البوذية ديانة سماوية: (الوحي والنبوة)

نهرو طنطاوي في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

ينبغي أن يعلم المرء أن الرسالات السماوية جميعها جاءت لأجل الإنسان فقط، جاءت لأجل الإنسان أولا وقبل أي شيء آخر، فالإنسان هو الحرمة الأولى في الأديان وهو الاهتمام الأكبر من كل شيء في الوجود، وهو القيمة الكبرى التي لا تدانيها قيمة، فجميع الأديان جاءت في الأساس لترعى حرمة الإنسان وقيمة الإنسان، جاءت الأديان لتحفظ لهذا الكائن فضله وكرامته على سائر المخلوقات جميعا، أيا كان موطن الإنسان أو جنسه أو نوعه أو شكله أو لونه.

لكن ماذا حدث لتصبح الأديان محرقة للإنسان على مدار التاريخ؟؟. ما حدث يكمن في أن الإنسان قد انحرف وحرف المقصد الحقيقي للأديان، فقد انحرف بالأديان إلى الوثنية ليرضي أطماعه وأهوائه وأنانيته وشهوانيته وطغيانه، فحول الأديان من منهج إنساني قويم يعيش في ظلاله كل الناس إلى وثنيات استعبدت الإنسان وجعلته عبدا للأشخاص والأحجار والمخلوقات، وعبدا لمذاهب الناس وآرائهم وأهوائهم. بل لقد حول الناس الدين نفسه إلى وثن يعبد من دون الله، فبهتت حقائق الدين وذابت وتلاشت حتى توارى المقصد الحقيقي للدين، وتحولت مظاهر الأديان وشعائرها وعباداتها ونصوصها إلى أوثان عبدها الناس من دون الله، بل تحولت الأسماء المجردة للأديان بعد تفريغها من مضمونها إلى أوثان تفوق في وثنيتها وثنية اللات والعزى وهبل، فقد أصبحت كلمة اليهودية وثن يعبده اليهود، وأصبحت كلمة المسيحية وثن يعبده المسيحيون، وأصبحت كلمة الإسلام وثن يعبده المسلمون. وسوف نفصل ذلك لاحقا في مقالين الأول بعنوان: (ما هي حقيقة الوثنية) والثاني بعنوان: (من هو الله).

لقد بعث الله النبيين والمرسلين إلى جميع الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات النفس والهوى والظلم والفساد، إلى نور الوحدة والتعاون والعدل والمساواة، فكان أول ما دعا إليه الأنبياء جميعا هو التحرر من قيد الوثنية البغيض الذي يهبط بالإنسان إلى أسفل درك الانحطاط الفكري والخلقي والسلوكي، والتمسك بوحدانية الله التي ترتقي بالنفس البشرية إلى أعلى قمم السمو والرقي الإنساني، فالتوحيد الذي نادى به الأنبياء جميعا ودعوا أقوامهم إليه، لم يكن مجرد عقائد نظرية محضة، تبدأ من العقل وتنتهي في العقل، بل كان التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء هو عبارة عن خلق واقع إنساني سامي جديد وسلوك بشري راقي، يقوم على تحرير الإنسان أولا من العبودية للمخلوقات سواء كانت تلك المخلوقات بشرا أو حجرا أو شجرا أو أفكارا أو أهواء أو عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وتحريره ثانيا من نفسه وشهواته وأطماعه وأنانيته والسمو به إلى روح الجماعة والتعاون والإيثار والتضحية هذا هو التوحيد وهذه هي رسالات الأنبياء جميعا وهذا هو المقصد الحقيقي لدين السماء.

فلم تعتبر الأديان الخضوع للمخلوقات في صورتها البدائية وعبادتها وتقديم الشعائر والقرابين لها هي الوثنية فقط، بل اعتبرت الأديان جنوح النفس البشرية وسعيها الدؤوب وراء أطماعها وأنانيتها وشحها لا يقل وثنية عن وثنية عبادة الأشجار والأحجار والمخلوقات، لذلك يروي لنا القرآن الكريم قصص بعض الأنبياء الذين جاءوا لأقوامهم فقط من أجل تقويم سلوكهم البشري والأخلاقي المنحرف وربط ذلك بتوحيد الله سبحانه، ولم يذكر القرآن عن هؤلاء الأقوام أنهم كانوا يعبدون آلهة من الحجر والشجر والمخلوقات كما كان يفعل أقوام آخرين، وفي ذلك دلالة على أن الانحراف السلوكي والخلقي لا يقل وثنية وفسادا عن الانحراف العقائدي الفكري، فقوم لوط مثلا لم يذكر القرآن عنهم شيئا من عبادة الأصنام أو أي آلهة مخلوقة أخرى من دون الله، ولم يذكر القرآن أنهم كان لديهم انحرافا عقائديا في قضية الألوهية، وإنما كان انحرافهم الأساسي هو الانحراف الخلقي والسلوكي، وكذلك قوم شعيب، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم المسيح عيسى بن مريم، كما سنبين ذلك لاحقا من هذا المقال.

قبل أن نتناول النبوة في الديانة البرهمية والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية ينبغي أن نلقي نظرة سريعة أولا على طبيعة بعض الرسالات التي جاء بها الأنبياء لأقوامهم كما جاءت في القرآن الكريم، فكما ذكرت في مقالي السابق أن هذه الدراسة ستركز على مقارنة النصوص الدينية للأديان الشرقية القديمة بنصوص القرآن الكريم، فلابد من إلقاء نظرة عابرة على رسالات بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، كي يتسنى لنا فهم طبيعة رسالات قادة الديانات الشرقية القديمة (الهندوسية والبوذية والزرادشتية والكونفوشيوسية) ومدى تطابقها مع رسالات الأنبياء الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم.

فكما هو معروف وبين لدى الجميع، أن الأنبياء هم بشر كبقية البشر، أرسلهم الله إلى الناس لتحريرهم من ربقة العبودية للمخلوقات وللنفس والهوى، وأيضا لهدايتهم إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، إلا أن كل رسول كان يأتي قومه بشريعة ورسالة قد تختلف في كثير من تفصيلاتها التشريعية عن النبي أو الرسول الآخر، وذلك لأن هؤلاء الأقوام كانت لكل قوم منهم أخطاؤهم وخطاياهم الخاصة بهم، والتي قد يختلف فيها قوم هذا النبي عن قوم ذلك النبي، والمطالع لقصص الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم، يجد أن كل نبي كانت رسالته وشريعته تركز على معالجة خطأ بعينه أو عدة أخطاء بعينها، هذه الأخطاء قد تكون غير موجودة لدى قوم النبي الآخر، ونلحظ ذلك في قصص أقوام كل الأنبياء الذين ذكر القرآن قصصهم مع أقوامهم.

