مسامحة نبي الله يوسف عن فعلة إخوته القديمة
تغريبة بني إسرائيل 6 - كشف يوسف عن شخصيته

محمد خليفة في الجمعة ١٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 المرحلة الثانية للإرتحال : أمر نبي الله يعقوب أولاده بالتحسس من يوسف وأخيه

 

{ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) }

 

الآية 88

" فَلَمَّادَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَاالضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَوَتَصَدَّقْ عَلَيْنَاۖإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ "

 

بدأت الآية بحرف التعجيل الفاء أي بمجرد دخولهم بادروه بالكلام ثم أضفوا عليه مرتبة لم يشر القرآن إلي أنها جعلت ليوسف وهي صفة العزيز وإن كان تمكين يوسف في الآية 54

 

" فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ "

 

يشير إلي أن يوسف قد تقلد منصب كبير فإما إنه العزيز أي رئيس الوزراء أو هي مرتبة وزير للخزانة والمالية والزراعة والتجارة والإقتصاد ونداءه بالعزيز إنما هو من قبالة التعظيم (مثلاً حين تتعامل مع أحد رجال الشرطة من الضباط تشير له بالباشا وهي لقب مقصور علي مرتبة اللواء فإما أن يحمل كلامك معني التمني أو الرجاء بأن يصل الشخص المنادي إلي رتبة اللواء أو هو إن كان في مرتبة أقل إلا أن تصرفاته ما شاء الله تصرفات من هم فى مرتبة اللواء!!!!.

وهو نوع من النفاق الإجتماعي الذي إرتضاه المجتمع تعاملاً مع رجال الشرطة.

 

وهنا بنفس المقياس إما أنهم ينادونه بمرتبة هو فعلاً فيها (يأيها العزيز) أو هو نوع من المداهنة والترفق والتقرب المترقب لأن الذي سوف يقولونه إنما يدخل في باب الإستجداء فقد جاءوا معهم ببضاعة رديئة يردها كل الذي تعرض عليه مثل العملة النقدية المتهرئة مثلا (يدفعها الناس رغبة عنها).

فهم يعلمون يقيناً أن البضاعة التي في حوزتهم لا تجزي عنهم شيئاً، وقيمتها أدني كثيراً من قيمة الميرة التي يأخذونها في كل عام وهذا بالطبع هو العام الثالث من أعوام المجاعة أو هذا العام الثالث من السنين العجاف.

فهم يعتذرون أولاً بأنهم قد مسهم وأهلهم الضر بمعني أن البضاعة التي إعتادوا الإتيان بها من صوف الأغنام وجلودها مثلاً قد شحت بنفوق الأغنام أو قلة أعدادها أو إنهم لم يستطيعوا أن يجمعوا بضائع أكثر لذا جاء الطلب معلناً أنهم يعلمون يقيناً أن بضاعتهم لن تجزي عنهم لذا هم يطلبون التصدق عليهم والصدقة إنما تعني أن أجرها عند الله أوفي وأجزل، وأن جزاء المتصدقين عند الله هو أوفي الجزاء.

 

هنا كان الموقف صعباً على نفس يوسف وترقرق الدمع في عينيه وصعب عليه أن يكون إخوته في هذا الموقف المهين وهل يوجد ما هو أكثر مهانة من إستجداء الطعام؟

 

لم يشيروا بالطبع إلي أخوهم الأسير ولا إلي غيره بل كان همهم الأول الطعام ثم يأتي في مرحلة لاحقة أي شيء آخر،

 لذا يقول الله في سورة قريش {  لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) }

 

أى أن الإطعام يأتي في مرحلة متقدمة وفى مرتبة أعلي من مرتبة الإحساس بالأمن.

فلا أمان لجائع ولا أمن لمحروم

لكن وقبل أن نستطرد لنا هنا وقفة بسيطة

أما كان يوسف يعلم يقيناً أن أباه قد تعذب كثيراً بفقده ؟

أما كان الأولي به أن يبادر إلي كشف نفسه لإخوته في أول لقاء حتي يوفر علي الأب عذابه ووحدته ؟

ذلك لأنه لم يكن يتصرف بوحي من ذاته وإنما هو من وحي الله.

