تفاديا لثورة الجياع ( 1 من 2 )

آحمد صبحي منصور في السبت ١٣ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

قال : أفزعتنا بمقال ( ثورة الجياع ) ولم تقدم لنا الحل .

قلت : سبق تقديم الحل مرات عديدة .

قال : قد يقال انها حلول نظرية غير قابلة للتطبيق .

قلت : بل هى حلول عملية وسبق تطبيقها ونجحت .

قال : لا تكلمنا عن الغرب وتجربته . فأنت بنفسك قلت إن الثورة الفرنسية أدخلت فرنسا فى عدم استقرار ومذابح عشرات السنين .

قلت : كلامك صحيح ، بل أقول أن أوربا استهلكت ثلاثة قرون حتى وصلت الى الاستقرار الديمقراطى بعد ثورات وحروب محلية واقليمية وعالمية .

قال : إذن لا داعى لاسترجاع الاصلاح الأوربى هنا . نريد حلا من تاريخنا يكون أسرع وألصق بثقافتنا وديننا .

قلت : الحل الاصلاحى الذى أنادى به من 30 عاما واكثر ، هو ( القرآن هو الحل ) .

قال : رجعنا للكلام النظرى .!

قلت : أى حل يبدا بكلام نظرى . المهم هو إمكانية التطبيق .

قال : وهل كلامك عن ( القرآن هو الحل ) قابل للتطبيق .؟

قلت : نعم ، بل ونجح التطبيق .

قال : وهل التطبيق الذى كان فى عهد النبى يصلح لنا مع إختلاف الزمان والمكان والظروف .؟

قلت : نعم . لأنه مع إختلاف الزمان والمكان والظروف فإن القرآن الكريم يصلح تطبيقه لكل زمان ومكان.

قال : ولماذا وقع الصحابة فى الحروب الأهلية ومعهم القرآن ؟

قلت :  القرآن الكريم يصلح تطبيقه لكل زمان ومكان  لو وجد من يقوم مخلصا بتطبيقه . ليس العيب فى القرآن ـ حاش لله جل وعلا ــ العيب فى الناس . الله جل وعلا لم ينزل دين الاسلام فى القرآن بملائكة تحمل السلاح وتُجبر الناس على تطبيقه ، وتضع من يكفر ويرفض فى النار ، بل أنزله إختبارا للناس ، هل يؤمنون ويطبقون شرعه أم يكفرون به سلوكيا وقلبيا ويبدلون أحكامه ويتخذونه مهجورا . وجعل يوما للدين هو يوم الدين . الصحابة الكافرون بالقرآن هم الذين قاموا بالفتوحات ووقعوا فى الفتنة الكبرى . وهم فى الاسلام ليسوا مصدر تشريع بأعمالهم . هم مصدر التشريع لمن أسس أديانا أرضية يخترع لها الأحاديث والفقه والفتاوى . القرآن الكريم هو المصدر التشريعى الوحيد فى الاسلام وللمسلمين الحقيقيين الذين لا يؤمنون بغيره حديثا .

قال : حسنا . متفق معك . ولنرجع للموضوع الأساس . هل تطبيق النبى للقرآن الكريم يصلح لعصرنا مع إختلاف الزمان والمكان . وهنا أنا الذى أُذكرك بأنك قلت بالاجتهاد فى تطبيق التشريع وفق أدوات العصر ، واستدللت على ذلك بقول الله جل وعلا : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (60) الانفال )، وقلت بنفسك إن إستطاعة القوة ليست بالسيف والرمح كما كان فى عهد النبوة ولكن بأدوات العصر .