فمثلا نوح كان من صلب رسالته نبذ عبادة الأصنام من دون الله والاعتقاد بوحدانية الله دون غيره، حيث كانت خطيئتهم الكبرى هي الوثنية العقائدية وذلك لاعتقادهم في بعض المخلوقات بأنها آلهة مع الله، وقد عرض القرآن قصتهم على النحو التالي:
(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) (سورة نوح- الآيات 21: 24) .
وإبراهيم كذلك كان من صلب رسالته محاربة الوثنية الاعتقادية الإلهية، والدعوة إلى وحدانية الله دون غيره كما هو الحال في رسالة نوح، وقد عرض القرآن قصته مع قومه على النحو التالي:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ* قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ* قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ* قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ*) (سورة الشعراء – الآيات 69: 82) .

أما المسيح عيسى بن مريم، فلم تكن رسالته عقائدية إلهية على غرار رسالة نوح وإبراهيم، وذلك لأن بني إسرائيل كانوا وقتها يدينون بالديانة اليهودية التوحيدية، ولم يكن حينها ثمة وثنية بالمعنى الصنمي كما كان الحال مع قوم نوح أو قوم إبراهيم أو قوم محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت رسالة المسيح رسالة روحية تركز على السلوك القويم وتهذيب النفوس أكثر من أي شيء آخر، وذلك لأن طبيعة اليهود وقتها كانت قاسية فظة غليظة مادية مقيته، فكانت رسالته خالصة في تهذيب الروح وتنقية النفس وإشاعة التضحية والتسامح والمحبة بين الناس، وقد وصف القرآن طبيعة قوم المسيح من بني إسرائيل اليهود على النحو التالي:

(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ* وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (سورة البقرة – 87: 88)

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (سورة المائدة- 78: 79)

(وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ* فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ*) (سورة الزخرف- 63: 65) .
إذن لم تكن رسالة المسيح عليه السلام رسالة لقوم يعبدون الأصنام والأوثان ولم تكن رسالة عقائدية إلهية كرسالة نوح وإبراهيم ومحمد، وإنما كانت رسالته روحية سلوكية تقويمية.

ولوط عليه السلام كذلك لم تكن رسالته في صلبها دعوة للتوحيد وترك الوثنية وعبادة الأصنام، ولم تتناول أو تناقش العقائد الإلهية، بل كانت رسالة لوط عليه السلام في المقام الأول رسالة سلوكية أخلاقية تقويمية تدعو إلى العفة والطهارة والبعد عن الشذوذ الجنسي بين الرجال، ولم تتعرض رسالته إطلاقا للجانب العقائدي الإلهي، وهذا بعض ما جاء بصددها في القرآن الكريم على النحو التالي:

(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (سورة الأعراف- 80: 82).

وكذلك كانت رسالة شعيب عليه السلام على غرار رسالة المسيح ورسالة لوط، فقد كانت رسالة سلوكية أخلاقية قويمة، تدعوا إلى إصلاح الكثير من الفساد الاجتماعي والسلوكي لدى قومه، إلا أن رسالة شعيب قد نادت بالتوحيد وترك عبادة غير الله، لكنها ركزت في شقها الأكبر على تقويم الانحرافات السلوكية التي كانت شائعة ومنتشرة في البيع والشراء كالنقص في الميزان والمكيال، والغش في البيع والشراء، وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، وقد ذكر القرآن أحوال قوم شعيب على النحو التالي:

(إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ *) (سورة الشعراء- 177: 183).

إذن يتضح لنا من كل ما سبق أن كل نبي كانت رسالته لها اهتمام معين بمسألة العقائد الإلهية قد يكون ذلك الاهتمام كبيرا وقد يكون محدودا وقد يكون شبه معدوم، وذلك يرجع لنوع الانحراف لدى كل قوم من أقوام النبيين، ومدى وثنيتهم، أو مدى انحرافهم السلوكي والأخلاقي والإنساني، فحسب تفشي نوع الخطيئة تكون رسالة النبي، فإن كان الغالب على القوم الوثنية الصنمية الكوكبية وعبادة غير الله بالمعنى العقائدي تأتي الرسالة واهتمامها الأول العقائد التوحيدية، وإن كان الغالب على القوم الطغيان والجبروت من الحاكم واستعباد الشعب تأتي الرسالة بالثورة على الطغيان كما في حالة موسى مع فرعون وملئه، وإن كان الغالب على القوم قسوة القلب وغلظة الطباع تأتي الرسالة واهتمامها الأول ترقيق القلوب وإحياء الأرواح كما في حالة المسيح مع اليهود من بني إسرائيل، وإن كان الغالب على القوم الفساد والانحراف الجنسي وفساد الفطرة، تأتي الرسالة واهتمامها الأول الطهارة والعفة والاعتدال كما في حالة لوط مع قومه، وإن كان الغالب على القوم الفساد المالي والأخلاقي كالغش ونقص الميزان والمكيال وبخس الناس أشيائهم، تأتي الرسالة بالأمر بالقسط والعدل وإصلاح الذمم في البيع والشراء وحسن التعامل بين الناس، كما في حالة شعيب مع قومه، وهكذا.

وكما أن انحرافات أقوام النبيين اختلف في طبيعتها ونوعيتها، فكذلك اختلفت أيضا التشريعات التي جاءت بها الرسالات المختلفة، بحيث أن كل قوم جاءتهم شريعة بها تحريم لأشياء لا يوجد مثله في شريعة أخرى، وقد يكون بها شعائر وفرائض ومقدسات لا يوجد مثلها في شريعة أخرى، والسبب في هذا الاختلاف في التشريعات والفروض والمقدسات، يرجع إلى طبيعة هؤلاء القوم وطبيعة انحرافهم العقائدي أو الأخلاقي والسلوكي، فكذلك تختلف تعاليم الأديان عن تعاليم البشر، فتعاليم الأديان تربط الناس الموجودين فوق الأرض بالسماء وتربطهم بما بعد الموت وبما بعد الحياة، وبالثواب والعقاب يوم الحساب، وهذا ما لا نجده في التعاليم الأرضية البشرية، فالتعاليم الدينية تبني الإنسان ذاتيا، فالإنسان المؤمن الصادق يلزم نفسه بهذه التعاليم دون إكراه أو إغراء دنيوي، وهذه فروق فاصلة بين التعاليم البشرية الأرضية والتعاليم الدينية السماوية، أما إن كان الفساد يستشري في كثير من الأحيان بين المؤمنين بالسماء وبين رجال الدين في كل الديانات، فذلك يرجع إلى انحرافهم بالتعاليم السماوية عن مقاصدها الحقيقية، ويرجع كذلك إلى انحراف مقاصدهم وأطماعهم وأنانيتهم، لذلك يكون انحرافهم كبيرا ونتائجه وخيمة وأليمة، لأنهم ينحرفون باسم الله والدين، فيظنون أنفسهم يتحدثون بتفويض من الله لهم في القيام على دينه ليفعلوا به ما شاءوا، أما عوام الناس في جميع أديان الأرض فهم أكثر أتباع الأديان التزاما بتعاليم الأديان وأفضل سلوكا وأقوم خلقا وسماحة وطيبة وتضحية وإيثارا وحبا من قادتهم الدينيين، ونجدهم أيضا أقل شرورا وفسادا في الأرض من قادتهم الدينيين.