إن الله يريد أن يصل عذاب يعقوب إلي أقصي مداه فقد جاء الكيد بنزع الأخ الصغير الأثير عند أبيه ليصل بنبيه يعقوب إلي أعلا مراحل الألم الإنساني والبلاء، كانت بوحي من الله لكي يصبر يعقوب ويسأل الله الصبر الجميل ويسأل الله العون، ويسلم بالأمر كله لله، هنا وفقط هنا تجيء الجائزة ويكون الفرج.

 

وذلك مثلما إبتلي إبراهيم بذبح إبنه فلما صبرا وسلما

سورة الصافات – آية 103          " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ "

بما يعنى مقابلة أعلي مراحل الألم الإنساني بالتسليم اليقيني بقضاء الله وقدره، عندها فقط جاء الفرج وكانت الجائزة.

 

الآية 89

"قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ "

 

لقد بلغ الدرس مداه، ووصل إخوة يوسف إلي الحد الأقصي من المعاناه من الجوع والمهانة وإستجداء الطعام وشعور الخزي بأنهم أضاعوا يوسف في السابق وكانوا سبباً رئيسياً في ذلك بل كان كله من تدبيرهم وتخطيطهم وتنفيذهم ناهيك عن شعور اللوم في كلمات يعقوب ونظراته عن تخاذلهم مرة ثانية عن حماية أخيهم الأصغر والعودة به، كل ذلك كان يشكل مطارق في كيانهم وحراب تغرس في أحشاءهم، هنا فقط يبتسم يوسف في وجوههم وكان ليوسف بسمة لا تنسي وثنايا متلئلئة[1] غير مسبوقة ولا ملحوقة، أي أنه كان له إبتسامة خاصة متميزة كما أن أسنانه الأمامية (ثناياه) كانت تبرق بالضياء والتلؤلؤ وحين إبتسم تذكروا جميعاً وفي دفعة واحدة أن هذه الإبتسامة غير غريبة عنهم وتشبه إبتسامة لازالت محفورة في أذهانهم من الزمن البعيد وبدأ الشك يتسرب إلي نفوسهم في شخصية ذلك العزيز إلي أن قال متسائلا

" قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ "

إن هذا الرجل لم يكن يعرف يوسف أو إن كان قد جاء ذكره فقد جاء حين خلصوا نجيا بعد أن رموه زوراً وبهتاناً إن كان سرق فقد سرق أخ له من قبل

بما يعني أن الشخصية أو الكيان المعنوي موجود لكن الاسم (يوسف) لم يكن قد تداول في أحاديثهم.

ولا يعرف باسم يوسف ولا بحديث يوسف ولا بمحادثة يوسف ولا يعرف هذه التفاصيل جميعاً إلا شخص واحد هو يوسف نفسه.

والسؤال سؤال إستنكاري ومعناه ألا يقدم علي هذه الأفعال إلا القوم الجاهلون أو كانوا في مرحلة جهالة حين فعلوا هذه الأفعال  " ..إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ .. "

طافت ظلال الشك في نفوسهم وطفقت تعتصر أفئدتهم وسؤال العزيز بهذه الصفة وبهذه الرقة وبسمة يوسف المميزة ، والمتميزة ، تعلو شفتيه دفعتهم للقول الذي يقدم رجلا ويؤخر أخري.

 

 

الآية 90

" قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ  قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي  قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا  إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ "

 

أفاق الإخوة من ذهولهم علي حقيقة مؤكدة وهى أن من يحدثهم هو يوسف بلحمه وشحمه لكنهم كانوا غير مصدقين من هول الحقيقة فقالوا وكأنهم يستشرفون الخبر وكأنهم في حلم فهم يتسائلون بغرض التيقن من كونهم أيقاظا غير رقود      " .. أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ .. "

 

زادت إبتسامته حتي بانت نواجذه / وانداح في عينيه نظرات رقاق حانية، وتلئلئت دمعتان تترددان في التساقط وإمتلاءت جوانحه بالرحمة، وقال في صوت خفيض كان من فرط إنخفاضه وخشوعه دالاﱠ علي شكره لله وللنعمة التي أنعم بها الله عليه         " .. قَالَ أَنَا يُوسُفُ .."

