المشهد الأول : ولقد همت به وهم به
هل هم .. نبي الله يوسف بإمرأة العزيز ؟

محمد خليفة في الثلاثاء ٠٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

وهي قضية الهم، أو ما سنطلق عليه هاجس الهم  { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا...}وهي تحتاج إلى وقفة خاصة وتفاصيل بعينها، سوف نفرد لها دراسة تحليلية خاصة بها.

فالقضية الأولى في مسعانا وهي واقع الأمر،  تتبع تصرفات وانفعالات ومقولات شخص إمرأة العزيز، مع نبي الله يوسف في ( هاجس الهم ) ، وقد تجلت أبعاد هذه القضية في ثلاثة مواقف

الموقف الأول: وقد بدأت الإشارة إليها بالتصريح بلفظ الهم  في الآية

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَءا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}

الموقف الثاني: ثم تأكد معنى الهم بالتلميح دون التصريح في الآية

{   قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) }

 الموقف الثالث : ثم كان فصل الخطاب في موضوع الهم  بالإقرار به في الآية

{   ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) }

وسوف نبدأ - على قدر جهدنا المقل -  في عرض ومناقشة كل تفصيل من تفاصيل هذه المواقف الثلاث .

الموقف الأول: وقد بدأت الإشارة إليها بالتصريح بلفظ الهم  في الآية

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}

 وفي محاولة لفهم هذه الآية رأينا أن نقسمها إلى أربعة مقاطع :

 

المقطع الأول  :       { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا...."

المقطع الثابي  :       " ....لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...."

المقطع الثالث:       " ....كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ...."

المقطع الرابع :       ".....إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }

 

ولقد استطردنا في وصف الهيئة التي كانت عليها إمرأة العزيز، عندما صرحت بالدعوة الصريحة والأمر المباشر أنها قد تهيأت له على كافة أشكال هذا التهيؤ البدني والنفسي، والإقرار بالرضا الكلي على هذا القرار بالتصريح وبالتلميح، أيضا لقد أشرنا في العرض إلى الأربعة عشر شريحة من شرائح الأصرار والتي قامت بها إمرأة العزيز، عند عرض حديث المراودة، وكان من بينها وعلى التحديد في الشريحة الثامنة منها هي قضية الهم ، وأرجأنا الحديث وقتها إلى وقت لاحق، وإلى إفراد مبحث خاص بهذه القضية، وها هو الوقت قد حان لتعميق النظر في هذا الموضوع ، ولبحث كافة جوانبه

 

وإذا بدأنا بالمقطع الأول        :       { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا....

هناك نظره للهم   : على أنه من الهم  والهموم  أى أنها كانت همه و غمه..!

ولقد همت به فقد بدأت الآية بالآداة المركبة  "و"  ثم  "ل"  ثم "قد"   مما يشير إلي التشديد في التأكيد علي من هو الذي بدأ بالهم  (قد .. حرف تحقيق)  تشير الآيه إلي أنها هي التي بدأت بالقطع، هي لم تبدأ مناوشة أو مداعبة أو ملاطفة او تدلل فقد فات أوان كل ذلك، وسبق وجربته ولم تؤد بها إلي نتيجة وجاء وقت الهجوم الكاسح الذي حسبته فعالا { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ...."  أي هم الفكر ويقين الفعل والإصرار عليه ثم تأتي بعدها مباشرة  "... وهم بها ..".

 

اختلف الفقهاء في تفسير هذا الهم من يوسف فقالوا هم بضربها أو هم بدفعها عنه

كما يري بعض الفقهاء أن يوسف لم يهم بها لا فكراً ولا فعلاً، لأنه ما من رسول ولا نبي قام بعمل شيء فيه الخروج عن الطاعة إلا وعوتب بنصوص قرآنيه، وأري أن هذا العتاب ورد فعلا في حالة ممارسة الفعل فعلا  وبعد تمام القيام به مثل

 

عتابه لرسول الله عليه أفضل الصلوات وله أتم التسليم

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) } سورة عبس

 

ومثل عتابه لنبيه يونس

{  وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} سورة الأنبياء

 لكن الوضع هنا مختلف فيوسف لم يفعل ما يحتاج الي عتاب.