# إرسال الرسل إلى جميع أمم الأرض كما نص القرآن على ذلك:

ليس هناك أدنى اعتراض في القرآن الكريم على وجود أديان سماوية في أي بقعة من بقاع الأرض قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بل إن القرآن الكريم أقر بأنه ليس من أمة من أمم الأرض إلا وقد بعث الله فيها نبيا أو رسولا، فقد أخبر القرآن الكريم أن الله بعث في كل أمة من أمم الأرض رسولا يدعوهم إلى طاعة الله والالتزام بالفضيلة ومكارم الأخلاق والبعد عن الرذيلة والفواحش والظلم والبغي والفساد في الأرض، وأخبر القرآن أيضا أن الله لم يهلك الأمم والقرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آيات الله ويذكرهم بها، وأخبر القرآن الكريم أيضا أن الأنبياء الواردة قصصهم في القرآن الكريم ليسوا هم كل الأنبياء الذين أرسلهم الله وإنما هم بعض الأنبياء والرسل، فقد ذكر القرآن أن هناك أنبياء ورسلا قد أرسلهم الله إلى أمم أخرى ولكن لم يقصص الله علينا قصصهم في القرآن، وإنما أشار إليهم دون تحديد لأسمائهم أو أماكنهم أو زمانهم، وهذه طائفة من النصوص القرآنية التي تقرر ذلك على النحو التالي:

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطاغوت) (النحل – 36)

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) (القصص– 59).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر – 78).

وقال تعالى:
(وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر – 24).

إذن أقرت نصوص القرآن الكريم بأن الله قد بعث في كل أمة من أمم الأرض رسولا، ولم تخل أمة من الأمم إلا وقد جاءها نذير من الله، منهم من قص الله قصصهم في القرآن ومنهم من لم يقصص.

# أنبياء ورسل الهند والصين وإيران القدماء:

سوف نحاول في هذا الفصل أن نقتفي أوجه الشبه والتطابق بين ملامح شخصيات أنبياء القرآن الكريم وأحوالهم مع أقوامهم وموقف أقوامهم منهم ومن دعوتهم، وكذلك نتبين ملامح قادة الأديان الهندية والصينية والإيرانية القدماء وأحوالهم مع أقوامهم، وموقف أقوامهم منهم ومن دعوتهم، فقد نص القرآن الكريم على حالات من التشابه والتطابق في نشأة وحياة وشخصية جميع الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن، وأيضا نص على تشابه وتطابق ردود فعل أقوامهم تجاه دعوتهم، وسوف أبين الحالات التي نص عليها القرآن ثم أقارن بينها وبين كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، لنرى مدى التطابق والتشابه بين أحوال وأوضاع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن مع أقوامهم ورد فعل أقوامهم معهم، وسوف أتجنب الحديث عن الديانة البرهمية القديمة، وذلك لعدم توصل الباحثين والمؤرخين وعلماء مقارنة الأديان على المؤسس الأول للديانة البرهمية والتي مرجعها الأول والأكبر هو الكتاب المقدس المسمى بـ(الفيدا)، وسوف أستعرض هذه الديانة في هذا المقال فقط عند الحديث عن الوحي والنبوة، وسوف أتناول تعاليم الديانة البرهمية وتشريعاتها الدينية والأخلاقية والعقائدية في المقالات القادمة، أما عن أوجه التشابه والتطابق بين أنبياء القرآن وقادة الأديان الشرقية القديمة فنتناولها في التقسيمات التالية:

1 - العزلة والاعتكاف والتأمل قبل النبوة:

تحكي كتب التاريخ أن معظم الأنبياء والرسل قبل بدء دعوتهم قد مروا بمرحلة من الخلوة واعتزال الناس والاعتكاف والتأمل استمرت لعدة سنوات، وبعدها يبدأ النبي أو الرسول في دعوة قومه إلى تعاليمه التي بعثه الله بها إلى قومه، فمثلا النبي محمد عليه الصلاة والسلام قد اعتكف في غار حراء حسب ما تحكي كتب التاريخ لعدة سنوات قبل البعثة، وبعدها مباشرة بدأ الرسول في دعوة الناس إلى تعاليم دينه، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، على النحو التالي:

· عزلة بوذا واعتكافه:
عندما بلغ بوذا السادسة عشر كان له ثلاثة قصور في ثلاث مناطق مختلفة, قصر لكل فصل من فصول السنة ولكنه وسط هذا اليسر والثراء كان يحس بالأسى أو الحزن الذي يسببه ثراء وسلطان بعض الناس للآخرين غيرهم, وبعد أن تزوج بوذا امرأته وولدت له طفله الأول ترك هذا الرخاء في منزله ليبحث عن حياة ترضيه أكثر من غيرها. ولقد تحدث في السنوات الأخيرة واصفا هذا الحادث فقال: (لقد عرفت الضيق والضجر من الحياة في منزل لا تسهل فيه ممارسة حياة دينية كاملة النقاء ومع أنني كنت في فجر العمر.. وعلى الرغم من بكاء والدي حتى غطت العبرات وجهيهما قصصت شعر رأسي ولحيتي وارتديت ثيابا صفراء اللون ثم تركت حياتي المستقرة في منزلي إلى حياة أهيم فيها دون ما مستقر). (مانوراما موداك, ص89). ومكث بوذا في عزلته ست سنوات.

