المشهدالثاني : مؤتمر النسوة
من وحي سورة يوسف - إمرأة العزيز - قضية الهم 2

محمد خليفة في الثلاثاء ٠٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

: مؤتمر النسوة

ونبدأ في عرض ما يخص القضية الثانية والتي تتناولالكيفية التي أدارت بها إمرأة العزيز موضوع إنتزاع الموافقة الضمنية بل  والتعاطف القلبي معها من قريناتها نسوة المدينة ..!

بدأت الإشارة إلى وجوب التحرك  -  من جانب إمرأة العزيز -  لمواجهة الإشاعاتالتي ملأت البلدة وخاصة بين نساء الطبقة التي لا هم لها إلا تعقب الأخبار، ونشر الشائعات، وهن نساء الطبقة الحاكمة، حيث تتميز هذه الفئة بضحالة الفكر والبعد عن الثقافة الراقية، - إلا بعض من الإستثناءات التي تثبت القاعدة - ، والتي تتشاغل بأحاديث الخدم، والمتنصتون من وراء الجدر، والمتسمعون لما يقال خلف الأستار، وتتلقف الأخبار من العيون المرصودة لهذه الأغراض من ضعاف الذمة ومعدومو الضمير من أفراد حاشية السوء واللذين تعج بهم القصور ليس في ذاك الزمان فحسب، لكنها سمة العائشين في القصور.

وقد تناولت الآيات التالية عرض هذه القضية بتفاصيلها وبرمتها :

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) }

الخطوة الأولى : سريان الإشاعة

تشير أوائل الآيات إلى أن الحدث قيد البحث بدأ بمقولة قالتها نسوة بالمدينة - وهي تعد من بنود علم الإجتماع - وهي تلقي الضوء بقوة إلى مغبة الإشاعة وسوء تأثيراتها ومدى الأضرار والإضرار الذي تلحقه ببطل الموضوع  وبمن يحيطه، فأصل الموضوع أن امرأة العزيز " راودت "  لكن النسوة ألصقوا بها صفة الاستمرار والدوام والتكرار، فكان أن أضافوا -  بصيغة المضارع -  أنها   " تراود "  بمعنى أنها لا زالت تحاول ولم توقف محاولاتها بعد، وهذه خصيصة أخرى للنساء، فهن يغالين في الحديث وفق تصوراتهن عن التصرف اللائي كن سيتبعنه لو أنهن في ذات موقفها ..!!

ثم أنهن ألصقوا بالرجل موضوع القصة صفة التخصيص لها والقصر عليها، لم يقلن عنه خادمها أو تابعها أو عبدها، بل قلن  " فَتَاهَا "[1]  فقد أشاروا إلى فتوته وفيها تلميح خفى إلى شبابه وحيوته، وتجوابه السريع مع رغباته، ورغبات النساء منه، بل هو في تصورهم رهن إشارة سيدته، فور طلبها منه شيئا أيا كانت طبيعة  هذا الشئ .

ثم تأتي بعدها  "  قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا " [2]  وفيها إشارة إلى مقدار ما تعانيه بطلة الإشاعة - من وجهة نظرهن - ، من حب وعشق وصبابة تقترب بها من  أن تكون   {... حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ...}[3]،ومما يعني أنها قد إمتلأ  قلبها بحب فتاها حتى وصل إلى حدوده القصوى، وذلك بأن لامس شغاف القلب.

بعدها تأتي" ....  إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "          

     لقد وصفن فعلتها، أو صنفن ما حدث بالضلال، ويظهر هنا لونا من فسوق الطبقة العليا من المجتمع، فإنهن يصفن الذي حدث منها بأنه يقع في منطقة الضلال ..!  ، أي ضلال هذا الذي يدَعون،  فقد جرت العادة على نسب الضلال إلى من يحيد عن طريق الله، أو من هو يتخبط  ولا يكاد يتبين الحق، وهن بعيدات عن تلكما المعنيين، إذن مالذي دفعهن لأن يلومونها  ؟

 وعن أي فعلة كان ذاك اللوم  ؟ ،

 وحقيقة الأمر أن اللوم هنا -  إن كان هناك مدعاة للوم  واستحقاقا للرمي بالضلال -  ليس للإتيان بالفعل الفاضح (الفاحشة) لكنه ولكونه حدث مع أحد العبيد، أي هو من طبقة أدنى من طبقتهم، وأن هذا هو الضلال من وجه نظرهم، فضلا عن أن امرأة العزيز سمحت لهذا الموضوع بالإنكشاف، وكان يجب عليها أن تكون أحرص مما كانت عليه وعدم التهالك المشين.

