وصول قبائل العبرانين إلى مقاطعة مصر الهكسوسية
تغريبة بني إسرائيل 8 - الوصول إلى مصر

محمد خليفة في الجمعة ١٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

نهاية التغريبة ( الإستيطان )

 

المقصود بكلمة نهاية التغريبة، أي الوصول إلى المحطة الأخيرة منها، وليس وكما يمكن أن يتبادر في الذهن إنتهاءها، فقد إنتهت تغريبة بني إسرائيل فعليا بعد تاريخ الأحداث التي نتكلم عنها  بعدة قرون  بصحبة نبي الله موسى، فيما خصص له سفر كامل من أسفار التوراة الخمس وسمي سفر الخروج .

 

 أما ما نعنيه بالنهاية فهي نهاية الأحداث، والتي كنا نسردها والتي إنتهت واقع الأمر بإستيطان بني إسرائيل جميعا المدينة التي شهدت هذه الأحداث مجتمعة، وكما أشرنا في تعليقنا في المرحلة الثالثة من مراحل التغريبة، أن ذلك الإرتحال أصبح منذ ذاك الوقت سمة مميزة لتواجد بني إسرائيل في أي مكان بشرط توافر عناصر القوة و السلطة  فيه ومصاحب لهما الإقتصاد والمال، فهذان هما المحوران الرئيسان، واللذان تتحرك بهما جحافل بني إسرائيل بحثا عن المنعة والسيطرة، ولا تتحرك هذه الجموع إلا بعد أن تعطي لها وحدات إستطلاعها من البشر- المتعلمين جيدا والمتقنون لما يعملون -  والمبثوثين بهدوء وروية وصبر طويل، المدسوسين بين ظهراني البلد التي تؤكد الظواهر أنها صاعدة، فيأخذوا أماكن الصدارة، وتتنامى  سريعا شبكة من العلاقات والمصالح المشتركة، مما لا يمكن بعدها أن يكون هناك إمكانية التخلص منهم، عندها يضاء الضوء الأخضر إيذانا بتحرك الأعداد الكبيرة منهم  إلى موقع الأحداث، ليزداد بهم حد الإنتشار وإحكام السيطرة.

إعمالا وتحقيقا وترسماً لروح وكلمات الآية" قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)"

 

كان -  ولا زال -  ذلك ديدنهم العام، الذي يميز تحركاتهم، والخط الإستراتيجي الذي لا يغيب عن فكرهم قيد أنملة، حتى صار عقيدة وصار في دمهم وفي وجدانهم، ولن نكون مبالغين إن قلنا أنهم يرضعونه أبنائهم، فمصيرهم معلق به، واستمرار وجودهم في هذه الحياة، مرتبط باستمرار وجوده، إلا أننا لابد وألا نغفل أن نجاحهم عبرالتاريخ في إعمال إستراتيجيتهم، إنما يكفله لهم أنهم يضعوا نصب أعينهم تحصيلهم العلم، بل وريادتهم لكل فروعه، فلا سبيل إلا به، ولا علو إلا بإتقانه.

 

وبعد هذا التعليق، ومعا نستعرض الآية التي أنهى بها الحق وصف تغريبة بني إسرائيل، وهي جاءت بمثابة موجز للقصة كلها، في نقاط محددة، تعطي صفوة الأحداث موجزة مركزة. 

 


موجز القصة :

                   توجز أحداث السورة  -  سورة يوسف  - في كلمات  الآية ( 100 )

 

{  وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًاوَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّاوَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَالْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَإِخْوَتِيإِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ  إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

 

 حيث عرضها الحق في سبعة وأربعين كلمة، وإحتوت ستة مقاطع، وجاء في الخمسة الأولي منها النقط الفارقة في القصة، أو هي نقط الإنتقال الرئيسية فيها، وجاء السرد بصيغة التقابليات، كأن يذكر الشئ ومقابله أو ما يضاده، كما قد تكون هذه المتقابلات ظاهرة للعيان أو تكون متضمنة منطقيا في النص، وعلينا أن نتلمسها داخل الكلمات وبين السطور

 

ففي المقطع الأول    ".. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا.."

                           وفيها التقابل بين الرفع والسجود

وفي المقطع الثاني  "..وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا.."

                         وفيها التقابل بين مرائي الرؤيا وبين حقيقة التحقق

أما المقطع الثالث    "..  وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ.."

                           وفيها التقابل بين احتباس السجن وطلاقة الحرية

ثم المقطع الرابع             ".. وَجَاءَ بِكُمْ مِنَالْبَدْوِ.."