· عزلة كونفوشيوس واعتكافه:
أما كونفوسيوش قد حكى عن نفسه أنه اعتزل واعتكف منذ أن بلغ الخامسة عشر وحتى بلغ الثلاثين من عمره وفي تلك الفترة كان كل شغفه بالقراءة والاطلاع فقد (كان يؤثر الاطلاع على الطعام والنوم وكثيرا ما أمضى أياما وليالي يستزيد من المعرفة متغاضيا عن طعامه وراحته وكان يبدي تصميمه على العمل على إزالة شرور أربعة اعتبرها أمهات الكبائر : عقلية مغرضة , أحكام جائرة , العناد والأنانية. (د. فؤاد محمد شبل, ص87).

· عزلة زرادشت واعتكافه
تذهب الروايات إلى أن زرادشت نشأ محبا للحكمة ولحياة العزلة والاعتكاف. (د. محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). ولما بلغ زرادشت العشرين من عمره أحس رغبة شديدة في الوقوف على حقيقة الكون وخالقه ومحتويات الطبيعة وما وراءها ، فآثر العزلة والرياضة الروحية والتأمل العميق في ملكوت السماوات والأرض ، لتصفو روحه، ويوقن بقدرة الإله، وتتطهر نفسه من جميع عقائد الشرك والسحر ونسبة الأفعال للكواكب والمخلوقات، ويتهيأ لتلقي الإشراق والاهتداء إلى معرفة الحق، وأخذ يطوف بمختلف بلاد إيران لتزداد تجاربه وتزداد معرفته بالمجتمعات وشئون حياتها. وقد استغرقت هذه الرحلة عشر سنين، فبلغ في نهايتها الثلاثين من عمره وكان حينئذ قد وصل إلى أرقى درجات الصفاء الروحي. (د. علي عبد الواحد وافي، ص130).

2 - الوحي والنبوة:

ما من نبي من الأنبياء والرسل إلا وأقر بأن ما جاءه من تعاليم ليس من عند نفسه، وإنما هو بوحي من الله، وأنه قد جاءه من يأمره بتبليغ ما أمر به، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) (سورة الرعد- 38)، فقد أثبتت معظم الدراسات والأبحاث أن البرهمية وبوذا وكونفوشيوس وزرادشت، قد اعترفوا أن ما جاءوا به من تعاليم لم يكن من عند أنفسهم، وإن ما جاءوا به قد أتاهم من مصدر خارجي عنهم، ولم يبتدعوه من عند أنفسهم، وذلك على النحو التالي:

· الوحي والنبوة في الديانة البرهمية:
ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن من عقائد البرهميين إنكار النبوة ونسب ذلك إلى رجل منهم يقال له (براهم) مهد لهم نفي النبوات أصلا وقرر استحالة ذلك في العقول، ولا ريب أنه إن صح هذا بالنسبة للبرهمية كان دليلا على انحرافها بعد استقامتها خصوصا وأن الشهرستاني نفسه يقول (ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية يأتونهم بالرسالة من عند الله عز وجل في صورة البشر من غير كتاب فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويسن لهم الشرائع ويبين لهم الحدود وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن الأكل والشرب والجماع). (د. عمارة نجيب, ص193، 194).

· الوحي ونبوة بوذا:
حينما كان بوذا في العزلة والاعتكاف في الغابات، وجد في الغابة معلما اسمه (جورو) قضي بعض الوقت في الدراسة معه ثم سار بمفرده حتى استقر على شاطئ النهر وبدأ يحد من كمية غذائه حتى وصل إلى حد كان يعيش يومه على طعام يمكن أن يضعه في راحة يده, ومر الوقت وأدرك أن هذا إجراء لا ينفع أحدا غيره وأنه قد انعزل عن الناس أكثر من اقترابه منهم وعندئذ عاد إلى زيادة كمية طعامه في غير شراهة. وفي تجواله من مكان إلى آخر استقر أسفل شجرة, شجرة تين. (مانوراما موداك, ص87). وهو تحت الشجرة المقدسة تمت له الإشراقة وانجلت له عقد الكون, وبوذا نفسه يصف هذه الإشراقة فيقول: كلمني صوت من داخلي قائلا: إن الهوى هو أصل الحزن. والنفس هي التي تجلب الشقاء وذلك أن المرء يقول دائما: أنا أنا, ويقول أيضا: زوجتي وأولادي فهم أيضا نوع من أنا أما من سواهم فليسوا أنا فيهوى ما يرى فيه شهوة نفسه وإذا خاب شقي بهذه الفكرة, يذهب الناس في الدنيا كالحريق العظيم المدمر فيؤذون ويقتلون ويكونون لعنة على الخلق. قال بوذا للصوت: إن قبلت قولك فهل أنال الحرية؟. فأجاب الصوت: نعم نعم إنه يجلب لك الحرية أيها الناسك. فهل هذه هي النيرفانا؟ هل هي القضاء على الأنانية والتحرر من الهوى وسلطان النفس؟. (د. أحمد شلبي, ص158).

· الوحي ونبوة كونفوشيوس:
ويؤثر عن كونفوشيوس قوله: وقتما كنت في الخامسة عشر وقفت نفسي على الاطلاع فلما بلغت الثلاثين توطدت معلوماتي فلما أصبحت في الأربعين زالت شكوكي وفي الخمسين ميزت إرادة السماء وفي الستين كنت مستعدا للإصغاء إليها وفي السبعين تيسر لي إطاعة رغبة قلبي دون أن أتجاوز ما هو حق. وفي مجلس ضم طائفة من مريديه تنهد وقال ليس هناك من يعرفني, فسأله أحدهم عن السبب فأجاب: إنني لا أجأر بالشكوى ضد الشعائر ولا ألقي باللوم على الناس, إن مطالعاتي ودراساتي – وإن كانت متواضعة – تخترق أعلى مكان ولعلي – قبل كل شيء – معروف لدى السماء. ووصف نفسه بأنه مجرد ناقل وليس مبدعا. ووردت بمأثورات كونفوشيوس عبارات يتحدث فيها عن السماء, معبود الصين الرئيسي ويبدو من استقراء كتاباته أنه كان يحس بأن السماء قد استودعته رسالة إبراء العالم الصيني من أوجاعه, وآمن بأن السماء لن تخذله وفي ذات مرة أظهر استهجانه لعدم ثقة أحد به لكنه أضاف بأن السماء تفهمه. (فؤاد محمد شبل, ص77، 78). ولقد انبهر المبشرون الغربيون عندما علموا ما عند الصينيين من حكم موروثة ووصايا وآراء خلقية سامية ولذا قرروا أن الصينيين لا بد أن قد بعث فيهم رسل ولقد أخذوا لهذا يوازنون بين التوراة والكتب الصينية في الأخلاق والحكم والوصايا. (محمد أبو زهرة, ص80). بل إن كونفوشيوس قسم الناس بالنسبة للمعرفة إلى أربع درجات فقال عن صاحب الدرجة الأولى: رجل وهبته السماء المعرفة وأوتي الإلهام وهي من أعلى الدرجات). (محمد أبو زهرة, ص 96).