قلت : أنت تتكلم عن الأدوات والوسائل ، ولكل عصر أدواته ووسائله . ونحن هنا نتكلم عن الاصلاح بالقيم الاسلامية القرآنية ، والتى نفذها النبى محمد عليه السلام بوسائل عصره وتكون اسهل تطبيقا بوسائل عصرنا . مثلا : تكلمنا عن الديمقراطية المباشرة الاسلامية ( الشورى الاسلامية ) في كتاب منشور هنا ـ  وقد طبقها النبى بأدوات عصره البسيطة حين كان يجتمع أهل المدينة كلهم ـ رجالا ونساءا ـ فى إجتماعات عامة ، كالجمعية العمومية فى عصرنا ، كما جاء فى أواخر سورة النور ، ويتناقشون فى ( الأمر ) أو الشأن مع أصحاب الشان أو أصحاب الأمر أو ( أولى الأمر ) أى المتخصصين فى ( الأمر ) والخبراء فيه . والنقاش يعنى المُساءلة ، وكل فرد مُساءل عن مسئوليته ، والله جل وعلا هو وحده الذى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)الأنبياء ). هذه الشورى الاسلامية أو الديمقراطية المباشرة لن يكون تطبيقها عسيرا فى عصرنا مع الاختلاف الهائل بين عدد سكان المدينة وعدد سكان مصر الآن ، لأنه بالانترنت ووسائل الاتصال الحديث يكن تطبيق الديمقراطية المباشرة سهلا وممكنا ــ لو كان هناك إخلاص فى تطبيقها . هنا لدينا  فى الاصلاح مبدأ يمكن تطبيقه وهو الديمقراطية ، ومع إختلاف الظروف . أقول ثانيا : نحن نتحدث عن مبادىء وقيم إصلاحية إسلامية مطلوب تطبيقها بأدوات عصرنا ، وسبق للنبى عليه السلام أن طبقها بأدوات عصره . والمصدر التشريعى مشترك بين عصرنا وعصره عليه السلام وهو القرآن الكريم .

قال : دعنا نتكلم عن كل المبادىء والقيم الاصلاحية الاسلامية وليس الديمقراطية وحدها .

قلت : ظروف الدولة الاسلامية فى المدينة فى عصر النبى كانت أسوأ من عصرنا . فى عصرنا تجد الثقافة السائدة هى ثقافة حقوق الانسان والديمقراطية والتى نتابعها عبر وسائل الاتصال ، وهناك هياكل عالمية للدفاع عنها من منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدنى الى المنظمات الدولية . لم يكن هذا فى عصر الدولة الاسلامية فى المدينة . كانت دولة الرسول الاسلامية جزيرة للديمقراطية والعدل وحقوق الانسان والحرية المطلقة فى الدين ـ وسط محيط متلاطم من ظلمات العصور الوسطى والامبراطوريات المستبدة العاتية . هذا فى الخارج . أما فى الجزيرة العربية فقد كان الأعداء يحيطون بالمدينة من كل جانب تتزعمهم قريش ، وكانت المدينة هدفا ثابتا تحيطها صحراء من كل الاتجاهات وممكن الهجوم عليها فى أى وقت ، أى كان لا بد أن يخرج أهلها للدفاع عنها بملاقاة العدو فى الطريق حماية لبلدهم . وكانت قبائل اليهود على حدود المدينة ، وقد إرتبطوا بمعاهدات أمن مع الدولة الاسلامية ، ونقضوها . وداخل المدينة كان هناك عدو متآمر حقود هم المنافقون ومعهم من وصفهم رب العزة بالذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة ، ثم هناك مؤمنون مسالمون سلوكيا يتمتعون بحريتهم الدينية فى تقديس الأنصاب ، وهم يتكاسلون عن القتال الدفاعى بل وبعضهم يوالى العدو المعتدى . ثم هناك مؤمنون مخلصون حقيقيون من المهاجرين وألنصار صدقوا ما عاهدوا الله جل وعلا عليه . أى فى داخل الدولة الاسلامية كان أهلها مستويات شتى  ومختلفة من الايمان والولاء للدولة القادمة . ثم كان هناك تحدى آخر .

قال : وماهو ؟

قلت : أن دولة النبى الاسلامية كانت تفتح أبوابها لمن يأتى اليها مهاجرا . بل كان شرط الانتماء لهذه الدولة هو الهجرة اليها والعيش فيها ، حيث يتمتع  فيها الفرد بالأمن والسلام ملتزما بالمسالمة وأن يكون مأمون الجانب ، فإذا كان مؤمنا يعيش خارج الدولة فعليه أن يهاجر اليها . كان هذا ثغرة خطيرة لأنها تفتح الباب لكل من يزعم الايمان ويأتى لكى يكون طابورا خامسا يتآمر على الدولة من الداخل متعاونا مع المنافقين .