 

الخطوة الثانية  : الإعداد للمؤتمر

{  فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}

وقد تم فصل هذه الآية إلى  ثمانية مقاطع، وسوف نركز الضوء على مقطع إثر مقطع منها، كي  نقف على مقدار ما كانت عليه إمرأة العزيز من قدرات عالية في علوم التخطيط ، علوم الإدارة، وفي علوم العلاقات العامة .

1.                                          ".. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ.."

أي أنه حدث أن  وصلت إلى مسامع إمرأة العزيز، الإشاعات التي يطلقها عليها بعض صويحباتها، بعد أن ترامت لأسماعهن ممن يتطوعون بنشر أخبار البيوت وأسرار القصور، وقد وصفها الحق بالمكر، فلم تأت بكلامهن أو بقولهن لأن ذلك الوصف كان يعني الإكتفاء بما حدث، لكن المكر أكبر من ذلك وأعم، فهو يحتوي الكلام، كما يحتوي إضافات التوهم، وزيادات حتمية من هوى ضعاف النفوس، ومزايدات من كل منهن  في مثل هذه الحالات ، فكل منهن تضيف إلى الذي وصلها من الأخبار بعضا من خيالها المريض، أو من الذي تتمناه أن يكون قد حدث ، ففي ذلك إذكاء لنار الفتنة، وتضخيما لسحب الفضائح السوداء المذمومة .

فالمكر المشار إليه هنا، لم يكن إلا إضافة وجدانية سوداء، فيها تلميح إلى مقاصد لم تقع  وإشارة إلى أحداث لم يجر التفكير فيها، كما يمكن أن تحتوي أحقادا وضعية وضيعة، ذلك لتميز وضعها عنهن أو حسدا من عند أنفسهن، لتشوقهن لما هي فيه من مكانة وعزة، وإضافة منهن من تلك تضاف إلى إضافة من هاتيك، وكلما باعد الزمن بين نقطة بداية الحدث ونقطة نهاية الإشاعة، نجد أن الإنتشار المروحي المتزايد أضفى إلى وعلى الحدث الكثير، حتى لتجدن أنه لا علاقة البتة بين مقدمات الحدث وبين نهايات الأحاديث .                                                                                  

2.                                         ".. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ.."

من هنا يبدأ الإعداد للمؤتمر المزمع إقامته، وطبقا لخطوات إعداد المؤتمرات وحسب قواعد علم العلاقات العامة، وعند إزماع إقامة مؤتمر ما، فلابد من إرسال دعوات لكل المشاركين كل باسمه وعلى عنوان إقامته، محددا فيه مكان إنعقاد المؤتمر، وتاريخ بداية المؤتمر وتاريخ نهايته، ومكان إقامة وفود المشاركين - إذا إستدعى الأمر امتداد أعمال المؤتمر لعدة أيام - واختصرت هذه الإجراءات جميعا في كلمة واحدة "  أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ".

3.                                          ".. وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.."