 

ثم قام بإستدعاء أخيه لكي يروا بأعينهم مظاهر التنعم بالنعمة وأردف قائلاً      " .. وَهَٰذَا أَخِي .. "

ثم وفى شكر عميق للنعمة تهدج صوته قائلاً        " .. قد من الله علينا .. "

 

أي أن ذلك كله من فضل الله عليه، ومنة بالنعمة عليه وعلي أخيه.

ثم جاء الشرط الذي إذا تحقق وبالشكل اليقيني فإن صاحبه سينال أعظم الجزاء    " ..إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر  ..ْ"

 

شرطان هما واقع الأمر

إنه من يتقي الله والتقوي هي أن يراك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك.

ثم بعد التقوي يصبر علي البلاء صبر الراضيين بقضاء الله، المؤمنين بأنه ما كان لك فسوف يأتيك، وأيضاً وما أصابك ما كان ليخطئك، وما أخطأك ما كان ليصيبك

 

كان هذا هو الصبر الجميل الذي طلبه يعقوب من ربه، وكان هذا هو الصبر الجميل الذي قام يوسف بممارسته .

وكان هذا هو الصبر الجميل الذي إستشعره أخوهم الأصغر حين صبر علي إيذاء إخوته ثم علي إتهامه بالسرقة.[2]


الآية 91

" قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ "

 

لقد كان وقع المفاجأة صاعقاً، وكانت المقارنة بين وضعهم وما صار إليه أمر يوسف مغرقاً، وبانت لهم ضخامة جرمهم، خاصة وأن يوسف لم يقابل الغدر بمثله، بل كانت إبتسامته المشجعة لهم فيها كل العوض وكان عدم ذكره فعلتهم الشنعاء معه إلا بكونهم غير واعيين بما يفعلون وبما كانوا عليه وقتها من جهل.

 

وجاء صوتهم خفيضاً خجلاً معتذراً

" قَالُوا "              تعني أنهم تريثوا قليلاً فليس ثمة  فاء التعجيل أو  واو التأجيل

" تَاللَّهِ "               هو قسم مؤكد بالله

" لَقَدْ آثَرَكَ "                   تعني لقد فضلك الله علينا وخصك بالمكانة والسلطة والنعمة

 

 ثم تأتي بعدها الإقرار بالخطأ فيذكر الحق.

" إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ "      وفيها إقرار جماعي منهم بمقارفة الخطأ ،      كما جاءت في الآية 97

أو قد تعني

" وإِنَّا كُنَّا لخَاطِئِينَ "          وإضافة حرف اللام تعني أنه من المؤكد أن فكرة الفعلة خطأ والقيام بها خطأ أكبر وظهور"إِنَّا " تشير إلي جمعهم.

 

أما ظهورها هنا فقد وردت على النحو

" وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ "          وظهرت هنا " وَإِنْ " الشرطية تعني أنه مع إننا كنا مخطئين في قناعاتنا بتميز أبوك لك ولأخوك الأصغر، ومع ذلك فقد سعينا إلى تنفيذ ما هو خطأ، هو خطأ مركب، خطأ التصور والإقتناع بالفكرة، وخطأ التجمع والتدبير لفكرة الخلاص منك قتلا أو إبعادا، وكذلك مخطئين في نجوانا وتدارسنا لخطة التخلص منك، والخطأ في مراودة الأب وإقناعه كذباً بأمان يوسف، وخطأ مقارفة التنفيذ وإلقاء يوسف في الجب عارياً، وخطأ التظاهر بالحزن والبكاء عند مواجهة الأب، وخطأ تلويث القميص السليم بالدم المكذوب وإدعاء أنه دم يوسف بعد إلتهام الذئب له، وخطيئة تحمل عذابات يعقوب وحزنه الدائم وشكواه المستمرة إلي الله بفقده يوسف.