قال : كيف واجهت الدولة الاسلامية هذا الخطر ؟

قلت : بعقد إمتحان أمنى للمهاجرين حتى من النساء . إمتحان أمنى ظاهرى فقط ، وليس محاكمة للضمير والاعتقاد ، لأنه مسموح بالحرية الدينية المطلقة والعلنية لكل فرد فى الدولة الاسلام. كان الشرط فيها هو الاسلام بمعنى السلام ،والايمان بمعنى الأمن والأمان . نفهم هذا من قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (10) الممتحنة ) لذا كانت دولة النبى الاسلامية واحة للديمقراطية والعدل والسلام وحقوق الانسان وسط محيط يكتنفه الاستبداد والظلم والقهر والاضطهاد الدينى .

قال : ما الذى تقصده من هذه المحاضرة الطويلة ؟ وما هو التشابه بين ما قلت وبين ظروف مصر التى يتهددها ثورة الجياع ؟ أرجو أن تجيب بإختصار .

قلت : بإختصار : هذه التحديات الأمنية ، هذه الأخطار الداخلية والاقليمية والعالمية التى تهدد الدولة الاسلامية الناشئة ـ هل عالجتها بالاستبداد ــ وهو الثقافة السائدة ؟ ام بالقيم الاسلامية العليا من الحرية المطلقة فى الدين والعدل والسلام ؟ أجبنى على السؤال ؟

قال : أسمع منك .

قلت : سؤال آخر .. النبى الذى كان يأتيه الوحى الالهى من رب العزة والذى كان قائدا لهذه الدولة .. هل كان مستبدا أم مأمورا بالشورى ؟ هل كان مصدرا للسلطة أم كان أهل المدينة هم مصدر السلطة ؟ هل كان يعذّب المعارضة ليؤسّس ما يسمى الآن بهيبة الدولة ــ أى هيبة المستبد ـ أم كان مأمورا بالتحبب للناس ليكسب ولاءهم بإعتبارهم مصدر السلطة ؟ ألم يقل له رب جل وعلا : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران  )، أى إن من رحمة الله جل وعلا أن جعلك لينا سهلا فى التعامل معهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب ( مثل المستبدين فى كل زمان ومكان ) لانفضوا من حولك ، ولو إنفضوا من حولك فلن تكون لك دولة لأنه بهم قامت لك دولة ، ولو إنفضوا من حولك وتركوك وحدك لرجعت اليك سيرة الاضطهاد . إذن هم مصدر القوة وهم مصدر السلطة . ولذا فعليك أن تعفو عنهم إذا أساءوا اليك وأن تغفر لهم غذا أذنبوا فى حقك ، وشاروهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر ، فإذا وصلت الى قرار فاستعن بالله جل وعلا فى التنفيذ .

قال : هل تعنى أن أهل المدينة من منافقين وضعاف الايمان كانوا هم مصدر السلطة وليس النبى .

قلت : نعم . وهذه هى ثقافة المواطنة فى الاسلام ، وتعنى أن دين الاسلام فى التعامل مع الناس يعنى السلام ، وان الايمان يعنى أن تكون مأمون الجانب ، والمواطن فى الدولة الاسلامية يتمتع بالحرية المطلقة فى الايمان أو الكفر وفى الرأى وفى المعارضة القولية وفى المعارضة الحركية طالما هو ملتزم بالسلام لا يرفع سلاحا ولا يقوم بإكراه غيره فى الدين أو فى الرأى أو فى السياسة . ولهذا تمتع المنافقون من اهل المدينة بهذه الحرية المطلقة فى الدين والمعلرضة السياسية . وكتبنا فى هذا كثيرا .

قال : أنت ادخلتنى فى تفصيلات ومتاهات . هل تسمح بأجابة مختصرة .