يال دقة اللفظ القرآني، وجمال جرسه، لقد جاء اللفظ "  وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ  "، هو لم يرد - وأعدت لهن- لأن هناك ثمة فارق كبير بين أعدت، وأعتدت،  فأعدت تعني تنظيف وترتيب شئ موجود بالفعل، وذلك مثل إعداد غرفة الضيوف الموجودة فعلا في البيت، لإستقبال ضيف أو أكثر .                                                         

أما   أَعْتَدَتْ   فإنما هي تعني أن هناك تكوينا جديدا لم يكن موجودا من قبل لمكان الإستقبال المتوقع، مع تزويده بالمباخرالتي تنطلق منها روائح الزيوت العطرية الزاكية المحببة إلى النفوس، وكذلك بمراوح من ريش النعام المتحركة دوما وقد أمسكت بها جوار كل واحدة منوطة بواحدة منها لتضمن دوام التهوية الجيدة المتجددة  للمكان ، فضلاعن الأستار التي تحجب من ضوء النهار أكثر مما تسمح، فكانت شفافية العتامة وسحرها ، وكذلك كان إفتراش أرجاء المكان بأبسطة أعجمية من حرير وإستبرق، وأضافت عليها بعضا من لمساتها الأنثوية فقد ملأت أرجاء المكان بالشمعدانات المعمرة بخصيص الشموع والتي تسيل في تباطئ يوشي بعدم إنقضاء الوقت، أو عدم الرغبة في مروره.

ثم إلى ثالثة الأثافي في ترتيبة المكان والزمان والإضاءة الخافتة شاعرية الوقع، وهي توافرالعديد من الوسائد شديدة النعومة والرخاوة، والمتباينة في ألوانها، وزخرفاتها، وتطريزاتها، مما يوحي بالإتكاء والإرتخاء وتسيب الأعصاب وهدوئها، مما يسري بالخدر في أرجاء البدن، ويغيب العقل، ويدخل الذهن في متاهة لايود الخروج منها، صافيا رائقا مترقرقا كأنه انتقل إلى جنة لاينبغي الخروج منها، كان هذا الذى سردناه بعض من كثير أعددته إمرأة العزيز في قصرها، بعدما تخيلته من قبلها في ذهنها، كانت كمن تري الغيب، ورأت بعين خيالها ما سوف يحدث، وكما أرادته وجاء موافقا لمطلوبها.

4.                                          ".. وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا .."

كان المقطع السابق يصف بدقة إعداد المكان لإستقبال المؤتمر، ثم جاء الدور على تزويده بالإمكانيات والأدوات اللازمة المطلوبة لإستكمال مسيرة المؤتمر، وكانت هذه الآداه لا تعدو أن تكون سكينا ..!!

ولإكمال الحبكة كان من المنطقي أن تقدم من الأطعمة  ما يحتاج إلى استخدام السكين عند تناوله، - فاكهة البرتقال مثلا - وكانت أثماره منتشرة ذاك الزمان في مصر والذي يتميز بغطاء من قشر سميك يتطلب معه بعض الجهد في تقشيره والحرص في الإمساك به، مما يومئ أيضا إلى وقوع هذه الحادثة في الشتاء، ذلك لأن البرتقال فاكهة شتوية. 

أي شئ ترومين ياامرأة العزيز من هذا السكين الذي حرصت على أن يكون قاطعا ماضيا، كأنه قد عاد من الشحذ  لتوه ؟

وأي سر في حرصك علي أن تمسك كل واحدة منهن بسكين[4] خاص بها ؟

 

5.                                          ".. وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ .."

بدأ هذا المقطع بكلمة " وقالت "  ، الحديث يجري عن أحوال إمرأة العزيز، وعن إعدادها الجهنمي لمؤتمر النسوة اللاتي تقولن بالكلام عنها، ثم يفاجئنا النص بأنها توجه الحديث إلى كيان مخفي عن الصورة وهو مختفي في مكان ما ، أو هو محدد الإقامة في مكان بعينه، ولا يغادره إلا بإذن أصحاب القرار في البيت،  ذلك لأن المنطقي أن يقال في مثل هذه الحالة  - أدخل عليهن - حيث أن النسوة قد تجمعن في المكان الذي أعد كمسرح  لمسرحية تم الإعداد لها جيدا، وجاء إخراجها والتخطيط لها بإحكام غير مسبوق ولا ملحوق، والمفروض أنه سيدخل عليهن، أما وقد جاء النص على هذه الصورة  "  وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ  " فإنما ذلك يعني أنها تأمر بطل المأساة "يوسف" بأن ينتقل إلي خشبة المسرح وإلى ساحة العرض، إلي حيث يكون في إمكان الرؤية وتحت الأضواء، وأغلب الظن أتها أمرته مسبقا بإصلاح هيأته وتهذيب لمته ولحيته، وإصلاح شأنه جميعا، كي يبدو على أكمل صورة وأبهى وجه، ثم ضمخته بعطور فواحة لمزيد من الحسن، ولا أحسبه كان في حاجة إلى ذلك، فقد أنعم الله عليه بنصف الحسن المأمول للبشر جميعا.