                                وفيها التقابل بين رخاء الحضر وقساوة البيداء

ونختم بالمقطع الخامس  ".. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَإِخْوَتِي.."

                                     وفيها  الدعة والإستقرار ثم بعد النزغ  الشرود والفرار

 

ويخرج عجز الآية من هذه المتقابلات بذكر خمسة صفات لله وهي أيضا من أسمائه الحسني، لأنه حين تلتقي الصفات بالأسماء تكون ذات الله، وقد وردت في الآية على الترتيب

 

رَبِّي    ،     لَطِيفٌ     ،      هُوَ     ،     الْعَلِيمُ       ،     الْحَكِيمُ

 

وبعد هذه النظرة التحليلية، فلنبحر معا في تفاصيل النظرات المتجددة والتي تتيحها لنا كلمات الآية ومقاطعها، فقد بدأت الآية بحرف التعقيب مع التراخي " وَ " أي بعد فترة من السكون والإسترخاء وهدوء عواصف العواطف والحميمية، عاد يوسف إلي قصره والمكان الذي يشرف منه علي إجراءات العمل، وبلغه العصر عاد إلي مكتبه والذي وصفه الله بالـ 

" الْعَرْشِ "، هو لم يكن ملكاً علي البلاد، لكي يكون المقصود هنا هو عرش الحكم أو عرش الحاكم، لكنه يعني علي الأرجح المكان الرئيسي الذي يباشر منه إدارة العمل، ولأنه ولابد أن تصاحب الإدارة أيضاً مظاهر خاصة بالسلطة، فقد تحتم علي يوسف أن يكون له ما يشير إلي مكانته، فهو وإن كان هو  ليس بالحاكم العام، لكنه حاكم في مكانه فله عرش والعرش من العريشة أي المكان المعد مرتفعاً قليلاً عن مستوي الأرض يعني ما يسمي مصطبة وعندما يوضع كرسي فوقه فيظهر وكأنه عالي عن الوقوف أرضاً راجلا والسياق يقول أنه رفع أبويه علي العرش أي حين دخلوا القاعة أخذ بيد أبويه إلي أن يعتلو هذه المصطبة ترحيباً بهم وإعلاء لمقامهم.

"ِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا  "

يخر ساجداً تأخذ علي نحوين

الأول   :  أنه سجود الشكر لله، و " لَهُ " هنا إنما تعني الله، وهذا يعني أن يوسف قد شارك أبويه  وإخوته في السجود،  

             شكرا لله علي لم الشمل.

الثانى :  أن يكون السجود له -  أى ليوسف - ، وهو سجود تحية كعادة أهل ذلك الزمان لا سجود عباده، مثلما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لاّدم، فهو سجود إمتثال لأمر الله وليس عبادة لاّدم وأغلب الظن أنه هو الأمر الثانى، لأن فى ذلك تحقيق دقيق للرؤيا التي وردت في بداية السورة  الاّية 4   " إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ "

 

عندها صرح يوسف بعد فترة تريث " ...  وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا  ..."

  ثم ردد شاكراً لله إحسانه  ".. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي .."

ولو جاء السياق ( أحسن إلى )   ،  لكان هذا الإحسان خاصاً بيوسف فقط،  لكن الإحسان كان له وكان لأهله - أبويه وإخوته - وأحسن به فى قدر التوقيتات والأحداث حتى تعدى مرحلة البلاءات إلى مرحلة العطاءات بمعنى أن الإحسان قد شمل الأهل والظروف ثم كان أن ذكر أحد علامات هذا الإحسان   " .. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ .."

 

ونرى هنا أنه تعمد ألا يذكر إلقاءه فى الجب وسلبه قميص البلاء، وتعمد إغفال مراودة سيدته الأولى فضلاً عن صديقاتها، وذهب مباشرة إلى موقف دعائه وطلبه هو من الله أن يدخله السجن وكان من بين إحسان الله به وإليه وعليه أن أخرجه من السجن مبرءاً من كل التهم حاملاً لنياشين الأمانة والإخلاص والنبل وحسن الخلق .

 

لم يشر من بعيد ولا قريب لا بالإشارة والتلميح فضلاًعن التصريح ما قام به إخوته بقسوة وشدة وقد أعماهم الحسد وغلف قلوبهم الحقد لم يذكر ذلك لأن مقام الحديث كان عن الإحسان وعن عطاءات الله له ولم يشأ أن يفسد مشهد العطاء الجميل بذكر مفسدة غفرها لهم ودعا الله أن يغفرها لهم.

