منطق العسكر

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٤ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

منطق العسكر

مقدمة  

1 ـ عشت عصر مبارك معارضا لمبارك ونظامه العسكرى ، ومعارضا فى نفس الوقت للوهابية ومنظماتها السياسية ما ظهر منها وما بطن ، من الاخوان والسلفيين . ومع الاختلاف بين الاخوان ومبارك فقد كان الخصمان يتحدون ضدى ومعهم الأزهر والأوقاف والاعلام والعوام . كانت حربا شرسة ليس لها حدود فى الدناءة والخسّة . كنت أدفع ثمن أى مقال يتعبهم . ومن ناحيتى كنت أنصح نفسى قبل أن أكتب مقالا أن أكون معتدلا ، ولكن ما أبدأ فى الكتابة حتى أنسى كل المخاوف ، وانطلق أكتب ما يمليه علىّ ضميرى الاسلامى دون مراعاة لمخاطر العيش تحت تهديد العسكر والارهابيين الوهابيين .

2 ـ كنت أعيش فى حىّ المطرية أكبر مركز للتطرف الوهابى فى القاهرة ـ ولا تزال. وكانت تحيط بالعمارة التى أسكن فيها أربعة مساجد متطرفة ، وكان أئمتها لا يبخلون بالهجوم والتحريض على ( منكر السُّنّة ) ما إستطاعوا الى ذلك سبيلا . وكنت اسكن فى الدور الأول فى العمارة التى تطل على شارعين ، وكنت أجلس على أريكة أطُلُّ منها على الشارعين ، وأكتب وأنا مرئى من المارة . وكان بعض المتطرفين يمرون أمامى فيما يشبه مظاهرة للإرهاب ، وبعضهم يهتف بى من الشارع : إتق الله يا دكتور . وفى أغلب الأحيان كانت هناك متابعة أمنية لإعتقالى فى أى وقت . وحدث أن جاء تليفويون بريطانى ليسجل معى فإمتلأ بيتى فورا بالأمن. نفس الأمر حين زارنى مراسل جريدة ألمانية . كان نظام مبارك حريصا على أن يجعلنى أتوقع الاعتقال فى أى وقت وأعايش الخوف كل وقت ، ونجح فعلا فى هذا ، بمثل حرص الوهابيين على تهديدى بالفتاوى التكفيرية التى تستبيح دمى ، وتشجع من يريد دخول الجنة ـ بزعمهم ـ أن يضاجع الحور العين بعد أن يتوضا بدمى .

فى هذا المناخ كتبت هذا المقال الذى نشرته جريدة الأحرار فى سلسلة : (  قال الراوى : فى 26 / 7 / 1993 : ) وتحت عوان : ( منطق العسكر) .

أولا : قلت فى المقال :

( * حدثت هذه القصة في مصر المملوكية في يوم الأربعاء 26 من ذي الحجة سنة 876هـ .

جاءت البشرى للقاهرة للسلطان قايتباي بالانتصار على سفينة قراصنة أوربية ، وقد غنموا السفينة وقتلوا ركابها وأسروا عشرة من القراصنة. وفي اليوم التالي بعد العصر وصل الأسرى الفرنجة يصحبهم الأمير المملوكي حاكم الإسكندرية ليعرضهم على السلطان ، وحدثت مشكلة، إذ أن أهل ادكو هم الذين انتصروا وأسروا السفينة إلا أن الأمير قجماس المملوكي هو الذي وصل للسلطان وادعى الانتصار لنفسه، وجاء وفد من مدينة ادكو بالأدلة الواضحة على أنهم هم الذين حاربوا وهم الذين انتصروا ، واضطر الأمير المملوكي لآن يتهم أهل ادكو بأنهم اعتدوا على اختصاصاته حين قاموا بالهجوم بدلا منه على السفينة التي هاجمت مدينتهم ، كأنه أراد أن ينتظر أهل ادكو إلى أن يأتيهم الأمير المملوكي من الإسكندرية ليدافع عنهم.  والسلطان قايتباي المشهور بالتدين وقيام الليل وقراءة الأوراد نسى اللافتة الدينية التي يرفعها وأصدر قرارا عبر فيه عن طبيعة النظام العسكري الذي يقف على قمته، إذ أمر بسجن مجاهدي ادكو في سجن المقشرة الرهيب مع نفس الأسرى القراصنة الذين انتصروا عليهم ، وقد ادعى بعض الأسرى الإسلام فأطلق السلطان سراحهم  ، بينما ظل شجعان ادكو في السجن لأنهم تجرءوا على الدفاع عن بلدهم والاعتداء على تخصص المماليك في استعمال السلاح ..

* إن فلسفة الحكم العسكري المملوكي تقدم على أساس أنهم القوة الوحيدة التي تحكم المصريين والتي يجوز لها استعمال السلاح ، وممنوع على المصريين أن يمسكوا " لجام المماليك " ، وذلك هو التعبير السائد وقتها عن ضرورة أن يحصر المصريون أنفسهم في دور الرعية أو الخراف التي يسير بها الراعي ويتحكم فيها كيف يشاء .. ولذلك فإن أهل ادكو حين تجرءوا على الدفاع عن أنفسهم كافأهم السلطان بالسجن حتى لا تتحول الشياه والخراف إلى ذئاب تصادر الوجود المملوكي وتلغي أهميته .