ويجب هنا أن نلفت النظر أن هذا المقطع قد بدأ بحرف الواو، وذلك يعني أنها قد انتظرت بعض الوقت بمقياس تزامني خاص في ذهنها، وبتقدير توقيتي دقيق، كي تدع الفرصة لهن في الإتكاء والرحرحة[5] ، ولكي يسري في أجسادهن خدر الراحة، وعندما إطمأنت إلى وصولهن جميعا إلى هذه الحالة من سكون العقل وإبعاد نبضات الحذر، عندها قدرت أنها هي اللحظة التي تضرب فيها ضربتها، إلى حيث مفاجأة العرض.

 

 

6.                                          ".. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ .."

إذ هلَ عليهم يوسف بضيائه، وجماله،وجلاله، وهيبته، وحسنه، والنور الذي ينبعث من وجهه، وبتلألؤ ثناياه، في خطوات متئدة واثقة، تسبقه ريحه الطيبة الزكية الفواحة .

لقد تم كل ذلك في أزمان لا تتعدي رمشة العين، أو خفقة القلب حيث بدأ المقطع، بحرف الفاء، والذي يعني التوالي مع التعجيل، وقد أردف بالرؤية، وأعقبت الرؤية أنهن ملأهن شعور بالمهابة لهذا الماثل أمامهن فتملَين منه إعزازا، وتصاغرن أمامه إكبارا .

فجأة خفتت الأصوات ثم سكن كل شئ، وكأن على رؤوسهن الطير، ولم يعد يسمع إلا حفيف مراوح الريش، ووجيب خفقات القلوب المتسارع في الصدور، وانشغلت كل ذات بنفسها، تحشرجت الأنفاس، وتغيرت كيمياء البدن، شلت توقفات العقل، وانطفأت لمبات الحذر، ودخلن في متاهة الأمنيات، كل منهن تتمناه لنفسها، وكل منهن تحسبه قد خلق خصيصا لها، اختلط في أذهانهن مشاعر الرغبة فيه والإستحواذ عليه، وداخلهن حسد وغيرة من سيدته التي لم تحسن غوايته، ووجدت كل منهن أنها الأحق والأجدر ممن دعتهم إلى رؤيته.

وجاء إختيار اللحظة التي إقتنصتها إمرأة العزيز لخروجه عليهن، في ذات الوقت التي رأت فيها بعين وعيها المترقبة، أنهن قد شرعن في تقطيع وتقشير ما قدم لهن من فاكهة، وأنهن في أعلى درجات الرحرحة والإرتخاء ،إختيارا غاية في التوفيق حيث أنهن إستمررن في تحريك السكين على هيئة القطع، لكنه من فرط غيبوبتهن ودخولهن في متاهة لا مخرج منها، صرن يقطـِّعن أيديهن، وتواصلن التجريح والتقطيع دون أن يشعرن بآلام الجروح ولا دفئ الدماء المنسابة منهن.

كانت رؤيتهن ليوسف ( أكبرنه ) أكبر من مشاعر الألم، وأكبر من أحاسيس الجراح، وعلينا أن نلاحظ أن النص ورد " قطَعن " بالتشديد المفتوح لحرف الطاء، مما يشير إلى أن كل منهن  لم تكتفي بتقطيع يدها قطعا واحدا، وإنما عدة قطوع في يد كل منهن، حتى يفوت عليها الفرصة بالإدعاء بأن القطع ما هو إلا قطعا واحدا جاء بالخطأ أو سهوا، لكنها عدة قطوع شاهدة على أنها كانت في غيبوبة إدراكية، أو هي حالة غياب كامل عن الوعي، أو بالأحرى متاهة عقلية أودت بكل واحدة منهن إلى هذا الدرك من إنكشاف ما كن عليه من ضعة وهوان.