ثم جاء السياق  ".. وَجَاءَ بِكُمْ مِنَالْبَدْوِ .."

والبدو من البيداء وهي الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف التي تبيد كل مظاهر الحياة فيها.

وذكر البدو هنا إشارة لعلم الجغرافيا ،وتشير إلى أنهم إنتقلوا من البادية التى كانوا يعيشون فيها بقسوتها وتجهمها وشظف العيش فيها، إلى نعيم الحضر، لأن البدو قوم يعيشون على الفطرة والإنعزالية الأسرية، ولا توطن لهم فى مكان، ولا يضمهم مجتمع، وليس لهم بيوت مبنية يستقرون فيها، ولكنهم يتبعون أرزاقهم من منابت الكلأ ومساقط المياه ويحملون رحالهم الى ظهور الجمال متنقلين من مكان لاّخر، وتخلو حياتهم من نعم الحضارة، ففى الحضر يحضر إليك كل ما تطلب ، ولكن الحياة فى البدو تحتم أن يذهب الإنسان الى حيث يجد الخير ولذلك تستقر الحياة فى الحضر عنها فى البادية ، والمقطعان بينهما تناظر.

 

فالسجن به قسوة العيش وصعوبة الحياة والخروج منه إلى الحياة والحرية هى نقلة جديرة بالذكر، وكذلك فبعد المعيشة فى البيداء مع ما فيها من شظف العيش وقسوتها وتجهمها يتم الإنتقال إلى حياة اللين والدعة، ثم وفى لمسة نبيلة يشير إلى ما حدث من طرف خفى.

".. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَإِخْوَتِي.. "

 

هذه العبارة الثالثة التى تحاكى التناظر فى العبارتين السابقتين بمعنى أن هناك موقفين متضادين

حياة مستقرة عادية ثم بعد أن ينزغ الشيطان بينه وبين إخوته يأتى التغير إلى الوضع المخالف وتنزغ هنا هى مجرد وخزة تنبيه إلى الشئ الضار، فيندفع إليه الإنسان، وهى مأخوذة من المهماز الذى ينغز نغزة خفيفة للحصان فينطلق ليسابق الريح ، وهى تختلف بالطبع عن الطعن

ثم تأتى ختام الاّية  ".. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ  إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.. "

 

لابد أن يلاحظ أنه إستخدم " رَبِّي " ولم يقل ربنا أو ربكم، وهذه تنبأ عن إحساسه بربه الذى أكرمه غاية الإكرام وأحسن إليه وإلى أهله غاية الإحسان، فشعوره بالقرب والخصوصية دفعته لإستخدام صيغة الخصوصية  " رَبِّي ".

 

أما عن " لَطِيفٌ " فالشئ اللطيف هو الدقيق الذى يكاد لا يرى، أو هى الذى يحقق مشيئته بلطف ورقة خفية لا يحسها الناس -  ولله المثل الأعلي مثل السلك الشبكية صغير المربعات لكى يمنع الناموس والهاموش فكلما إستدق الشئ كلما صعب -   لا شئ يعوق الله أبداً وهو العليم أي ذاتي العلم، فلا يوجد من هو أعلم منه، فإنه فوق كل ذى علم عليم، هذا فى عالم البشر، فوق كل ذى علم يوجد من هو أعلم منه إلى أن نصل إلى عالم العلماء ذاتى العلم الذى أحاط بكل شئ علماً وهو الله العليم وسوف نلاحظ أن " ال " التعريف تجئ دائماً إذا كان المقصود هو الله أما إذا جاءت بدون الألف واللام فأنه يكون المقصود هو البشر من العلماء

أما إرداف العليم ثم الحكيم بعدها

فأنه لا شئ يعوق الله أبدا، وهو العليم بموقع وموضع كل شئ فهو يجمع بين اللطف والخبرة فلطفه لا يقف أمامه أى شئ ولا يوجد ماهو مستور عنه ولا يقوم أمام مراده شئ وسبحانه خبير بمواضع الأشياء وعلمه سبحانه مطلق وهو حكيم يجرى كل حدث بمراد دقيق ولا يضيف اليه أحدا أى شئ فهو صاحب الكمال المطلق .

 

وحكيم البشر هو تجمع للأفعال الراشدة، فكل تصرف رشيد هو من الحكمة، وإذا إجتمع للإنسان مجموعة من التصرفات الراشدة وصفت أفعاله بأنها حكيمة ويطلق عليه فى هذه الحالة حكيم .