 

 والسؤال الآن.. لماذا لم يستعمل الحق ( ولم يهم بها ) ..؟

والرأي عندي أنه وبعد كل هذه المقدمات والإغراءات منها وحال كونه شابا قويا حلوا لابد وأن تكون نفسه قد نازعته إليها ولولا ذلك لـ أتهم يوسف في رجولته، ولعُدَ عنينا أي لا رغبة له في النساء ولا تعطيه فضلاً،

 

 فمراحل القرار بالهم تمر بأربعه مراحل

1- إدراك

2- وجد (ميل) 

3- نزوع ( منازعة النفس)      

4- فعل

 

وأحسب أنها هي مرت بالمراحل الأربعة، بل هي وصلت بها إلي أخر حدودها وتجاوزتها إلي درجة السعار، وهذه المرحلة هي التي تغيب فيها الحكمة ويتم حجب العقل وتكون الغريزة فقط لا غيرها هي الموجهة للتصرفات وهي التي تقود الأفعال والحركة.

أما هو فبالتأكيد أدرك، ثم وجد في نفسه، وأملي عليه شبابه وفحولته ميلا لذلك، وعندما تخطي مرحله الوجد إلي مرحلة النزوع، أي منازعة النفس ومراجعتها أي أنه مازال هناك تاثير للعقل والرأي والحكمة،  وغلبته هذه الحكمة، فلم يتخطاها إلي مرحلة الفعل، فهمه كان فكرا، وهمها كان فعلا ويقينا وإصرارا .

 

ولقد بات واضحا أنها همت به هم الفعل، وتجهزت خلايا بدنها لإستقبال موجات عارمة من النشوة المرتقبة، كانت قد بدأت مرحلة ما بعد البداية، بعد إنتهاء مرحلة المقدمات، إنتقلت بذهنها إلى مرحلة التنفيذ، وداخلها عواء الرغبة، وسعار الأنثى الطالبة، تغربت عيناها وتلاحقت أنفاسها محملة بصهيد الجمرات في صدرها، والتهبت وجنتاها بألوان النار في قلبها، جف الحلق وتوقف الريق عن الجريان، وكبرت خفقات القلب لتسع الكون، وصار وجيبه مثل قرع طبول عظام، ومات الظل ومات النور في عينيها، ودلفت إلى منطقة اللاعودة، وخطت إلى حدائق النيران.

وحين رأى يوسف - الفتى الذي بلغ أشده - هذا الذي يحدث أمامه، وتوافقت موجات من نداءاتها المتتابعة ووسوساتها المتلاحقة، مع واحدة من هنات نفسه، وتهويناتها للأمر، وأخذها جانب التسهيل والتسويل، وأمرها بالسوء، بل أنها أمارة به، وزينت له الفعل وحسنته  وشوقته..لان.. وهان..وهونت عليه نفسه ما كان، فكان أن هم بها.

وعلينا أن نلاحظ أن النص ورد      { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا...."

ولم يرد  " ولقد همت به ولم يهم بها " [1] لأن ذلك سوف يلقي بالشبهة في رجولة يوسف وفحولته ؛

بعدما وصفه الله بأنه قد بلغ أشده       

   { وَلَمَّا بَلَغَأَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) }

لقد تركنا إمرأة العزيز في خيالاتها وآمالها وأحلامها في اللقاء الذي تروم، بعدما أحكمت قياسها بأحاسيسها الأنثوية، وما رأته من قراءتها لما تقول به رسائل مستجيبة من أعين يوسف وهو لا يزال في مرحلة الهم، أن تترك اللجام إليه وتسلم له قيادها، وأن تتوقف عن دعواتها الجريئة وهجماتها الكاسحة، بعد أن إطمأنت إلى إستجابته بتخاذل مقاومته، عندها أغمضت عينيها وانتظرت مبادءاته القادمة ممنية نفسها بإشباع إربتها ممن تعَشَقـَهُ قلبها.

 

حتى هذه اللحظة، والأمر يبدو طبيعيا وكل شئ يسير في خطه المرسوم له، أو كما توهمت إمرأة العزيز ذلك، وما راعها إلا أنها أحست توقفه فجأة عن التقدم نحوها  وإكمال ما بدأه من أشباه الفعل، وما بدا في عينيه من هم  بها ورغبة فيها، ففتحت عينيها المغمضتين لترقب ولتتساءل ولتعطي مزيدا من التشجيع والترحيب، ولتكتحل مقلتيها بإهلاله عليها، ولتحقن بهما مزيدا من النداء والرجاء في دمه ، فما وجدته ..!