* ذلك منطق العسكر السياسي في كل زمان ومكان ، منطق يقوم على احتكار السلطة وتحويل الوطن إلى جبهة داخلية وجبهة خارجية وتحويل المدن إلى معسكرات وتحويل المواطنين إلى موظفين في هرم وظيفي تقوم العلاقات في داخله على أساس إصدار الأوامر وتنفيذها .

وحيث تقوم السياسة على أساس الأوامر وتنفذ التوجيهات وإعلانات التأييد فلا يمكن للشعب أن ينتج ولا يمكن للاقتصاد أن يزدهر لأن أهل النفاق وأهل الفساد سيأكلون الأخضر واليابس ، وحتى إذا قام المصلحون بإعلان الرأي وتوجيه النصح فلن يسمع لهم أحد ولن يكافئهم السلطان العسكري إلا بالازدراء وربما يضعهم في السجن مثل ما فعل السلطان قايتباي مع مجاهدي ادكو الشجعان..

* إن الحكم العسكري قد أجهض الحياة النيابية الليبرالية في مصر قبل ثورة 1952م ومن وقتها لم نعرف إلا  الاستبداد الفردي والانهيار الاقتصادي ، حتى أن روشتة العلاج الاقتصادي تتطلع لأن ترجع بالاقتصاد المصري لما قبل ثورة 1952م أى أنه اعتراف بفشل العسكر اقتصاديا منذ أن حكموا ، ويضاف إلى ذلك أنواع أخرى من الفشل السياسي والفشل العسكري الذي يرجع أساسا إلى احتكار السلطة واحتقار الشعب .

* ومصر الآن تواجه خطرا يهدد حاضرها ومستقبلها وشعبها، وهو خطر التطرف الديني الذي يتحول إلى إرهاب دموي ، وقد تربى الجناح المدني للتطرف في سراديب السلطة الحاكمة وفي مؤسساتها بينما استشرى الجناح العسكري للتطرف وتغذى على أخطاء السلطة الحاكمة وفسادها ، وكالعادة سار منطق العسكر على أساس الانفراد بعلاج مشكلة التطرف فازداد التطرف انتشارا حيث يستخدمون شيوخ التطرف العاملين لديهم في مواجهة التطرف ، بينما يتطرفون في عمليات التعذيب والعنف والفساد والاستبداد ، فيخسرون هنا وهناك ويكسب التطرف أرضا جديدة على حسابهم والنتيجة دمار لمصر وشعبها لأن دولة التطرف الدينية إذا قامت فلن تبقي ولن تذر ..

* ويقال إن السلطة العسكرية تبدو سعيدة بخطر التطرف لأنه سيعطيها الحجة للبقاء في السلطة تبعاً للحكمة العسكرية القائلة  بأنه " لا صوت يعلو على صوت المعركة  "، وتبعا لما هو معروف من أن النظام العسكري سيئ ولكن الحكم الديني أسوأ.)

أخيرا  

1 ــ مضى على هذا المقال 22 عاما . ومضى على حكم العسكر 63 عاما ،والآن فإن مصر ترقص على فُوّهة بركان ، تتهددها ثورة جياع قادمة ستأكل الأخضر واليابس فيها . كل هذا بسبب نظامها العسكرى العجوزالذى لم يُفلح إلا فى الانتصار على المصريين  . وليس مستغربا  ـ وهو يدرك الوضع الاقتصادى المتفجر والثورة القادمة ـ أنه يستعد لبيع مصر ( أنقاضا ) بعد تدميرها ، وليس مستبعدا أن يهاجر قادة العسكر وعملاؤهم الى الخارج ـ وعددهم لا يتعدى بضع مئات ـ ويعيشون على ما نهبوه من ثروة مصر ، وهو بضع تريليونات من الدولارات . العسكر ـ  الذى ترهّل وشاخ فى مقعد الحكم ولا يعرف سوى الفساد والاستبداد والتعذيب ــ  سيترك مصر أنقاضا حتى من الناحية البشرية بعد أن  قام يتفريغ مصر من عناصرها الطيبة ، واسس البديل الأسوا وهو الاخوان والسلفيون ليرثوا ما تبقى من أنقاض وخرائب مصر .!! .

2 ـ أعيد نشر هذا المقال بعد 22 عاما ، والحال فى مصر لم يتغير إلّا الى الأسوأ . والواضح أنه لا فائدة لما نكتب . ولكن لا بد أن نواصل الكتابة لأنه لا يزال هناك أمل ، ولأننا نسجل موقفا شاهدا على عصر ردىء ، وحتى تعلم الأجيال القادمة أنه كان فى عصرنا الردىء هذا من إستمر الى نهاية العُمر يقول الحق قابضا على الجمر .

أحسن الحديث :

يقول جل وعلا : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)  ) غافر )

 ودائما : صدق الله العظيم .!

اجمالي القراءات 7598