· الوحي ونبوة زرادشت:
تروي أسفار الديانة الزرادشتية أنه حينما بلغ هذه المرحلة نزل عليه الوحي من السماء. فبينما هو واقف على شاطئ نهر ديتي في مقاطعة أذربيجان إذا به يرى كائناً مضيئاً يهبط من السماء، وكأنه عمود من نور ، حجمه تسعة أمثال حجم الإنسان، ويحمل في يده عصا من اللهب، ولما دنا منه أنبأه أنه فاهومانا كبير الملائكة أرسله الله إليه ليعرج به إلى الملأ الأعلى ليحظى بشرف المثول أمام رب العالمين "أهورا مزدا ". وهنالك أشرقت عليه معرفة الحق، وتكشفت له أسرار الكون، ورفعت عن بصره الحجب، ووقف على ما كان يسمى للوقوف عليه وأصبح نبيا ً مرسلاً، وأوحى الله إليه بتفاصيل دين كامل يبلغه للخلق، وبكتاب مقدس هو "الأبستاق". (د. علي عبد الواحد وافي، ص130).

3 - جميع الرسل دعوا أقوامهم إلى طاعة التعاليم التي جاءوا بها:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء – 25).
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ) (النساء- 64).

فقد نص القرآن الكريم على أن الرسول أو النبي كان من أكبر وأهم أولوياته دعوة الناس إلى طاعة التعاليم التي أتي بها من عند الله، ودعوة الناس إلى تقبل هذه التعاليم في لين وتذلل للآمر الذي هو الله، لأن لفظ (فاعبدون) يعني اللين والذل فمعنى (عَبَدَ) في أصل اللسان العربي هو اللين والذل للمعبود، ويكون بالاستجابة لما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه، وقد ثبت بصورة قطعية من خلال جميع الدراسات الفلسفية والتاريخية ودراسات مقارنات الأديان، أن رهبان الديانة البرهمية وبوذا وكونفوشيوس وزرادشت، قد قاموا بدعوة أقوامهم إلى الالتزام بطاعة التعاليم التي نادوا بها، وشددوا على أتباعهم في الالتزام بها، كما سنرى فيما بعد، ونلاحظ أيضا أن من صفات الأنبياء دعوة الناس إلى الالتزام بدعوتهم وطاعة التعاليم التي نادوا بها، فلم تكن دعوتهم مجرد نظريات فلسفية أو علمية محضة، كحال الفلاسفة والمنظّرين والحكماء، وإنما الأنبياء والرسل هم وحدهم من حولوا ما لديهم من تعاليم إلى واقع حي على الأرض، وذلك عن طريق دعوة الناس إلى ما معهم من رسالات وتعاليم، وتحملوا كل المشاق والمصاعب في سبيل تلك الدعوة، ثم إلزام أتباعهم بتطبيق هذه التعاليم في واقعهم الحياتي والالتزام بها حرفيا، وهذا هو الفارق الكبير بين تعاليم الأنبياء، وبين فلسفة الفلاسفة وحكمة الحكماء، وهذا ما حدث بالفعل مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، فسوف نرى أن دعوتهم لم تكن من باب الحكمة وعرض الآراء وتعليم الناس فقط، بل كانت دعوتهم للناس من باب التكليف، وهذا ما أثبتته كتبهم وتعاليمهم وسيرة حياتهم، فكانوا يطوفون البلاد يدعون الناس ويلاقون العنت والمشقة في سبيل ذلك، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء الأشخاص مكلفون ومأمورون بالدعوة إلى تعاليمهم، وليس نافلة منهم كما سنرى على النحو التالي:

· دعوة بوذا لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليم:
بعد أن عاد بوذا من رحلة العزلة والاعتكاف والتي استغرقت عددا من السنين: (بدأ يجمع الناس من حوله لينصتوا لحديثه وقد قابل في البداية خمس رجال يسيرون معا على الطريق فأخذ يدعوهم إلى مذهبه) (مانوراما موداك, ص 88). (وكان يوضح ما يفسره لتلاميذه ولم يكن أي من خصومه يستطيع أن يربك تفكيره, وجاء الناس من كل بقاع الهند ليناقشوا معه عقيدته, كان الجمع قد وصل إلى قرابة ألف رجل يجلسون كلهم منصتين دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة فقد كان حديثه العذب وجمال تفكيره المنطقي يسحران مستمعيه. وتزايد عدد تلاميذه ومريديه وأنشأ الصوامع للدرس والعبادة في البساتين والحدائق حيث عاش المريدون حياة طيبة هادئة, وذات يوم طرد راهب لم يتبع قواعد (المنسك) وأحزن هذا بوذا حتى إنه ترك الدير وخرج ملتمسا الوحدة في الغابة وأحزن هذا بدوره سكان المدينة المجاورة حتى إنهم ذهبوا جميعا إلى الراهب المتمرد ودفعوه دفعا لالتماس عفو بوذا). (الموسوعة العربية العالمية, ص89).

· دعوة كونفوشيوس لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليم:
(وقد أحس كونفوشيوس بحنين منذ بلغ أشده واكتملت نفسه إلى إرشاد الناس إلى خير مناهج الحياة وأقوم السلوك ولذا كان أشد ما يرغب فيه أن يتولى صناعة التدريس ... وقد اعتكف على أسرته يعلم آحادها ومن ينضم إليها وصار منزله منتدى طلاب العلم ومقصده ولقد عين بعد ذلك أستاذا وعندئذ أخذ مذهبه يتكون وآراؤه تتجمع ويبديها لا في كتب يؤلفها ولكن في شبيبة ينشئها فأخذ يبث تعاليمه فيها حتى كان له منهم صحب يشبهون حواري النبيين يؤمنون بفكرته والذود عن دعوته والإخلاص لنحلته ... ولقد أخذ كونفوشيوس يطوف في الآفاق دارسا مرشدا رائضا لنفسه وحاثا أصحابا على الأخلاق القويمة... وأخذ كونفوشيوس يطوف البلاد داعيا مرشدا ومسترشدا وكان في كثير من الأحيان يخص بإرشاده الحكام معتقدا أن صلاح الراعي يستلزم صلاح الرعية وأن حسن قوامته على الناس يتبعه صلاحهم ولأنه يرى أن السياسة الحكيمة في تهذيب الرعية حتى تقوم المحبة بين الناس مقام القانون ولقد كان يقول: (السياسة هي الإصلاح) فإن جعلت صلاح نفسك أسوة حسنة لرعيتك فمن الذي يجترئ على الفساد ؟ ) لهذا كان يخص – وهو يطوف مقاطعات الصين – الأمراء بإرشاده لأن في صلاحهم صلاح العامة وعليهم يواسي .) (محمد أبو زهرة, ص84 :86). (وقد مات بعد أن ترك من تلاميذه الذين أخذوا على عاتقهم بث دعوته في الأقاليم الصينية ثلاثة آلاف وقد نبغ منهم اثنان وكلهم تعاون في نشر مذهبه الخلقي في البلاد حتى صار بعد ذلك مذهبا رسميا لتلك البلاد المترامية الأطراف واستمر كذلك من آخر القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن العشرين بعده). (محمد أبو زهرة، ص 88)