 

  دارت عيناها زائغة ملتاعة في أرجاء الحجرة، فما راعها إلا أنه يعالج مزلاج باب الغرفة الذي انفتح معه بالفعل ، ودلف منه إلى الردهة ليعالج على عجل بابها هي الأخرى،

 ما هذا الذي حدث ..؟ وما سبب هذا التغيير المفاجئ ..؟

لملمت شتات نفسها، وانتزعت قلبها من حلقومها، واختلطت لديها مشاعر كثيرة وانفعالات شتى، وتساؤلات محيرة مندهشة، وداخلها حنق كبير، وغضب أعظم،

أهو يهرب مني وأنا سيدته... وصاحبة الفضل عليه ..؟

أهو يرفض عطائي وعطيتي ...؟

 أهو يرفضني بعدما عرضت نفسي عليه...؟

 

مئات من الأسئلة، صارت تعصف في كيانها، وتكوي أضلعها، وانتزعت نفسها انتزاعا من هواجسها، واندفعت كشهاب مارق، تلاحقه لتلحق به، كي تردة عن غيه وترده إلى ما كانا عليه، وليكملا ما بدءاه من تواصل وما شرعا فيه من تناغم.  

فما الذي حدث فعلا لكي يتصرف يوسف على النحو الذي قام به ..؟

فهناك شئ ما .. حدث حتما، جعل نبي الله يوسف يفيق مما كان فيه، ويتصرف على النحو الذي قام به فعلا ..!!

وإجابة هذا السؤال  تتطلب منا الإنتقال إلى المقطع الثاني من الآية

 

المقطع الثاني  :       " ....لَوْلَا أَنْ رَءا بُرْهَانَ رَبِّهِ...."

والسؤال الآن ..ما هو البرهان الذي رءاه يوسف وأثناه عما كان يهم به ؟

وتقطع الكلمات التالية بهذا المفهوم :  لولا [2] هي كلمه تفيد إمتناع الوجود، أي أنه لولا أن رأي برهان ربه لهم بها فما هو برهان ربه الذي رآه ومنعه من أن يهم بها  ؟

 

 

 

 

 

 

اختلف الفقهاء في هذا البرهان كثيرا ، وقبل أن نستعرض هذه الإختلافات نحاول ان نفهم أولا معني كلمه رأي

 

أولاً

رءا بمعني يشاهد

 

وهي علم شهادة، موجود ومحسوس ومنظور ومشاهد بالعين المجردة.

ورد الرسم القرآني على هذه الصورة (11) مرة

ثانياً

رأي بمعني رؤيا منامية، أو الرؤيا الفؤادية

ولا تكون إلا أثناء النوم، أو طائف خاطف في سنة نعاس، أو ومضة بارقة في شرود قلبي، أوهي إلقاء في الروع  وحيا من الله فيما يسمى بحلم اليقظة.

ورد الرسم القرآني على هذه الصورة (2) مرة في سورة الإسراء آيات (11) & (18)

ثالثاً

رأي من الرأي

وهي نتاج فكر، ونابع وجداني، فعندما يكون هناك عدة مقترحات لحل مشكلة ما فنقول عندها -  أنا أري -   بمعني أن رأيي في هذا الموضوع هو كذا وكذا.

 

 

وخلاف الفقهاء جاء نتيجة لأخذهم بالمعني الأول ، رءا .. أي شاهد، فجاءوا بمشاهد كلها مخترعة ولم يقم عليها أي دليل، والرأي عندي أن الأقرب إلي العقل وما يستريح إليه الوجدان هو المعني الثالث أي رأي من الرأي وهو نتاج فكر وقرار داخلي، فقد استعرض يوسف في نفسه فضل ربه عليه، تذكر محنته وتذكر النار وتذكرالعرض يوم القيامة، تذكر وتذكر.. ،  ثم وبيقين من عقل قرر ألا يفعل.

ذهب الفقهاء في ذلك إلى مذاهب شتى جاءت معظمها من الإسرائيليات المدسوسة في تراثنا الإسلامي، ولم تخلو منها روايات دسوها وزعموا أن قائلها هو رسول الله محمد عليه أفضل الصلوات وله أتم التسليم، وابتدعت أمثلة وأقاصيصا وأحاجي ما أنزل الله بها من سلطان، ثم كانت ثالثة الأثافي بأن تفننوا في إشاعة تفاسير واهية لمحكم التنزيل أكثرها كذب وتلفيق وإدعاء بل قلب للحقائق، وحشوها بكل ما يورث العداوة والبغضاء، وخلق التشرذم والتفرق  من ظاهر التناقض الذي تعج به، بما إختلقوه من ترَاهات وافتراءات لا يقبلها عاقل متفكر، متدبر.

فأحد هذه الأهازيج يقول بأن يوسف حين هم  بها، جلس بين شعبتيها، أي أنه إتخذ فعلا شكل الإستعداد للفعل، وأنه وفي هذا الوضع ترائى له وعلى مرناء [3] حائطي وجه أبيه، وللحبكة الدرامية ظهر له واضعا إصبعه في فمه كمن يشير إلى طفل صغير بأنه على وشك الإتيان بخطأ ما، فارتعد يوسف لمرآة أبيه وانتفض هلعا طالبا الباب..!!