تحولت أعينهن من الرغبة الهادئة في تذوق ما بأيديهن من فاكهة، إلى رغبة عارمة في إلتهام هذا الزائد في الجمال، المفرط في الكمال، الفائض في الدلال والإعراض، صرن يأكلنه بأعينهن، وتحركت كيمياء الجسم وعواءات البدن، وتنامت رغبات مكبوتة في جسد كُلِ منهن، كلٌّ تريده لنفسها، كلٌّ نفست على إمرأة العزيز أن يكون هذا الكيان رائع التكوين، مكتمل المعاني لها وحدها، كلٌّ قدَرت في نفسها أنها الأجدر به والأحق باللحاق به والإستحواذ عليه.

كانت إمرأة العزيز ترقب كل ذلك، فرحانة جزلانة، كانت على يقين بأن الذي حدث كان حتمي الحدوث، فهي إمرأة وتعرف جيدا أحاسيس النساء، واندفعت تحدوها نشوة الإنتصار، ويكسو عينيها بريق التشفي، في مواساتهن وتضميد جراحهن، وقد تم لها - مع فريق من المعاونات - تطبيب جراح اليد، فهل نجحن في تهدئة جراح القلوب..!! ؟؟

7.                                          ".. وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) }

أي أنه بمجرد أن وقعت أعينهن على يوسف، توقفت الأنفاس عن التردد، وجفت الأريقة في الحلوق  وتحلقت أحداق العيون، وتحجرت النظرات على هذا الكائن الذى هلَّ عليهن من عليائه، أو هكذا حسبنه.

لقد أزاد الله مهابته في أعينهن، مما يجعلهن لا يرينه بعين الإبصار فقط، لكنهن رأينه أيضا بعين البصيرة، لم يحكمن عليه بما شاهدوه من جـَرمه المادي البشري، بل أن الذي رأينه كان قدره المعنوي حيث بدأ المقطع

  " وقلن " بحرف الواو الذي يعني التوالي مع التريث، أي أنهن قد تركن الفرصة لأنفسهن بالتملي في هذا الوجه الصبوح واختزان لأكبر كمية من ضيائه، لقد هتفن جميعا بصوت لا يكاد يبين، كأنما تهتف به كل واحدة لنفسها، أو تنادي به أعماقها لكي تسري عن نفسها، أو كانت تبحث عن قشة وجدانية تتشبث بها خشية الغرق في هذا الفيض العارم، والسيل الدافق المتدفق .

 لقد لجئن إلى من  إعتادوا أن يلجأن له في المصائب والملمات، تلك القوة الغيبية الكائنة في صدورهن غيبا،  والتي تمثل ظلالا قديمة باهتة - أصبحت تراثية من ديانات الوحدانية والتي نادى بها نبي الله أدريس، ثم من بعده نبي الله ورسوله إبراهيم  -  وأصبح اللجوء إليها أو ذكرها من باب الإعتياد وليس من باب التعبد بها فقد أردفن

" وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ "   أي أنهن يستبعدن أن يخلق الله بشرا على هذه الدرجة من الجمال، إلا أن يكون أحد ملائكته قد تنزل إلى الأرض، ولن يلبث إلا أن يغادرها وليس ذلك فحسب فقد قدرن أن هذا المـَلك، لا يمكن أن يكون بالقطع ملكا عاديا بل أنه سلالة خاصة من الملائكة حيث أضفوا عليه صفة الكرامة والخصوصية، ذلك بأن وصفنه  " إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ".