· دعوة زرادشت لقومه إلى طاعة ما جاء به من تعاليم:
(وقضى زرادشت عشر سنين يطوف فيها ببلاد إيران، يبلغ الناس رسالته بدون أن يجد مستجيبا لما يدعو إليه. وفي السنة الحادية عشرة بعد نبوته أي حينما جاوز الأربعين من عمره بدت في أفقه طلائع النجاح، فآمن ابن عمه (متيوماه) وانتصر لدينه، فشد الله به أزره، وقوى به دعوته. ومضت سنتان بعد ذلك لم يؤمن به في أثنائهما أحد، وإن كانت محتويات رسالته قد انتشرت وأصبحت معروفة لكثير من الناس. وأخذ الناس بعد ذلك يدخلون في هذا الدين أفواجاً، ولم تمض بضع سنين حتى اعتنق الزرادشتية معظم أهل إيران، بل يقال أنه قد دخل في هذا الدين كثير من أهل البلاد المجاورة لإيران، وخاصة بلاد من الهند، ويقال إنه أنتشر كذلك في بعض بلاد اليونان نفسها). (د. علي عبد الواحد وافي، ص131: 133).

4 - اضطهاد وتكذيب أهل الترف والحكم والجاه للأنبياء والرسل ومحاربتهم:

لقد نص القرآن الكريم على أن جميع الأنبياء والرسل قد اضطهدوا من قبل أقوامهم وخاصة من أهل السلطة والترف والجاه، باعتبارهم هم المتضرر الأكبر من دعوات الأنبياء، وكانت حجتهم المعتادة إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. وهذه بعض نصوص القرآن التي تشير إلى ذلك:

(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) (سورة سبأ- 34)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) (سورة الحجر– 10 :11).

(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات – 52 :53).

(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف- 23: 24).

أيضا هذا ما حدث مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، فقد كذبهم الناس في بادئ الأمر واضطهدوهم وطردوهم وكذبوهم في دعواهم، وهذا ما أجمعت عليه كتب الباحثين والمؤرخين وعلماء الأديان، كما سنرى على النحو التالي:

· اضطهاد بوذا من قومه:
لما كانت تعاليم بوذا شديدة الزهد والتجرد عن الدنيا. وكانت تعاليمه تدين بشدة وصرامة كافة ألوان الممارسات الشعائرية الوثنية والطبقية التي تشكل البقايا الأخيرة للفترة (الفيدية) البرهمية. لاقى بوذا وأتباعه بسبب ذلك اضطهادا كبيرا في الهند بعد الانطلاق الهائل لتعاليمه بين الناس. وبسبب هذا الاضطهاد التجأ رهبان بوذيون كثر إلى الصين هربا من اضطهاد البرهميين، فلم تلقى التعاليم البوذية سوى التهكم والسخرية من الرهبان البراهمة الذين رموه بالكفر والإلحاد، وذلك لأن بوذا نادى بالمساواة بين الناس جميعا وثار على نظام الطبقات والتفرقة العنصرية بين الناس ذلك النظام الذي وضعه رجال الدين البراهمة والذي يقسم أتباع الديانة البرهمية إلى ثلاث طبقات، وسوف نتحدث عن هذا الموضوع في المقالات القادمة.

· اضطهاد كونفوشيوس من قومه:
أما كونفوشيوس فلم يكن اضطهاده يتمثل سوى في رفض الناس لتعاليمه وعدم تقبلها، أو تقبلها بعض الوقت ثم الخروج عليها فيما بعد، وهذا هو ما عانى منه كونفوشيوس وجعله يطوف في شتى مقاطعات الصين عله يجد من يتقبل تعاليمه، إلا أن بعض حكام المقاطعات كانوا يكرمونه ويعينونه في مناصب رفيعة كوزارة العدل، وفي هذه تشابه مع بعض حالات الأنبياء التي وردت في القرآن، والذين لم يضطهدوا من أقوامهم بسبب تعاليمهم، اضطهاد كالنفي أو التعذيب أو التهديد بالقتل، فعلى سبيل المثال: النبي يوسف الذي أحبه ملك مصر وولاه في منصب كبير، وأحبه الشعب وأعجبوا بأخلاقه وتعاليمه، ولم يؤثر عنه أنه اضطهد من أحد أثناء تواجده في مصر، وهكذا كان كونفوشيوس فلم يتعرض لأي اضطهاد يذكر من قومه بل على العكس فقد تلقى الناس تعاليمه بالبشر والقبول، وإن لم يلتزموا بها. (ولقد رفعه أمير المقاطعة إلى مرتبة نائب الحاكم للمقاطعة ثم ولاه وزارة العدل فكان شأنه في هذا كشأنه الأول يروض مرءوسيه على الأخلاق ويعطيهم من نفسه أسوة حسنة فيقتدون به, واستعان في أعماله ببعض أصدقائه الذين أشربوا تعاليمه ومازجت نفوسهم نفسه, ولكن تلك الحال لم تدم طويلا فإن رجالا نفسوا على الحكيم تلك المنزلة وضاقت صدورهم حرجا من عظيم ما طويت عليه من الحقد فزينوا لأمير المدينة أن يخالف إرشاد كونفوشيوس وقدموا له امرأة حسناء وحسنوا له أن يفك نفسه من القيود ويقبل عليها ففعل وعصى إرشاد كونفوشيوس). (محمد أبو زهرة, ص86، 87).