ثاني هذه التخاريف، أن الذي تراءى له هو جبريل عليه السلام، وأيضا صاحبت هذه الرؤيا، إشارة نافية للفعل برفع السبابة وتحريكها يمينا ويسارا، بما يعني ضرورة الإمتناع عن هذه الفعلة والإعراض الفوري عنها.

أما الأقصوصة الثالثة، فقد ذهبت إلى أبعد من هذا، فقد إدعت أنهما بعد أن صارا عاريين، وأخذ منها يوسف موضع الرجل من المرأة، للمسافدة، ترائى له كف شديدة تصده عن فرجها..!!

وأما رابع هذه الترَاهات أن إمرأة العزيز حين أحست منه إستجابة لدعوتها الملحة، وأحست من عينية أنه على وشك الممارسة الكاملة، قامت لتخلع ما كان عليها من ملابس، لكن..كان هناك ثمة صنم حجري صغير في الحجرة كان تتعبدة وتصلي له، ولما همت بالتعري خجلت من أن يراها هذا الوثن عارية أو تقارف الإثم أمامه،  عندها تقدمت إليه وخلعت ما كان عليها من ملابس وألقتها على الصنم لتغطيه بكامله، تم كل ذلك على مرأى من يوسف، وفطن إلى مراميها من فعلتها، فكان أن تساءل بينه وبين نفسه أتخجل هذه المرأة من صنم لا يضر ولا ينفع ولا يري ولا يسمع ، وأنا ألا أخجل من الواحد القهار..؟   وانطلق هاربا لا يلوي على شئ .

ثم إلى خامس هذه التخريجات وآخرها، أن ربه التي وردت في الآية ليس المقصود بها إلهه، لكن المقصود بها هو سيده و سيد البيت ( العزيز)، وأنه كان له موكب كبير من الحراس وراكبو الخيول وكان يصحبهم حملة البيارق والرايات، ويسبق كل ذلك أبواق تعلن للناس في الطريق أن موكب العزيز على وشك المرور، كان ذلك هو ما رآه يوسف وسمعه وأدرك منه أن العزيز على وشك الحضور، فانتفض هاربا مما كان عليه.

وهذه الخمسة مجتمعة لا تعطي أي مميزة ليوسف، فقد منعه في الثلاثة الإول مانع قوي لا يمنع يوسف وحده بل يمنع أي شخص يكون في موقفه ويتراءى له ما تراءى ليوسف، ولإحتج كل مقدم على الخطيئة بأنه لم يترائى له من المرائي ما يصده ويمنعه من إكمال مأربه،  أما رابعها فالفضل فيها يرجع إلى إمرأة العزيز، لأنها هي التي خشيت إلهاها الحجري وبذلك تكون في هذه الواحدة هي الجديرة بالإحترام وليس يوسف، أما الخامسة فمردود عليها بأنهما فوجئا بالعزيز يقف عند الباب الأخير، ولو صح ما قيل أن هناك ثمة مهرجان يصاحب مسيرة العزيز لما كان يوسف تحرك في هذا الإتجاه للهرب، ولكان قد إختار مهربا آخر يبعده عن لقاء سيده.

كان هذا تفنيد ما ذهبت إليه الإسرائيليات من مهابط  الآراء، في تأويل البرهان والذي على أثره إمتنع يوسف عن فعل السوء والذي ذهبت إليه  -  للأسف -  بعضا من كتب التفسير.

أما التخريج الذي نميل إلى الإعتقاد بصحته، فهو أن رأى من الرأي الحكيم الرشيد، وهو عقيدة داخلية تبزغ من خلال الوجدان وبعد إعمال الفكر وقياس كافة الإحتمالات لتكون قرارا عقلانيا يصير العمل به، والإصرار عليه.

 

فيوسف حين هم بها، هم بها  فكرا .. لكن حين نازعته نفسه الأمارة بالسوء، لتطوير هذا الهم إلى فعل، كان أن نازعه ما جبل عليه من مكارم الخلق ومن مقامات الإحسان، وتذَكرمغبة الخيانة والغدر، وتفكر في غضب الله عليه إن أقدم على الفعل، كما تصور عليه السلام رضا الله عنه إن كان تقيا، فأيقن بقلبه أن المتعة المحرمة قصيرة زائلة، وأن نعيم الله مقيما خالدا .