 

هذا فى عرف البشر،،

 أما الحكيم فهو الله، وتكون أقداره وقدره هى الحكمة ذاتها، حتى وإن ظهر للوهلة الأولى أنها ليست فى الجانب الإيجابى من وجهة نظر البشر فى أحوالهم، لكن يتضح فى النهاية أن هذا القدر قد جمع الخير كل الخير لمن وقع عليه هذا القدر.


خاتمة القصة :

 

بعد الموجز  تجئ الخاتمة، وقد جاءت في كلمات آية واحدة، مثلها مثل سابقتها الحاوية للموجز

وهذه الخاتمة تتميز بعدة مميزات 

1.        أنها وقعت في آية واحدة، مكونة من إحدى وعشرون كلمة وستة مقاطع.

2.        أنها تفردت بدعاء نبي الله يوسف بأن يتوفاه الله على الإسلام، وهو ما لم يظهر ثانية في القرآن كله، فهذا الدعاء لم

       يدع به أحد، لا من أنبياء الله، ولا من غيرهم.

3.        أن هذه الآية تشكل التركيبة النمطية لإسلوب الدعاء إلى الله ،بمعني أنها تقولب الدعاء أي تضعه في قالب خاص به ، بما يعني هيكلة الدعاء ، هذا الهيكل النمطي يتكون من ثلاثة مناطق


 الأول  :   تعديد نعم الله

 الثاني  : الثناء على الله

الثالث  : الكلمات التي تفصح عن الدعاء

 

وفي الآية قيد البحث، تتجلي هذه التركيبة بوضوح  حيث أوضحنا سلفا أنها تتكون من ستة مقاطع وقد قسمت بالتساوي على مناطق الهيكلة الثلاث، لكل منطقة منها مقطعين

فالمنطقة الأولى : منطقة تعداد النعم

                      " رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ    ،      وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ

والمنطقة الثانية  : منطقة الثناء على الله

                        فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ    ،      أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

 والمنطقة الثالثة : الكمات التي تفصح عن الدعاء

                        تَوَفَّنِي مُسْلِمًا                   ،               وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ "

 

لذا يحق لنا أن  نزاوج بهذه الآية بين وصفها بأنها الآية الخاتم  في قصة نبي الله  يوسف، وبين أخذها كنموذج  لعلم  فن  الدعاء، وهو أحد أفرع عائلة العلوم الشرعية، حيث هناك سنلحقها بصويحباتها من آيات الدعاء والتي تترسم نفس المنهجية.

 

وبعد هذا العرض التحليلي المفصل، لنذهب إلي كلمات الآية، في محاولة لإستجلاء بعضا من معانيها ، لنختم بها تفاصيل أحسن القصص.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآية 101

 

" رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ "

 

بعد الإقرار بشمول علم الله وحكمته وطلاقة قدرته تنحى يوسف وحيداً فى مناجاة مع الله رافعاً إليه يديه بالشكر والعرفان ومعدداً من النعم ما جمعت من لفظة الملك[1]

 

وهكذا كان دعاء يوسف بالشكر على ما أتاه الله من الملك ثم جاء الشكر على السبب الظاهر والعلم الكائن وراء هذا الملك والسبب المباشر فيه    "..وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ .. "

فقد جاء تعليم علم تأويل الرؤى مرتان ،

الأولي فى الاّية ( 6 )

{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَوَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِوَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَوَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

 

والثانية فى الآية (21 )

{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنمِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْنَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِوَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِوَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىأَمْرِهِ  وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

فى الاّية ( 6 ) كان المقصود هو نبي الله يعقوب وبعض أولاده فلا يعقل أن يكون المقصود بها يوسف لأنه كان سيتواكل، إذا ما علم التأويل ذاك الحين، لذا فيوسف عُلِمﱢ علم  تأويل الرؤى فى الآية (21)

 

أي أنه فى الاّية (21 ) كان المقصود بها يوسف وأردف بها   ".. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.. "

كنوع من التنبؤ بأن هذا العلم سيكون السبب والطريق ليوسف حتى يصل الى الملك والسلطة

هذا عن علم تأويل الرؤى

أما عن الرؤى التى جاءت فى السورة فهى على الترتيب

رؤيا يوسف اّية        ( 4 )

رؤيا السجينين اّية   ( 39 )

رؤيا الملك اّية       ( 43 )