 

الخطوة الثالثة: قرارات المؤتمر والتوصيات

{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) }

لقد أنفذ المؤتمر الهدف الذي تنادوا به من أجله، وأخذت إمرأة العزيز منهن تفويضا يتيح لها أن تتخذ من الإجراءات ما يكفل لها تحقيق أغراضها جميعا في يوسف، هي بالطبع لم تأخذ هذا التفويض بالكلام المجرد، ولا بالإيحاء، إنما هي إنتزعته منهن إنتزاعا على الرغم منهن، وأمهرنه جميعا بخاتم لا يقبل النقض، لقد صدقن عليه بدمائهن، وليس ذلك فحسب بل تزامنت مع الدماء قطوع وجروح وعلامات في الأيدي لن تزول مهما تقادمت أو إمتدت  بها الأعمار، وستبقى شاهدا على ما قلنه، وأيضا على ما فعلنه بأنفسهن، وأحسب أن كل واحدة منهن سوف تشعر بالأسى والخزي عندما تطالع الندوب المتخلفة عن قديم الجروح، كما سوف تشعر بأنها قد ساهمت بتقديم يوسف ككبش فداء للرغبات المجنونة التي تكتنف إمرأة العزيز تجاهه.

دار كل ذلك في ذهن إمرأة العزيز، وهي ترقب الدماء وهي تتساقط من الأيدي الناعمة، كانت سعيدة جزلانة لأن خطتها قد نجحت، وأن ما دبرته آتى أُكله، وقامت في وسط القاعة تبرق عيناها ببريق الإنتصار وفرحة النصر كأنها عادت لتوها من معركة حربية حققت فيها إنتصارا كاسحا، قامت تكسوها نشوة الفوز وهتفت بصوت كالفحيح أرادته عاليا كي تسمع الأحياء منهن وتسمع أيضا من في القبور، فمنهن موتى وهن أحياء، ومنهن أحياء لكنهن كالموتى.

 { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي ...}، كانت في تلك البداية الرد على ما قلنه في مرحلة ترديد الإشاعة  من كونها قد شغفت به حبا، وأنها في ضلال مبين ،

 أي هل رأيتن بأعينكن هذا الذي كنتن تلومونني عليه ؟

 وهل عاينتم بأنفسكن ما كنت ولا زلت فيه من المعاناة والحرمان ؟

وهل ذقتن من نفس الكأس التي تجرعت منها القهر ألوانا، والذل أشكالا، والمهانة أنماطا من التجاهل والإعراض؟

 

إزداد صوتها حدة وصارت له رنة نحاسية قاسية، وازدادت عينيها جحوظا، وتشنجت أطرافها إنفعالا، وبرزت عروق رقبتها غضبا، وصاحت {..  وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ..}     لقد كشفت عن مكنون غيظها، وعظيم حنقها، فما تأخذ عليه إلا أنه   " استعصم  " وكأنه ليس له ذلك، كما أنه ليس من حقه أن يعترض، وكأنها إعتبرته دمية تلهو بها، فما راعها إلا أن هذه الدمية ليست إلا  في خيالها فقط، وأنها تواجه نفسا أبية، وجبلا صامدا لا يحيد، ولا يمالئ، كان ذلك التأبي هوأعظم ما يواجهها ويعتصرها ويؤلمها، وأمسكت بهراوة التحدي، ولوحت بسيف التهديد      { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) }

هذا هو بيت القصيد، وفك الإشتباك، أن يفعل ما يؤمر به منها، وأن يمتثل لرغباتها، وإلا.....!!! أيمكن أن يكون العشق أمرا ؟ والحب جبرا ؟

 إن هذا لن يكون عشقا، ولا الحب حبا، إنما هو كرامة الأنثى المثلومة، ورتقا لكبريائها الجريح .

لقد أفصحت عن جبروتها، وعن فجورها، وعن عدم إعتدادها بمن حولها في كلمات موجزات، إنها لا زالت على إصرارها فيما ترومه منه، حتى وإن اضطرت لأن تلفق له تهمة تزج به إلى السجن، أو تدخله في متاهة من المشاكل المتلاحقة والتي تذهب العقل، وتدمر الفكر، وتحيل الحياة إلى جحيم لا تهدأ نيرانه، حتى يأتيها زاحفا طالبا العفو والسماح، صاغرا لا يملك إلا الرجاء.

