق المتوكل يظهر فى تعصبه لابنه المعتز وتفضيله على أكبر أبنائه ( المنتصر ) . قام المتوكل بعقد الولاية لثلاثة من أبناءه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد . وبسبب نفوذ محظيته ( قبيحة ) أم المعتز عزم المتوكل على عزل ابنه الأكبر المنتصر ليولى المعتز بدلا منه . وأتبع المتوكل نفس الطريقة التى تتبعها ابن الزيات معه  من قبل ، وهى التحقير لولى العهد لكى لا تكون له هيبة فى القصر . وأقام المتوكل حملة ( تلميع ) لابنه ( المعتز )، إذ أمر ابنه( المعتز) أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأجاد المعتز الخطبة ، وانتشرت الدعاية له مما أثار حقد المنتصر ، فاعترض ، فأحضره أبوه وأهانه، وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزمه على عزله عن ولاية العهد. لذا بادر المنتصر بقتل أبيه خصوصا وقد وجد المنتصر من قادة الأتراك من يحرضه على إغتيال أبيه .

 7 ــ   وفي ليلة الأربعاء 4 شوال سنة 248هـ دخلوا على المتوكل وهو سكران مع صديقه ووزيره الفتح بن خاقان فقتلوهما . وأشاعوا أن الفتح هو الذي قتل الخليفة وأنهم قتلوا الفتح بن خاقان لقتله المتوكل .

 

ثالثا :  الخليفة المنتصر قاتل أبيه :

 

1 ـ محمد المنتصر ابن المتوكل هو رقم 11 فى الخلفاء العباسيين . مولود قبل ان يلى ابوه الخلافة بعشر سنوات ، وعاش حوالى 15 عاما فى خلافة أبيه ، عايش فيها سوء حكم والده . وكان المنتصر نتيجة مباشرة لحمق أبيه وسوء سياسته . ظل فى الخلافة ستة أشهر فقط خلال عامى ( 247 : 248 ).  عقد له ابوه  المتوكل العهد عام 235 .

2 ـ بعد قتله لأبيه بويع له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الأربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة، وأرغم أخويه ( المعتز والمؤيد )على البيعة له . وفى صفر248‏ خلع أخويه ، تمهيدا للبيعة لابنه الطفل عبد الوهاب .

 3 ـ وفى نفس الشهر أواخر صفر عام 248  أصيب بمرض غامض ، إختلفوا فيه ( وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل‏:‏ داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت‏.‏ وقيل‏:‏ بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات‏.‏وقيل‏:‏ بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات‏.‏وقيل‏:‏ بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه‏.‏) ومات يوم الأحد  25 ربيع الأول عام 248  وقت صلاة العصر، عن حوالى   26 سنة . الأرجح أن أصيب بالسم ، ثم عولج بالفصد . قالوا : ( أنه لما ولي صار يسب الأتراك ويقول: " هؤلاء قتلة الخلفاء " ، فعملوا عليه وهموا به فعجزوا عنه لأنه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرزاً ، فتحيلوا إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور  ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ، ثم فصده بريشة مسمومة ، فمات. )

 

أخيرا :

1 ـ عاصر المؤرخ الطبرى ( 224 : 310 ) خلافة المنتصر ، وقد ذكر الطبرى أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له‏:‏ كيف حالك ‏؟فقال‏:‏ ذهبت مني الدنيا والآخرة‏.‏

2 ــ قتلوا المنتصر العباسى  شابا بعد أشهر من قتله أبيه . مات مجرما ، ولكنه كان ضحية أب أحمق . 

اجمالي القراءات 9841