قلت : نعم  كل أهل المدينة معا كانوا مصدر السلطة ، أو بتعبيرنا ( الأمّة مصدر السلطات ). وهذا مبدأ إسلامى أصيل تم تطبيقه فى عهد النبى وتحت قياددته . كان سهلا على النبى وهو القائد لهذه الدولة أن يواجه التحديات الداخلية والخارجية بإعلان المحاكم العُرفية وأن يحكم مستبدا وفق الثقافة السائدة الغالبة ، ومعه كل المبررات التى مع كل مستبد ، وهو الأخطار الداخلية والخارجية . بل إن من العادات السيئة للمستبد أن يخترع إخطارا ويخيف الناس من عدو داخلى أو خارجى ، أو ان يقوم بتقسيم المجتمع الى أغلبية واقلية ويضطهد الأقلية ويتهمها بالخيانة ليضمن ولاء الأغلبية والتحكم فى الأقلية . لم يكن النبى فى حاجة الى إختراع أخطار لأن دولته كانت فعلا فى حالة أخطار تهدد وجودها . ثم هو فوق ذلك يمتاز عن عصره وعن كل العصور التى جاءت بعده بأنه نبى ـ بل خاتم النبيين ، ومن السهل وهو قائد نبى يوحى اليه أن يحكم مستبدا . ولاحظ أن أى مستبد ديكتاتور يقترب من الألوهية ويزعم أتباعه أنه الزعيم المُلهم ـ اى الذى يأتيه الوحى بالالهام . خاتم النبيين عليه وعليهم السلام كان يأتيه الوحى يتابع خطواته ويرشده ويصحح له ، ومع ذلك كان فى أمور السياسة مأمورا بالشورى الاسلامية التى تعنى فى ثقافة عصرنا ( الديمقراطية المباشرة ).

قال : افهم من كلامك أن الأخطار الداخلية والخارجية التى تهدد النبى عليه السلام وتهدد وجود دولته لم تجعله يختار الحل الأمنى الاستبدادى ، بل إختار مواجهة الأخطار بتأكيد الحرية المطلقة فى العمل السياسى والشأن الدينى فى العقيدة والشعائر الدينية والدعوة الدينية .

قلت : نعم ، وأضيف : أن ثقافة المواطنة الاسلامية تجعل الفرد شريكا فى الدولة على قدم المساواة مع أى فرد آخر . أى إن الوطن فى الاسلام لا يعنى مجرد الأرض التى يعيش عليها أهل الوطن ، بل يشمل الوطن جميع السكان بالتساوى برغم الفروق ( ذكر وانثى / غنى فقير ). أى لو كان عدد السكان فى الوطن مليون شخص فإن نصيب الفرد واحد على مليون  من هذا الوطن . وله فى هذا الوطن حق فى الثروة بقدر إجتهاده ، وله حق فى الكفالة الاجتماعية لو عجز عن الكسب ، وله حق مطلق فى حريته الدينية وفى حريته السياسية ، وحق يتساوى مع أى فرد فى الأمن ، وفى العدل . هنا يكون الفرد صاحب حق أصيل فى دولته ، لذا يكون إنتماؤه لها وجوديا وحقيقيا . بتطبيق هذه القيم الاسلامية ـ أو قل الشريعة الاسلامية الحقيقية ـ نجح النبى عليه السلام ليس فقط فى حماية دولته من الأخطار التى تهدد وجودها ، بل وانتصر على قريش ـ أعتى قوة مشركة ، وفى نهاية عمره رأى عليه السلام الناس فى الجزيرة العربية يدخلون فى دين الله أفواجا .

قال : إذا كانوا قد دخلوا فى دين الله أفواجا فلماذا حدثت حرب الردة بوفاة النبى ؟

قلت : قال جل وعلا للنبى (  إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر)، أى أنه عليه السلام رأى بعينيه دخول الناس ظاهريا فى دين الله الاسلام بمعنى السلام وإيثار الأمن والأمان . لم يكن عليه السلام يعلم غيب القلوب . الله جل وعلا وحده هو الأعلم بما تخفيه الصدور . رأى النبى دخول العرب فى السلام وأنتهاء التقاتل بين القبائل ، وتحقيق العدل والمواطنة والمساواة . ثم تغير هذا كله بموته عليه السلام ، إذ تمكنت قريش من القيادة من خلال تعيين أبى بكر حاكما وفرضه الزكاة المالية ، فثار الأعراب وكانت حرب الردة ثم أعقبتها الفتوحات لتوجيه قوة الأعراب نحو الخارج وإستغلتها قريش  فى إقامة إمبراطورية لها .

قال : بعد محاضرتك الطويلة هذه كيف يمكن تطبيق هذا على الحالة المصرية لنتفادى ثورة الجياع ؟

قلت : أتعبتنى . نكمل حديثنا غدا .

اجمالي القراءات 7719