ونستطيع أن نقرب هذا المفهوم بضرب المثل الآتي - ولله المثل الأعلى -

لو إفترضنا أنك تقربت إلى ربك يوما بنافلة الصيام، وجاء اليوم شديد الحرارة، وبلغ بك العطش حد الهلاك، وذهبت لزيارة أحد  أصدقائك ولم تخبرة بداءة أنك صائم، فمن الطبيعي أنه سوف يقدم لك تحية لضيافتك والترحيب بك، وكان أن قدم لك كأسا زجاجية مملوءة بالليمونادة المثلجة، والتي تكاثفت قطرات من الماء على سطحها الخارجي دالة على درجة برودتها، ألا سوف تنازعك نفسك إلى الإمساك بها وابتلاعها دفعة واحدة تخفيفا لإحساسك الفظيع بالعطش ؟

هذا هو الهم الذي نقصد، ويكون الأمر بعدها راجع إليك، فإن غلبتك نفسك أضعت ثواب صومك

وإن راجعتها وتذكرت أنك صائم، ورأيت أن ثواب الصيام أفضل عندك من قطع حدة العطش فزت برضا الله.

 

وشبيه ذلك - والتشبيه مع الفارق -  هو الذي حدث مع نبي الله يوسف أنه رأي - من الرأي الوجداني  وليس من الرؤية المشاهدة - أن هذه الفعلة التي وسوست بها نفسه إليه ونازعتها إلى إقترافها سوف لا يجني منها سوي غضب الله عليه وعَدُه من الظالمين الخائنين للأمانة.

ولما ترسخت هذه الرؤية في نفسه وهان عليه ما فعلته وتفعله سيدته  واستصغر رغبته المستعرة فيها، فكان أن فضل الهروب بنفسه من نفسه وانطلق كسهم انطلق لتوه من قوس شديدة أطلقتها يد عفية، لا يلوي على شئ سوى أن تلمس أنامله المرتعشة باب الغرفة، فكان له ما أراد.

المقطع الثالث:       " ....كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ...."

المتحدث في هذه الآية هو الذات العلية ، وبدأ هذا المقطع بكلمة لها تميزها الخاص وهي كلمة كذلك[4]، حيث يمكن تقسيمها إلىثلاثة أجزاء

كـ   = للتشبيه           ،      ذا   =   إسم إشارة    ،        لك    = ضمير المخاطب

وهي تستعمل فيما يسمى بأسلوب اللف والنشر، أي طرح عدة قضايا، وإردافه بعدة حلول بنفس الترتيب والتعاقب.

أي أنه فيما حدث الإبانة عما فعله يوسف، وأن ذلك كان سببه أن الله قد صرف عن نبيه يوسف السوء والفحشاء، ولنا أن نلاحظ أن الحق لم يقل  لنصرفه عن السوء والفحشاء لأنها لو جاءت كذلك لظل كلاهما صنف عين موجود ومتواجد بالقرب من يوسف ولكان هناك إحتمال مهما صغر لإقترابه منهما، أما وقد قال لنصرف عنه السوء والفحشاء، أي أنه أحال السوء والفحشاء إلى كيان أو هو جسَد للسوء والفحشاء جرما ماديا وكثافة مرئية وأبعد هذا الشئ عن يوسف، وهذه إشارة قرآنية دقيقة، وتفيد بعدم وجود أي إحتمال لإقتراب يوسف منهما مهما كان هذا الإحتمال ضعيفا، ومهما كان الإغراء قويا.

 

والآن إلى كلمتي السوء والفحشاء .

فماذا يعني[5] كلا منهما ؟

 

السوء.....تعني كل عمل أو أمر شائن  أو هو الضرر والفعل القبيح والإفساد.

الفحشاء...تعني كل شئ جاوز قدره أو حده فهو فاحش.

           وتعني أيضا كل ما هو ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي.

           وتعني أيضا التعدي في القول وفي الجواب.

 وبعيدا عن سياق الموضوع والذي نحن بصدده، سوف نأخذكم في نزهة إحصائية جد قصيرة، جاهدنا في إختصارها قدر المستطاع، والمقصود منها إلقاء المزيد من الضوء على متعلقات وأبعاد اللفظين :

 

نبدأ بلفظ  :    السوء

 

هو أحد إشتقاقات الجذر ( سـ . و . أ )

وهو بذلك أحد الجذور التي تندرج تحت حرف السين وترتيبه بين حروف الهجاء       12

عدد الجذورالكلية التي تندرج تحت حرف السين                                               112

ترتيب ظهور الجذر ( سـ . و . أ ) من بين الجذور التي تندرج تحت حرف السين        95

عدد إشتقاقات الجذر الكلية                                                                         28