 

ومع أننا قد مارسنا هذا الخطأ وهذه الأخطاء ولم نستفد منها شيئاً، بل لم نجني منها سوي المهانة أمام النفس، والمهانة أمامك، والمهانة أمام الأب، والمهانة الكبري أمام الله، ومع أننا فعلنا ذلك رغبة في إيذائك  إلا أن الله قد فضلك وأثرك علينا ، أي خصك بشيء فوق ما خص به الآخرين والله - جل وعلا - في هذا لم يأخذ منا شيئاً ويعطيه لك، وهو لم يؤثرك بظلم لغيرك، لكنك تستحق ما أثرك به من الملك والسلطة والنعيم وعلو الشأن والمكانة.

وإستخدام لفظ خاطئين لابد وأن يكون في معناه فارقاً عن إستخدام لفظ مخطئين :

 

فالخاطيء :

هو من يعلم منطقة الصواب، ويتعداها إلي منطقة الخطأ، بادعاء الغفلة.

يعني هو أن يعلم موقع وموضع  الصحة، والصحيح من الأمور، ولكنه  يتجاوزه إلي غيره، أي يعرفون الصواب ولم يفعلوه، أو فعلوا شيئاً مخالفاً وهذا هو الخطأ المدروس، بحيث تكون لديهم الحجة في التملص وعدم تحمل ذنب الغفلة.

 

والمخطيء :

هو من لم يذهب إلي الصواب، لأنه لا يعرف مكانه، أو طريقه إليه، يعني لا يعرف أصلاً ماهية الصح، فهو يقع في الخطأ عشوائياً، وبطريقة غير مقصودة.

 

وقد إستعمل لفظ الخاطئين من قبل في الآية 29 " .. وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ .. "

والتي جاءت علي لسان العزيز متوجهاً بالحديث إلي زوجته حين إفتضح أمرها بالدليل المادي -  فقميصه قد  قطع من دبر- وثبتت عليها التهمة.

وهنا في هذه الآية إستخدم لفظ " خاطئين " أيضاً لأنه يدل علي معرفة إخوة يوسف بمنطقة الصواب وتعدوها لمنطقة الخطأ [3]

 

الآية 92

" قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ  يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ  وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ "

 

ما أجمل الصفح الجميل وبرودة العفو وحلاوة التسامح

إنه من شيم الأكرمين ويوسف هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم فهو من سلالة طاهرة كريمة

فيوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً السلام

فقد رد عليهم إقرارهم وإعترافهم بالخطأ بمقولة ليس فيها من العتاب شيء ولا من المعايرة شيء ولا من التجريح شيء ولا حتي مجرد المراجعة.

 

قال لا تثريب عليكم اليوم      ما أنبلك يا يوسف

أي لا لوم ولا عتاب من النوع الذي يذيب دهن الجسم (وهو الثرب) خجلاً وتوارياً بل أن الأمر إنتهي ولم تعد له جذور في النفس.

 

لم يَفت يوسف في غمرة هذا العفو الشامل أن يدعو لهم الله، أن يعفو عنهم، ويغفر لهم، ويتجاوز عن أخطائهم، فالله خير من يرحم، وهو أرحم الراحمين.

وعلي ذكر الرحمة فقد تذكر في غمرة الرحمات أن أباه قد تعدي كل حدود الألم الإنساني، ففقده لأولاده الواحد تلو الآخر ثم فقد إبصاره حين كتم حزنه، كان دائما في الذاكرة وكان قلب يوسف يعتصر ألماً علي أبيه، وحانت لحظة من فيوضات رحمة الله وبداية إنفراجاته.

كيف عرف يوسف أن أباه قد فقد نظره؟

 

هل هو لإخبار من الله، أوحى به الله إليه ليطلعه على مدى العذاب الذى واجهه ويواجهه أبوه، ومدى صبره على الأحزان، وليعلِمه بأنه ليس وحده المبتلى، فإن أباه أعظم إبتلاءً منه، أم هل أخبره إخوته بهذه الملمَّة التى ألمَّت بأبوه بعدما كشف لهم عن شخصيته ؟

لم يحدد السياق بكلمات واضحة الكيفية التى وصل بها إلى علم يوسف خبر فقد أبيه لبصره.