 

ثم جاءت فاطر السموات والأرض إستمرار للشكر والثناء على الله

وهذه تشير إلي الآية ( 22 )

           ".. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًاوَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.. "

أى أن الله أحاطه بالشئ الكثير من علوم الأرض وقوانينها فالله خالق كل شئ فليس غريباً أن يعلمه سبحانه ما شاء

فكل المخلوقات الحية لها أعمار وآجال بعدها يموت المخلوق أما السموات والأرض فهى مخلوقات أزلية مسخرة لخدمة الإنسان بغير أن يطلب منها الإنسان ذلك والحق يقول

فى سورة الحج الآية  (65)

".. وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ .."

وكذلك يقول فى سورة غافرالآية  (57)

".. لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.. "

فالسماوات والأرض خلقن على الفطرة، فاطر هنا بمعنى خلقها على الفطرة الأزلية وأكثر الناس لا يعلمون ذلك لكن القليل من عباد الله هم الذين منحهم الله هذا العلم ومنهم يوسف عليه السلام

 

ثم يأتى من بعد ذلك

             " .. أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.. "

هنا يقر يوسف بأن الله ولى له فى الدنيا أى تولاه بالرعاية والعناية وقد نصره الله وأعانه فى كل ما مر به من عقبات ومصائب ويرجو من الله أن ينصفه وأن يثبته إلى اّخر عمره ثم يتولاه كذلك فى الدار الاّخرة ثم ينهى هذه الاّية والقصة عموماً بدعاء لم يسبق لأحد أن دعاه لا نبى ولا رسول ولا حتى مجرد بشر عادى

            ".. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا .."

أى احفظ على إسلامى وتمسكى بهذا الإسلام إلى أن تتوفانى عليه

وحين زيارة المقابر نقول

 " السلام عليكم دار قوم مؤمنون أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون "

وتسبيق المشيئة مع حتمية وقوع الوفاة، إنما تعنى أن نلحقهم كمؤمنين فاللحاق بهم كمؤمنين هو الغرض الأسمى والطلب الأخير لكل مسلم

 ثم ختام الآية

               ".. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.. "

والصالحين هم المهتدون بمنهج نبى مرسل وهم الأنبياء وغيرهم من الذين اّمنوا برسالة السماء وجاء لفظ الصالحين فى القرأن 26 مرة وجاء فى الاّية (69)  من سورة النساء

" وَمَن يُطِعِ اللَّهَوَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِممِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَوَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًاً "

هذا هو مقام الصالحين، وهو الذى يطلب يوسف أن يكون منهم وبينهم ومعهم، فيكون من الذين أنعم الله عليهم.

 



[1]
تردد ظهور لفظ الملك  (  5 مرات في يوسف )

 الآية 43 { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ...أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا

                تَعْبُرُونَ (43) }      

        50 { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ... إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}

        54 {  وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) }

        72 { قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) }

        76 { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ,, كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ . .عَلِيمٌ (76)}

 

مَلِكْ وهو الشخص الذى يملك وذكر في القرآن 11 مرة، ( 5 مرات في يوسف &1 الكهف &الملك الحق & 2 الملك القدوس & 2 ملك الناس)

مُلّك وهى المساحة التى تغطى سلطة المَلِكْ (42 مره)

ونرى ذلك واضحاً فى الاّية (35) من سورة ص وهو دعاء سليمان

" قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ "

وأنعم الله عليه بالملك الأتى:

الدعوة للإنس والجن، وجنوده منهما، معرفة كلام الطير والحيوان والحشرات،غدو الرياح ورواحها

إساله عين القطر، وورث داوود سليمان الذى ألان الله له الحديد، هذه هى مساحة ملك سليمان والذى لم تمنح لأحد من بعده

أما ..الملكوت فجاءت أربع مرات (83) يس & (88) المؤمنون& (75) الأنعام & (185) الأعراف

وأبرزها الآية 75 فى سورة الانعام

" وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ "

والملكوت هو كل ما لا يظهر من المخلوقات،أى أسرار العالم الحقيقية، والقوانين التى تحركها، والطاقات الخفية، ونحن مطالبون بالبحث فيها ووراءها وقد يفتح الله على بعض المجتهدين من خلقه فيصل إلى بعض منها .

والملك يؤتى من عند الله وكذلك ينزع بأمر من الله

سورة آل عمران الآية 26

" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَالْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنتَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُإِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "

 

اجمالي القراءات 8414