 لك الله يامن كنت ولا زلت زوجها ،

 لك الله يا من نادوك بالعزيز وليس لك من صفة العزة إلا  رسمها ،

 لك الله يامن نظرتها بسابق فكرك، وأسبغت عليها بالشهادة لها بعظيم الكيد،

 لقد صدَّقَت على مقولتك من تأكيد عـِظـَم كيدها مرتان، أولها بما إدعته لدى الباب، وثانيها بما فعلته في النسوة.

 

وبذلك نستطيع أن نلمح من ثنايا الكلمات المؤشرات التي تجعل من إمرأة العزيز مديرا ناجحا

 

1.      مواجهة الإشاعات والمشاكل الناجمة عنها ليس بنفيها، وليس بتبريرها وإنما بمواجهتها بتعقل وحكمة.

2.     الإعداد الجيد المخطط باقتدار، للندوات، وللمؤتمرات واللجان والتي منها نحدد الهدف ونبلور الحلم ، بل ونصدق عليه.

3.       الإصرار على بلوغ الهدف مهما كانت العقبات أو التحفظات أو المشاكل.

4.      الجرأة على الإقرار بالحق مهما كانت النتائج.

 

وهكذا نستطيع أن نعد إمرأة العزيز -  من وجهة نظر علم الإدارة -  مديرا فعالا ناجحا، وإن كان الهدف غير نبيل ، ذلك لأنها ترسمت في خطواتها بعضا من سمات المدير الناجح، للوصول إلى الهدف، والذي حددته ابتداء، ثم أصرت على بلوغه، لكن الذي لم يكن في حسبانها أن الهدف لم يكن شخصا عاديا، وإنما هو نبي كريم ومن سلالة كريمة ، وأنه مُخَلـَّـص من السوء والفحشاء وأنه من عباد الله المخلصين، وهيهات لها النجاح في مسعاها، وأنَى يكون لها هذا النجاح.




[1]
  وردت كلمة " فتي " في القرآن بتخريجتين أولها من الفتيا والإفتاء ووردت في سبعة إشتقاقات، وإحدى عشر استخداما، ثلاث منها في سورة يوسف  وهي      أفتنا في الآية 46 ، أفتوني في الآية 43 ، تستفتيان في الآية 41

ثانيها من الفتوة  ووردت أيضا في سبعة إشتقاقات  ، وعشرة استخدامات    ، ثلاث منها في سورة يوسف

وهي         فتاها في الآية 30 ، فتيان في الآية 36 ، لفتيانه في الآية 62

[2]  شغاف القلب هو قشرة جلدية رقيقة شفافة تحيط بالقلب من جميع جوانبه ،

 وجاء في الذكر الحكيم " قد شغفها حبا "، أي أن حبه قد ملأ قلبها تماما حتى  لامس شغاف القلب، وهو دليل على فرط زيادة الحب

[3]  الحرض هو الموت عشقا أو حزنا ، أو هو الذوبان من العشق أو من الحزن ( معجم مختار الصحاح )

[4]ملحوظة مهمة : قبل المضي في وصف ما نحن فيه، من مسرح العمليات والذي تم إعداده بدقة، للنفاذ إلى غرض بذاته، نود أن نلقي الضوء على أن إستعمال أداة القطع المشار إليها في الآية بغرض تقطيع الطعام يعتبر تعبيرا عن مدى ما كان عليه هؤلاء الأقوام من مدنية وتحضر، فاستعمال السكين في أثناء الأكل, لم يعرف إلا مؤخرا، ومؤخرا جدا  وبعد العصور الأوربية السوداء وإهلالة فجر الحضارة والرقي بعد الثورة الصناعية الكبرى، وأيضا بعد إرساء القواعد العامة للثورة الإجتماعية والعلمية المصاحبة لها ، وكذا إنفجار وعي الإنسان بحقه وحقوقه في الحياة.

 

[5] رح الخبز أي بسطه وأزاد من مساحته، ورحرح الخبز أى أوسَعه كثيرا، ويقال رحرح المرء أي تخلص مما يعيق حركته

اجمالي القراءات 8383