أغلب الظن أنها كانت وحياً خالصاً من الله .

 

لذا حين أشار بالحل ( فى الآية القادمة  93 )  لم يتعجب إخوته ولم يتساءلوا عن كيفية وصول هذا الخبر إليه لأنهم كانوا فى رحمات رحمانية وفيوضات إلهية بما لا يتوجب معه السؤال ولا التساؤل.

 

الآية 93

" اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ "

 

هذا هو القميص الثالث في هذه السورة فالأول كان قميص البلاء الذي أخذه إخوته منه ولوثوه بدم مكذوب لكي يكون حجه لهم أمام أبيهم بإدعاء أن الذئب قد أكله.

 

والثاني هو قميص البراء

 وهو القميص الذي" قُدَّ " من الخلف وكان هذا دليلاً مادياً علي براءة يوسف من التهمة التي رمتها به زوجة العزيز من مراودته لها عن نفسها.

 

والثالث هو هذا القميص والذي يوصف بأنه قميص الشفاء وهو قميص يوسف الذي كان من ظاهر إلقاءه علي وجه أبيه عودة البصر إليه.

 

القمصان الثلاثة كانت ليوسف وإن إختلفت الأزمان وإدعاء يوسف أن مجرد إلقاء القميص علي وجه أبيه سوف يرد بصره إليه هذه خصوصية  ليوسف وإعجازاً قد منَ الله به عليه.

وإرتداد البصر إلي يعقوب بمجرد إلقاء قميص يوسف علي وجهه هذه خصوصية ليعقوب وإعجازاً قد منَ الله به عليه ، فالحديث كله عن حدث لا يخرج عن كونه إلقاء قميص الإبن علي وجه الأب بعدها يرد البصر إلي الأب الذي فقده حزناً وكمداً فالموضوع لا يخرج عن كونه إعجازاً خص به يوسف ويعقوب ولا يتعداه إلي غيرهما.

وهذا هو واقع الأمر الفرق بين الإعجاز [4]  والمعجزة[5]

 

سوف نلاحظ أن يوسف حين طلب منهم إلقاء القميص قال

إلقوه علي وجه أبي ...         ولم يقل أبيكم

وهذا إستجلاباً للحنان الذي يختزنه يوسف لأبيه أو هو يجأر بطلب الإغراق في حنان الأبوة الذي حرم منه وإفـتقده طويلاً ثم بعد ذلك قال " يَأْتِ بَصِيرًا " ،ولم يقل (يرتد بصيراً ) وإن كانت في نفس المعني إلا أن الجملة الخاتمة في الاّية الكريمة

" وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ "

 

أي أن الجميع قادمون ومن بينهم بل أولهم بطبيعة الحال يعقوب لذا يكون من الأوفق أن تتم عملية رد البصر إليه قبل أن يبدأ رحلة الذهاب إلي مصر حتي إن جاءها يكون قد أتي بصيراً.

 وورود النص بهذه الكيفية، يوحي  بأن الله قد أخبر يوسف ببعض من الغيب

فمن أين ليوسف العلم بأن أباه قد فقد البصر  ؟

وأنى ليوسف العلم بأن مجرد إلقاء القميص على وجه أبيه سوف يرد إليه بصره ؟

وكيف ليوسف أن يضمن حياة أبيه إلى أن يأت إلى مصر ؟

كلها تساؤلات لا إجابة منطقية عليها سوى أن الله أخبره، وأطلعه على شئ من غيبه، ومن ثم قال نبي الله يوسف ما قال .