ترتيب الإشتقاق قيد البحث ( السوء ) من بين إشتقاقات الجذر                              12

عدد الإستخدامات القرآنية الكلية للإشتقاق قيد البحث ( السوء )                           44  

عدد الإستخدامات للإشتقاق قيد البحث ( السوء ) في سورة يوسف                        3   

 

 

 

 

 

 

ترتيب الإستخدام

عنوان الآية

متن الآية

17

024

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

18

051

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

19

053

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

 

 

 

 

لفظ  : الفحشاء

هو أحد إشتقاقات الجذر ( فـ . حـ . ش )

وهو بذلك أحد الجذور التي تندرج تحت حرف الفاء  وترتيبه بين حروف الهجاء       20

عدد الجذورالكلية التي تندرج تحت حرف الفاء                                                73 

ترتيب ظهور الجذر (فـ . حـ . ش) من بين الجذور التي تندرج تحت حرف الفاء         13

عدد إشتقاقات الجذر الكلية                                                                         3

      الفحشاء        ولها  سبعة إستخدامات

      فاحشة          ولها ثلاثة عشر استخداما

      الفواحش       ولها أربعة أستخدامات

ترتيب الإشتقاق قيد البحث ( الفحشاء ) من بين إشتقاقات الجذر                           1

عدد الإستخدامات القرآنية الكلية للإشتقاق قيد البحث ( الفحشاء )                        7 

عدد الإستخدامات للإشتقاق قيد البحث ( الفحشاء ) في سورة يوسف                     1  

ترتيب الإستخدام من بين السبعة استخدامات                                                   4

 وهو يقع في الآية  رقم 24

  { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }

 

المقطع الرابع:       ".....إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }

 

لا زلنا في رحاب تأثير " كذلك " التي وردت في بداية المقطع السابق، فهي تعني على لسان الحق أننا قد صرفنا عن يوسف السوء والفحشاء لأنه من عبادنا المخلصين، فقد بدأ هذا المقطع بأداة النصب والتوكيد " إن "  ثم ألحق بها الضمير الذي يدل ويشير ويخص بالذكر يوسف فصارت

" إنه " ، ثم ثنى بأداة التبعيض  " من " أي أدخله الحق في مجموعة شديدة التميز، كل من فيها هو من عباد الله.

وعباد الله جاء وصفهم وتوصيفهم[6] على التدقيق في القرآن عدة مرات، حيث وردت " عِبَادِنَا " على التخصيص -  في القرآن -  إثنتي عشر مرة، أولهم كانت في هذه الآية والتي نحن بصددها، وفيها أسبغ الحق[7] على نبيه يوسف صفتان عظيمتان، بل إنه جل وعلا خصه بهما مجتمعتين، أولهما  : أن الرحمن  وصفه بأنه من  " عبادنا " ، ولا ينال شرف هذه الصفة إلا من إصطفاه الله ومنحه منحة العقل والحكمة والعلم، وكلها منح من لدن الله (منح لدنية من قِبَل الله )

 

ثم المخلصين فهناك خلص لله وخلص بالله.

خلص من الإخلاص - في العباده -، وهي خُلق الأتقياء النقاة من عباد الله وعدم عصيانه بالطاعة وحسن المآب، وهى خُلقً وجدانى وشعور ملح بضرورة الإلتزام .

وأتى الحق بمعني النقاء في سورة النحل الآية 66

{  وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًاخَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) } النحل

 أما خلص ( من التخليص من الفكرالسيئ ومن كل ما هو يشين ) فإنه فعل إلهي ومشيئة علوية أي أن الله قام بإصطفائهم وتطهيرهم وتعليمهم من علمه اللادني وتخليصهم وتنقيتهم  من شوائب الدنيا

 

ثانيهما :أن الله  ثنى بوصفه أنه من المُخْلَصين بفتح اللام، والعجيب أن التشكيل -  وضع العلامات المبينة لأسلوب النطق والإعراب - لحرف اللام بالذات يؤدي إلى أربعة معاني كلها تدور حول معانٍ غاية في السمو

·        فلو جاءت بالكسرة وذلك على النحو " مُخْلِص " فقط لذهبنا إلي معنى الإخلاص، وهي صفة حميدة مطلوبة بشدة لذاتها، لكنها خاصية متفردة ولا تتسع إلى أن تكون وحدها هي الصفة التي يتمتع بها عبد لدنِّي، قد وصفه الله بأنه من " عِبَادِنَا "، بل ولابد أن تصاحبها الكثير من صويحباتها من فضائل الخلق القويم، كي تكمل الصورة، ويتم التطابق بين الوصف والموصوف.