· اضطهاد زرادشت من قومه:
لقد قضى زرادشت عشر سنين يطوف فيها ببلاد إيران، يبلغ الناس رسالته بدون أن يجد مستجيبا لما يدعو إليه. وقد قاسى في أثناء ذلك من المتاعب والأهوال مالا يصبر على احتمال مثله. ولما لم يظفر في بلاده بأتباع يدخلون في دينه رحل إلى بلاد الطورانيون، فلم يجد منهم خيرا مما وجده من أهله، بل لقد كانوا شرا عليه من أهله، فقد لقي منهم عنتاً وأذى شديدين، بل لقد تعرض للهلاك أكثر من مرة. (د.علي عبد الواحد وافي، ص 132). وقد أثارت حفاوة الملك بزرادشت حسد كثير من رجال الحاشية والمقربين للملك، فأخذوا يأتمرون بزرادشت، ويسعون ضده بالوشاية، ويدبرون له المكايد ويتربصون به الدوائر. (د. علي عبد الواحد وافي ص133).

5 - الهجرة :

ما من نبي من الأنبياء أتي قومه إلا وهاجر من وطنه إما لكثرة اضطهاد قومه له، أو خوفا على نفسه وأتباعه، أو لنشر دعوته في أماكن أخرى بحثا عمن يؤمن بدعوته وتعاليمه، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، وكان ذلك على النحو التالي:

· هجرة بوذا:
تخبرنا كتب التاريخ أن بوذا هرب من نيبال إلى الصين فرارا من اضطهاد البرهميين له ولأتباعه. فعندما خرج بوذا من الريف إلى المدينة رحب به السكان ترحيبا ملكيا وقد وصلها في قارب عبر نهر (الجانج) حيث استقبله الناس وقد زينوا الطريق من النهر إلى المدينة بالأعلام وتوجوه بالأزهار ورشوا الأرض بالمياه لمنع تناثر الأتربة وفرشوا الأرض بالزهر وحرقوا العطور على طول الطريق وجمعوا للاستقبال الفيلة والعجلات الحربية. وتبع جمع غفير من الناس بوذا في مسيره, كان هو فقيرا ولكن كان الملوك يحنون هاماتهم أمامه, كان بوذا يرحب بالناس باحترام وقدسية ويقدم الطعام والمأوى والدواء لمن ينزل به من أغنى الناس وأكثرهم كبرياء أو حتى من أفقرهم الذي قد يرضى بالقليل من الطعام, وغيرت حياته وتعاليمه من البناء الاجتماعي للهند والصين وبلاد أخرى كثيرة لقرون طويلة تلت عصره. (الموسوعة العربية العالمية، ص91).

· هجرة كونفوشيوس:
اعتاد كونفوشيوس منذ أن بدأ دعوته على الطواف في الأقاليم الصينية لا يقيم في بلد إلا على نية الخروج منه وكلما حل على أمير مقاطعة دعاه إلى السلوك الفاضل فلم يجب أحد منهم دعاءه وإن أكرم وفادته حتى برم بهم ولم يكن له عزاء إلا تكاثر تلاميذه الذين اعتنقوا آراءه حتى بلغوا ثلاثة آلاف أو يزيدون وكلهم قد أشرب روحه ومازجت آراؤه نفسه وخالطت منها المهجة والفؤاد. وقد عاد بعد الرحلة الطويلة إلى مقاطعته (لو) فأكرم أميرها وفادته ولكنه لم يطعه كسائر الأمراء فعكف الحكيم على مدارسة أصدقائه. (محمد أبو زهرة, ص87).

· هجرة زرادشت:
لقد قاسى زرادشت في سبيل دعوته كثيرا حتى اضطر إلى الهجرة إلى شرق إيران. (د. محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). ولم يودعه الله (أهورا مزدا) ولم يحرمه عنايته في هذه المدة، بل ظل يؤيده ويقوي عزيمته ويربط على قلبه، ويثبت عقيدته بالوحي المتوالي، ويعده بأن الآخرة ستكون خيراً له. وقد نزل عليه الوحي في أثناء هذه السنين العشر سبع مرات ظهر له فيها الملائكة الستة كبار الملائكة. وأخذ الناس بعد ذلك يدخلون في هذا الدين أفواجاً ، ولم تمض بضع سنين حتى اعتنق الزرادشتية معظم أهل إيران، بل يقال أنه قد دخل في هذا الدين كثير من أهل البلاد المجاورة لإيران، وخاصة بلاد الهند، ويقال إنه أنتشر كذلك في بعض بلاد اليونان نفسها. (د. علي عبد الواحد وافي ص133).

6 - عدم ادعاء الأنبياء للألوهية أو الربوبية:

لقد نفى القرآن نفيا قاطعا أن يكون الله قد أرسل أحدا من البشر إلى أمة من الأمم وآتاه الكتاب والحكم والنبوة، ثم قال هذا النبي أو ذلك الرسول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولم يأمر الله الناس في تلك الرسالات بأن يتخذوا الأنبياء والمرسلين أربابا من دون الله، وإنما كان النبي أو الرسول يأمر قومه بأن يكونوا ربانيين، بمعنى أن يكونوا ملتزمين بالتعاليم الربانية المرسلة إليهم من الله.

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ*) (آل عمران 79- 80).

ومن هنا يمكننا القول أن النصوص الأولى للديانة البرهمية والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية، لم يرد في أي نص من نصوصها نص واحد يدعوا إلى تأليه بوذا أو كونفوشيوس أو زرادشت، ولم يرد أيضا أن بوذا أو كونفوشيوس أو زرادشت، قد نادى أحد منهم بأنه إله أو رب، وإنما عملية التأليه حدثت من أتباعهم الذين جاءوا من بعدهم بعشرات السنين أو من بعدهم بعدة قرون، وهذا ما اتفق عليه كل المؤرخين والفلاسفة وعلماء مقارنة الأديان كما سنرى في المقالات القادمة.

7 - وضع الأتباع هالة من القداسة والأساطير حول شخصية النبي بعد وفاته:

ما من نبي من الأنبياء جاء لقومه إلا وأضفى عليه أتباعه من بعده هالة من القداسة والأساطير التي قد ترفعه فيما بعد إلى منزلة الإله، وهذا ما حدث مع معظم الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن من أتباعهم من بعدهم، فقد رفعوهم إلى منزلة الآلهة والأرباب، وهذا ما حدث أيضا مع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت على النحو التالي:

· تقديس بوذا والأساطير حول شخصيته:
حياة بوذا كانت حياة بسيطة لا تعقيد فيها ولا تزيد ولكن يأبى الذين جاءوا من بعده إلا أن يحوطوها بشتى الأساطير, أوحت بها الأوهام ودفعت إليها أخيلة خصبة, فقد زعموا أن أمه بشرت به في المنام وأن ولادته سبقتها معجزات وأن الإله حل فيه وأن حياته كلها أحيطت بالمعجزات, وأنه هو المنقذ المعزى والذي قدم نفسه فداء للخليفة من الخطايا وقد كثرت هذه الأوهام عند البوذيين الذين يسكنون في التبت في الشمال, أما أهل الجنوب وهم يبلغون نحو أربعمائة مليون فلم ترج كثيرا بينهم هذه الخرافات وتلك الأوهام. ومن الغريب أن الأوهام التي جعلها بوذيو التبت أوصافا لبوذا تتوافق مع ما ينحله المسيحيون على شخصية المسيح. (محمد أبو زهرة، ص54). وقد كانت كثرة هذه الأساطير والأخبار يعسر على العقل أن يصدقها من غير بينات قائمة, فكانت سببا في أن وجد من المؤرخين من يزعم أن بوذا شخصية خرافية لا وجود لها وأن البوذية ليست إلا مجموعة تعاليم انتحلت لها هذه الشخصية انتحالا. (محمد أبو زهرة، ص99). ويعتقد البوذيون أنه كان هناك على الأقل ستة أشخاص يسمون بوذا قبل جوتاما, بل يزعمون أن هناك بوذا آخر اسمه مايتريا سيظهر في المستقبل. (الموسوعة العربية العالمية، ص224).

· تقديس كونفوشيوس والأساطير حول شخصيته:
وتجابهنا في سعينا لفهم كونفوشيوس صعوبات ضخمة تتبلور فيما أضفاه الصينيون على شخصيته من أساطير وحاكوه من أقاصيص ونسبوه إليه من روايات الأمر الذي يعرقل جهود الباحث لاجتلاء حقيقة هذه الشخصية الفذة واستكشاف أبعادها الواقعية. (د. فؤاد محمد شبل, ص63). وتضفي الروايات الصينية القديمة هالة من التقديس على شخصية كونفوشيوس حتى يكاد أن ينسب إليه تأليف جميع ما أنتجه الفكر الصيني في جميع عصوره, فهي تعزو إليه تأليف ما يعرف في الفلسفة الصينية (بالمراجع الستة) وتشمل كتب: التغيرات – الأناشيد – السجلات التاريخية – الطقوس – حوليات الربيع والخريف – الموسيقى. لكن أثبتت الدراسات العلمية أنه لم يؤلفها لكنه استخدمها في تثقيف مريديه وكان أول من استعان بها في تعليم جمهرة الناس. (د. فؤاد محمد شبل, ص67). ويروى أنه لما مات كونفوشيوس أقاموا له الهياكل وعبدوه على سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين, وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية أي حكومة على عهد أسرة (هان) في القرن الثاني قبل الميلاد, وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم, وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة, ولم تزل عبادته قائمة إلى أوائل القرن العشرين فخصوه في سنة 1906 بمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه وقد جعلوا يوم ميلاده عيدا قوميا يحجون فيه إلى مسقط رأسه. (د. عمارة نجيب، ص232)

· تقديس زرادشت والأساطير حول شخصيته:
تذهب الروايات إلى أن مولد زرادشت قد اقترن بالمعجزات، وأن الإله ظهر له ووضع (الأفستا) بين يديه, وهو كتاب مملوء بالمعرفة والحكمة وأمره بنشر تعاليمه بين الناس جميعا. (د.محمد أبو المحاسن عصفور, ص280). وقد وردت روايات كثيرة بظهور معجزات كثيرة على يديه وإبرائه لأمراض وعاهات يعجز الطب العادي عن شفائها: فمن ذلك شفاؤه لجواد الملك كشتاسب. ومن ذلك أيضاً أنه أعاد البصر إلى أعمى من بلدة الدينور بأن وصف له حشيشة وطلب أن يعصر ماؤها في عينه فأبصر. (د. علي عبد الواحد وافي، ص132).

وأخيرا، فقد لاحظنا مما سبق أن هناك تطابقا بين أحوال وأوضاع كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، وبين الأنبياء الواردة قصصهم في القرآن، من ناحية طبيعة عدم ادعاء أحد منهم للألوهية، ومن ناحية أن تعاليمهم لم تأمر الأتباع بذلك، ومن ناحية دعوتهم للناس وإلزامهم باتباع تعاليمهم، ومن ناحية تكذيب أهل الترف والجاه والسلطان لهم ورفض دعوتهم، ومن ناحية اضطهادهم والتحرش بهم، ومن ناحية اضطرارهم إلى الهجرة من بلدانهم وقراهم إما خوفا من أعدائهم أو بحثا عن أتباع يتقبلون ما يدعوا إليه بعدما لم يجدوا من يتقبلهم في أوطانهم، ومن ناحية عزلتهم واعتكافهم في الفترة الأولى من حياتهم قبل دعوتهم الناس إلى ما لديهم من تعاليم، ومن ناحية اعتراف كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت بأن ما لديه من تعاليم جاءته من مصدر خارجي وليس من عند نفسه، وقد يقول قائل، ولكن إن كلا من بوذا وكونفوشيوس لم تتطرق تعاليمهما للألوهية أو العقائد أو ما بعد الموت أو الثواب أو العقاب، أقول: إن بوذا وكونفوشيوس قد تطرقت تعاليمهم بشكل مؤكد لهذه المسائل، وسوف أعرض لها عند حديثي عن العقائد الإلهية للديانات الشرقية.

(وللحديث بقية في الجزء الثاني: الكتب والرسالات الإلهية)

# قائمة بالمراجع:

1 - الموسوعة العربية العالمية, مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع, المملكة العربية السعودية, 1996.
2 – د. محمد أبو المحاسن عصفور, معالم حضارات الشرق الأدنى القديم, دار النهضة العربية , بيروت 1987.
3 - د. عمارة نجيب, الإنسان في ظل الأديان: المعتقدات والأديان القديمة, المكتبة التوفيقية، القاهرة 1977.
4 - د. أحمد شلبي, مقارنة الأديان, أديان الهند الكبرى, الهندوسية – الجينية – البوذية, الطبعة الخامسة, مكتبة النهضة المصرية 1979.
5 - محمد أبو زهرة، مقارنات بين الأديان "الديانات القديمة"، دار الفكر العربي، القاهرة.
6 - د. مانوراما موداك, الهند-شعبها وأرضها, ترجمة: العميد محمد عبد الفتاح إبراهيم, مراجعة وتقديم: الدكتور عز الدين فريد, مكتبة النهضة العربية, القاهرة 1964.
7 - د. فؤاد محمد شبل, حكمة الصين: دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور, الجزء الأول, دار المعارف بمصر.
8 - د. علي عبد الواحد وافي، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، مكتبة نهضة مصر، الفجالة 1964.
اجمالي القراءات 34762