، ومن زاوية ثانية نستطيع أن ننظر مرة أخرى إلى الآية

  { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

 

ففي هذه الآية يضع الحق جل وعلا على لسان نبي الله يوسف كلمات الحديث الذي يوجهه  إلى إخوته، بعدما كشف لهم عن شخصيته، ويطلب منهم أن يلقوا القميص على وجه أبيه، لم يقل أبوكم أو أبينا وإنما قال أبي، نسبه إلى نفسه براً  به، وإستجلابا لموجات الحنان والشوق الذي حرم منهما يوسف طويلا، وإمعانا في الإحساس بمدى الخصوصية والقرب.

كما أنه لم يقل يرتد بصيرا، وإنما قال "..يَأْتِ بَصِيرًا.."

 بما يعني تحقق ثلاث نبوئات

 أولهما    : إرتداد البصر إلي أبيه ( نبي الله يعقوب )،

 وثانيهما  : أنه ( نبي الله يعقوب ) سوف يأتي إلى يوسف

وثالثهما   : أن أهلهم وأقاربهم ( بني النبيين الكريمين إبراهيم وإسحق ) سوف يصحبونهم في       

               هذه الزيارة، والتي هي ليست بزيارة وإنما تغريبة إستيطانية طويلة.

 

وهذا يصنف من درب الإعجازالذي خص به النبيين الكريمين

والثلاث نبؤات هي من نوع الغيب الذي أطلع الله عليه بعضا من رسله،ذلك لأننا سوف نلاحظ أن هناك استثناءا بإبلاغ الغيب من الله إلى بعض من رسله، فقد ورد في سورة الجن

 { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) }

ويجب هنا أن نلقي الضوء على ملحظين مهمين في هذا الإستثناء

أولهما: أن الآية لم تحدد طبيعة الرسول أو جنسه أي كان من البشر( العاديين أوالمرسلين من الأنبياء والرسل )  أم  من الجن  أو من الملائكة .

ثانيهما :أنه في حالة تطبيق هذا الإستثناء، فإنه يرد صراحة وبوضوح كامل وبقطعية إخبارية من الله متضمنة في واحدة من آيات القرآن، وليس هناك ثمة إحتمال آخرلذلك، فلا يوجد داع للتمحل واختلاق روايات عن أمور غيبة تحدث بها أحد رسل الله من البشر السابقين لرسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا عن رسول الله نفسه، فضلا عن عباد الله الصالحين والذين هم ليسوا بأنبياء، طالما أنه لم يرد بها إخبار من الله محددا طبيعة هذا الغيب وحال وقوعه وزمنه والأقوام التي ستتأثر بقدوم هذا العارض الغيبي، لابد وأن نعيي ذلك جيدا ونعيره كبير اهتمامنا ونضعه نصب أعيننا عند الحديث عن الغيب .

 

وبعد تمام عرض رؤيتنا وخواطرنا، حول ما أسميناه المرحلة الثانية من تغريبة بني إسرائيل، فقد آن الأوان للإنتقال إلي المرحلة الثالثة من هذه التغريبة .

 



[1]
بالذي أسكر من عَرفِ اللما                    كل كأس تحتسيه وَحَبب ْ

   والذي كحل جفنيك بمـــــــــا                   سجد السحر لديه وإقترب

   والذي أجري دموعي عَنْدما                 عِنْدما أعرضت من غير سبب

   ضع على صدرى يمناك فما                  أجدر الماء بإطفاء اللهب     

واللما هو صف الأسنان الأمامي أو هي الثنايا المتلئلئة

والعرف هي الريح اللطيفة والمقصود هو طيب رائحة الفم

حَبب ْ:            هو الفقاعات الصغيرة التي تظهر في الخمر المعتقة

عَندما:           هو سائل يشبه الدم أو هو الدم لأنها كلمة من مقطعين     عَن.......           دما

[2]وإجتمع ليوسف أنواع ثلاثة من الصبر

1.        الصبر علي الطاعة            الدعوة والوحدانية

2.        الصبر عن معصية الله         عزوفه عن مراودة إمرأة العزيز والنسوة

3.        الصبر مع أقدار الله المؤلمة (البلاءات)

3.1.   إلقاء إخوته له في الجب

3.2.   العبودية وإبتياعه رقيقاً

3.3.   الإلقاء في السجن متهماً بغير ذنب

ويوسف إبتلي بالشدائد فصبر( النفس / الشيطان / الهوي / الدنيا )

كما إبتلي بالنعمة والسلطان فشكر

إذن كان لابد من وقوع الشرطين " إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر ْ" ليكون الجزاء هو جزاء المحسنين

وهذه هي المرة الخامسة التي يذكر فيها المحسنين

الأولــى          فى آية22            أتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين       وكانت من الله.