·        فإن جاءت بالشدة المفتوحة فوق اللام وفتح الخاء على النحو " مُخَلَّص "، فإنما تكون بمعنىالتخليص المتكرر من الذنوب والخطايا، أو تكون بمعنى التأكيد المتشدد لمداومة عملية التخليص، وفي هذا المفهوم مراعاة لإحتمال الإتيان بذنوب جديدة، كي يتم التخليص منها، ولهذا يحدو بنا أن نستبعد هذا المعنى ، لأنه لا يتوافق وصفة " عِبَادِنَا " التي وصفه الله بها.

·        وهناك شكل خاص لورودها بأن تأتي بفتح الخاء وتشديد اللام المكسورة وذلك علـــى النحو " مُخَلِّص "، وهي تعني الشخص الذي يقوم بالفصل في القضايا ويخَلِّص الناس  من بعضهم، وهذا المعنى يشكل خصوصية خاصة لأتباع الدين المسيحي، حيث يدَّعون أن المسيح هو مخَلِّصهم من الذنوب والخطايا.

·        أما وأن جاءت على النحو الذي جاءت عليه، بالفتحة فقط فوق اللام وسكون الخاء وذلك على النحو " مُخْلَص " ، فإنها جامعة للمعاني فهو مُخْلِصْ من الإخلاص ، ومُخَلـَّص من الذنوب والخطايا دفعة واحدة مع إنتفاء الإتيان بأخطاء جديدة مستقبلية محتملة، ومجيئها على هذه الصورة جعل  لهذه الصفة كنهاً خاصاً، مما استتبع تحديدا لمواصفات فئة جديدة خاصة بل هي شديدة الخصوصية من فئات عباد الرحمن، أطلق عليها الله إسم المخْلـَصِين ، وجعل من نبيه يوسف عنصرا بازغا في هذه الفئة.

فالمخلـَصين جمعت بين المعنيين ( الإخلاص والتخليص ) ، الإخلاص في عبادة الله وفي التعامل مع خلقه، وهي من خلق الأتقياء الأوفياء النقاة من عباد الله، ثم عدم عصيانه باتباع أوامره في إفعل ولا تفعل، أي بالطاعة الكاملة وحسن المآب، وهي خلق وجداني وشعور ملح بضرورة ودوام الإلتزام، والتخليص من كافة الشوائب والتي من الممكن أن تشين العبد، ليس في التصرفات الظاهرة فقط  - علم الشهادة -  بل وأيضا في المكنونات اللاشعورية المخبأة في ذات الصدور - علم الغيب -  وهو ما يقع فقط في مكنون علم الله، والشاهد أن الله عَلِمَ أزلا أن هذا الكيان يتمتع بهذه الصفات  - بتفضل منه ورحمة -  فقدم ذاك الوصف وهو الذي يقتصر على عباد الله  .

كان هذا عن التأثير المباشر لوصف الحق لنبيه يوسف بأنه  " ...إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }  ، في نفوس مشاهدو هذا العرض المسرحي شديد التفصيل والتفاصيل، بل في قلوب القارئين المتدبرين لآيات الله ، لكن ثمة تأثير آخر - غير مباشر - يظهر من ثنايا الكلمات، أو هو نتيجة منطقية للشهادة التي زان بها الله صدر نبيه يوسف بأنه من المخلصين مما استتبع إقرارا مُصَدَقاً من آفة الشر في الدنيا، والمُنظر إلى يوم الوقت المعلوم، والداعي لكل المعاصي على إختلاف أشكالها، ألا وهو أبليس وقبيله والتابعين له من الجنة والناس عليهم لعنة الله أجمعين ،

 هذا الأبليس شهد ليوسف شهادة يقر فيها بعجزه عن غوايته ، حين قال

{  قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) } سورة الحجر

ورد عليه الحق مؤكدا عليه عجزه عن إغواء من أدخلهم الله في معية رحمته ووصفهم بأنهم من عباده

 { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌإِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) } سورة الحجر

وأيضا جاء نفس المعنى لكنه يسبقه اليه قسم بعزة الله

 {  قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } سورة ص

وورد ولكن بشكل مغاير ،حيث يعرض الحق توعد الشيطان لعباده ، ووعد الله للمؤمنين

 {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } سورة النساء

 

ولسوف نرى  في مواقف متعددة من السورة، أن الشهادات في حق يوسف بصدقه ومروءته وإحسانه وفضله، وأدبه وتهذيبه ونبله، تأتيه من القريب والغريب، ومن النائي والداني، ومن من هو في الجوار ومن هو بعيد، من النساء والرجال، من الملوك والرعايا، من الأحرار والعبيد، من الطلقاء ومن المساجين، وباختصار كل من إحتك بنبي الله يوسف، أو تعامل معه وعرفه عن قرب، لابد وأن يشهد له بحسن الخلق ورفيع السجايا وكريم التعايش.

