المشهد الثالث : وإلا تصرف عني كيدهن
من وحي سورة يوسف - إمرأة العزيز - قضية الهم

محمد خليفة في الثلاثاء ٠٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 

وللإنتقال إلى الموقف الثاني، فإنه لابد من التريث لإلتقاط الأنفاس، لنخرج أنفسنا من تأثيرات الآية التي كنا نبحث، مع إبقاء نتاج ما خرجنا به منها في ركن بعيد - مؤقتا -  في الذاكرة، لنضم إليه بعد قليل وقت، المعاني التي سوف تصلنا بعد استعراض الآية التي تشير إلى الفاصل الثاني من هذه اللقطات شديدة الخصوصية وشديدة التباعد في مواقع ظهورها من السورة الكريمة، والتي تربطها خيوط غير مرئية مكونة ما يشبه العقد المتجانس من الأحداث التي تكمل بعضها، ثم يرتبط هذا العقد بعقد ثان ترمي دراته إلي موضوع مختلف، ويربطهما معا عقد آخر تضئ لآلاءه بشريحة مبينة لموقف قديم ونستعرضه في لقطات تذكارية تذكرية كمن يستعيد شرائط الذكريات، وهكذ إلى أن يتكون ويتكامل بناء السورة ويصل إلى أذهاننا جُلَّ مراميها - أستغفر الله إنه منتهى أمل المرء أن يتوصل إلي مرامي السورة لكن يكون من فضل الله أن نصل إلي بعض مراميها -  وليس هذا فحسب، بل أن السور نفسها تقوم بمحاكاة ما عرضناه مع بعضها البعض لتكون في النهاية كيانا وجدانيا متماسكا حيث منهاج المسلمين ودستورهم الأعظم.

ما أرمي إليه بالموقف الثاني في موضوع الهم  هو ما يتمثل في الآية التي تقول كلماتها

{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) }

قال ... كيف قال ؟ وكيف كان حاله وصوته وقت أن كان يقول؟

إننا نكاد نحس كمَ القهر الذي تمتلأ به جوانح يوسف، ونكاد نتلمس الشجن الذي يتهدج به صوته، بل نلمح عبرات مترقرقات في عينيه تتحرج من التساقط على الخد الأسيل، ثم الرجاء العميق في رحمة الله به، كان يدرك صعوبة الموقف الذي هو عليه،

فإلى من يلجأ ..؟  أإلى العزيز .. بكونه هو القائم على تربيته وحمايته ؟

                    أم  لواحدة عاقلة من هاتيك النسوة ؟

لقد جَرَّب العزيز، وما من رجاء يرجى من وراءه، وأما النساء ..فليس بينهن إلا وراودته عن نفسها، فضلا عن موافقاتهن الجماعية القلبية - الممهورة بتصديق من جراحهن ودمائهن - عما فعلته وقالته إمرأة العزيز..!!

فلا معين ولا نصير منه إلا الله ، ولا ملجأ له إلا إليه.

إنتقل المشهد من الصخب الذى كنا فيه إلى ركن هادئ إعتزل فيه يوسف يناجى ربه ويرجوه ويلح عليه

  { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ[1] أَحَبُّ إِلَيَّ ..." 

 هو يلوذ بالإله الأعظم، إن دخول السجن سوف يرحمه من هذا الصخب وهذا الجو الموبوء، وتكمل الكلمات

" مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ "

يدعوننى إليه جاءت بالجمع لم يقل الحق ( مماتدعوننى إليه ) مما يشير إلى أن الدعوة الوحيدة كانت من إمرأة العزيز لكنها جاءت بالجمع، أى أن كلالحاضرات دعونه إلى الفاحشة ورغبنه فيها، فبعضهن أشرن إليه إشارات ذات مغزى وأخرياتإستعملن لغة العيون من غمز ولمز والجريئات منهن طلبن من إمرأة العزيز أن يقمن بأنفسهن بإقناعه بلإمتثالإلى أمرها، وحين كلمنه عرضت كل واحدة منهن نفسها عليه، الأساليب مختلفه لكن الهدف كان هويوسف وأردفت الكلمات 

"...وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّيكَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ... "

وعلينا أن نلاحظ أن يوسف - وطمعا منه في رحمة الله -  قد إستخدم صيغة خاصة في الدعاء، تتماشى مع ما أشار إليه الحق في الآية

 {...كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) }

أي كان لسان حاله يقول ، يارب ... كما غمرتني بفضل منك ورحمة، وصرفت عني السوء والفحشاء، إشملني الآن بجودك وكرمك وأدخلني في شآبيب رحمتك، واصرف عني كيدهن.