الثـانيـة          فى آية 36           إنـــــــــــا نـــــــــــراك مــن الـمــحسنين           وكانت من صاحبي السجن.

الثـالثـة          فى آية 56           مكنا ليوسف... ولا نضيع أجر المحسنين          وكانت من الله.

الرابعة           فى آية 78           فخذ أحدنا مكانه إنا نراك مـــن المحسنين        وكانت من إخوة يوسف.

الخامسة         فى آية 90           فإن الله لا يضيــع أجـــــــــــر المـحسنين          وكانت من يوسف شاكراً.

 

والعجيب أن يوسف ذكر في القرآن 27 مرة جاء منها 25 مرة في سورة يوسف وهي تعد بذلك أعلا تردد لاسم نبي واحد في سورة واحدة.

وذكر مرة أخيرة مقترناً بالمحسنين في سورة الأنعام آية 84

" وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ "

وهنا أيضاً وصف يوسف بأنه من المحسنين للمرة السادسة فى القرآن

والمرة الأخرى في سورة غافر الآية 34

" وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ "

[3]يوم فتح مكة: نصح العباس  ( عم رسول الله محمد عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم ) أبوسفيان بن حرب زعيم مكة وكبيرها، أن يبادر إلي رسول الله بالكلام قائلاً: تالله لقد أثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين عندها تبسم الرسول قائلاً: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

 

[4]الإعجاز هو خاصة معينة وحدثْ بذاته يجري علي الرسول أو النبي ليدلل علي أنه مرسل من قبل الله ليقويه ويشد من أزره هو بذاته ولا يتعدي ذلك الآخرين

وذلك مثل إعجازً إسراء رسول الله من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي

إعجاز " ربي أرني كيف تحي الموتيً " لإبراهيم عليه السلام

إعجاز إماتة العزير وإعادة بعثه

إعجازات العبد الصالح مع موسي عليه السلام

إعجاز بعثة أهل الكهف

[5]فالمعجزة هي آية كونية تجري علي يد أحد رسل الله لتكون دليلاً علي إنه مرسل من قبل الله ذلك لكي يراها الملأ من قومه ويؤمنون به ويتبعون هذا الرسول في وحدانية الله والإقرار بالعبودية والعبادة لله وحده، ويشترط فيها ثلاثة شروط

1.             أن تكون مطلوبة ، أو هي أحد مطلوبات البيئة والمجتمع الملحة

2.             أن تكون من بين ما هو منتشر وموجود ومتعارف عليه فعلا

3.             أن يراه جمع من الناس ، أو ملأ من القوم المرسل لهم الرسول

ومعجزة رسولنا هى القرآن وهو عين المنهج

القرآن أكبر من المعجزة فالمعجزة دليل قهري علي الإيمان والقرآن دليل عقلي علي الإيمان فيكون بذلك أكبر من المعجزة.

معجزات الرسل كلها مشاهدة بصرية يؤمن بها فقط من شاهدها ، أما القرآن فهى معجزة متفردة بكونها سمعيه يؤمن بها كل من يسمعها لذا تجد لفظة السمع تأتى مفردة فى الإستخدام القرآنى ، بينما تأتى الأبصار فى صيغة الجمع وتجد أن السمع يسبق الأبصار دائماً فى النص القرآنى والمعجزة السمعية باقية إلى أن تقوم الساعة .

 موسي تسع آيات العصا ،يده تخرج من غير سوء ، القمل ، الجراد ، الدم ، الضفادع ، الطوفان، ...

عيسى إحياء الموتي وشفاء الأكمة والأبرص والإخبار عما يدخر الناس في بيوتهم

اجمالي القراءات 8010