وهكذا نكون قد قاربنا الفراغ -  وأنى لنا ذلك -  من الآية التي نتدبر فيها كلمات الله، والتي تبدأ بها مناقشة قضية الهم في فاصلها الأول، أو ما أسميناه الموقف الأول.



[1]
  ورد في خواطر الإمام الداعية محمد متولي الشعراوي  في صفحة  6909  طبعة قطاع الثقافة -  دار أخبار اليوم بخصوص هذه النقطة مايلي :

" والهم هو حديث النفس بالشئ؛ إما أن يأتيه الإنسان أو لا يأتيه، ومن رحمة ربنا بخلقه أن من هم بسيئة وحدثته نفسه أن يفعلها ولم يفعلها كتبت له  حسنة . وقد جاءت هذه العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والإمتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين إثنين يصطرعان في شئ.

 "..وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ.." وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت " "..هَيْتَ لَكَ.." وكذلك بين موقف يوسف عليه  السلام حين قال يوسف "..مَعَاذَ اللَّهِ.." ، وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضا؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن رأى برهان  ربه. ويكون فهمنا للعبارة : ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ؛ لأننا نعلم أن " لولا " حرف إمتناع لوجود؛ مثلما نقول لولا زيد عندك لأتيتك.

ولقائل أن يقول : كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والإمتناع عن الذين يقولون : أن الهم قد وجد منه ؟

ولماذا لم يقل الحق : لقد همت به ولم يهم بها ؛ حتى نخرج من هذه القضية الصعبة ؟

ونقول : لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القول اللقطة المطلوبة؛ لأن إمرأة العزيز همت به لأن عندها نوازع العمل؛ وإن لم يقل لنا أنه قد هم بها لظننا  أنه عنين - هو الذي لا يأتي النساء ولا يريدهن وسمي عنينا لأن ذكره يعن لقبل المرأة من عن يمينه وشماله فلا يقصده -  أو أخصاه موقف أنها سيدته فقد  يمنعه الحياء عن الهم بها . لكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعيا وهو قد بلغ أشده ونضجه ؛ ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.

وهكذا لم يقم يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ولا لأن الموقف كان مفاجأة ضيعت رجولته بغتة، ولو كان القرآن يريد عدم الهم على الإطلاق لقال ولقد همت به ولم يهم بها؛ ولكن مثل هذا القول هو نفي للحدث بما لا يستلزم العفة والعصمة؛ لجواز أن يكون عدم الهم لنقص فيه.

إذاً.. فبرهان ربه سابق على الهم؛ فهو قد هم ولم يرتكب ما يتطلبه الهم؛ لأن برهان ربه في قلبه؛ وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.

  [2]الآداة " لولا " وردت في القرآن خمس وسبعون مرة ، منها مرتان فقط في سورة يوسف

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَءأَ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }

{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) }

  [3]  مرناء حائطي تعني جهاز التلفزيون ، حيث ترجم معناه إلى المرناء أي هو الجهاز الذي يظهر الخيالات والصور المتحركة المرئية ، أو هو أشبه بشاشة العرض السينيمائية المسطحة الفرودة على الحائط ، او هي أشبه ما تكون بشاشات العرض  التلفزيونية  ، ذات خصائص العرض باستخدام موائع الكريستال السائلة    LCD  ، حيث يقل فيها سمك شاشة العرض إلى مجرد سنتيمترات قليلة ، هي أقل بالتأكيد من أصابع اليد الواحدة .

[4]  إحصاء ظهور ( ذلك ) في سورة يوسف  ؛ حيث ظهرت  سبعة مرات في الآيات 38،40،48،49،52،65،102

    أما الآداة  ( كذلك )  فقد ظهرت هي الأخرى سبعة مرات في الآيات  6 ،21، 22، 24، 56، 75، 76  

[5]  المعجم الوجيز  مجمع اللغة العربية - حمهورية مصر العربية -  طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم  1990 

[6]  إرجع إلى مبحثنا التفصيلي " تفاصيل إشتقاقات واستخدامات الجذر ( عـ . بـ . د  ) "  في الملاحق

[7]  إرجع إلى مبحثنا التفصيلي " الصفات الخاصة التي أسبغها الحق على أنبيائه ورسله"  في الملاحق

اجمالي القراءات 12845