ثم جاءت أيضا لفظة الكيد بصيغة الجمع، بما بيَن أنهن فى دعوة منهن له إستعملن وسائل كثيرة

- كما أوضحنا - وتجلى إستخدامهن للكيد فى ذلكالمضمار، وقلنا سابقاً أن الكيد في النساء موجود طبيعى يدخل فى بناءها النفسى، والأمهر فيهن تلك هىالتى تتفوق على غيرها فى إستغلال مخزون الكيد لديها للوصول إلى بغيتها و هى دائماً لا تكون هدف نبيلاً و لاغاية مشرفة.

ثم أبانت الكلمات عن النتيجة الحتمية التى سوف تقع إن لم يصرف الله عنه كيدهن وهى

" أَصْبُ إِلَيْهِنَّ "

لم يقل أستمع إليهن، أو أجيب طلبهن، أو أرضخ لرغبتهن، لم يقل أى من هاتيك وإنما قال أصب إليهن، وأصب تأتى من الصبابة وهى درجة عالية من درجات العشق، أى أنه سوف يستجيب راغباً لا ممانعاً، وجامحا وليس متأنيا.

وهكذا نرى أن أمر المراودة لم يخص إمرأة العزيز وحدها، بل شملت معها جميع الحاضرات اللآتي راودن يوسف عن نفسه كل بطريقتها، وحسب ما أملى عليها شيطانها، ووافق مخزون الكيد فى نفسها، وكان يوسف فى كل ما سبق صامتاً مثابراً هادئاً واثقاً من عون الله، إلا أن بشريته وفتوته كانا يشكلان ضغطاً شديداً على تمنعه وخشيته من نفسه الإمارة بالسوء، فقد تضرع إلى الله وإستعان به أن يعينه على نفسه، ويعصمه من الإستجابة لها، فقد بلغت المقاومة حدها الأعلى،ومجاهدة النفس كانت فى أعتى درجاتها، حينها إستجار بالله من أنيتركه فريسة لمنازعة أفكاره وهواجس نفسه، وكأن لسان حاله يقول ياربي لم تعد بي قوة أقاومهن بها، فانتشلني يارب من هذا الضياع، ولو بإبعادي بعيدا عنهن ولو إلى السجن اللاتي يتوعدنني به.

"... وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّيكَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ..."

يعنى كان قد وصل إلى الخط الرفيع الواهى الذي لو إنقطع لهوي فى مهاوي المعصية والضلال والجهل وإستعانته بالله كانت لإنتشاله من هذا المصير.

ثم تختم الآية بأنه إن حدث ذلك، فسوف يؤول به إلي أن يكون واحداً من الجاهلين المجهلين، الذين يتخبطون فىتصرفاتهم وفي أعماقهم وفى رؤياهم للأمور.

وبهذا الدعاء والرجاء، نكون قد وقفنا على التأييد الثانى والذي يعزز فكرة  " وَهَمَّ بِهَا"  التى جاءت فى الآية 24 وهو هم الفكر والنزوع، وليس هم الفعل والتنفيذ .



[1]
وردت لفظة السجن فقط في سورة يوسف وفي تفرد خاص بها ، ولم ترد في أي سورة أخري من سور القرآن الكريم

   وذلك في  ست آيات ، أرقام هذه الآيات هي كالتالي     33 ، 36 ، 39 ، 41 ، 42 ، 100

  { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)  }

  {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا .............................نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) }

  { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) }

  { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي ... وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ .... قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}   

  {  وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)  }     

  {  وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ... وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَالسِّجْنِ ............إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}

اجمالي القراءات 7447