بيزنس صناعة المشايخ

خالد منتصر في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

بيزنس صناعة المشايخ
خبر عاجل قبل الموضوع :أنس الفقى وزير الإعلام المصرى يقول نحن فى حاجة إلى صناعة شيخ جديد ! (1)
[ تهبط الأديان من السماء لزرع السكينة والأمان والحب والسلام ،ويصعد الكهنوت من الأرض لحصد المكاسب وإحتكار التفاسير وتبرير أخطاء الحكام ،ومنذ ظهور الإسلام وبرغم أنه دين يرفض الكهنوت ولاواسطة فيه بين العبد وربه ،وبرغم ظهور فقهاء على يسار السلطة تم نفيهم وتعذيبهم وقتلهم لأنهم قالوا كلمة حق فى وجه سلطان جائر ،إلا أن فقهاء السلاطين كانوا مشهداً غالباً ثابتاً روتينياً فى لوحة هذا الدين العظيم ،لم يكونوا مجرد رتوش باهتة بل كانوا الخط الأساسى، واللون المكتسح،والضوء المبهر ،كانوا يبررون للحاكم قتل معارضيه ومن ضمنهم زملاؤهم من فقهاء المعارضة ،وكانوا يزينون له أفعاله العدوانية ،ويسكتون عن سرقاته لبيت المال ،ويغضون الطرف عن مغامراته العاطفية ونزواته النسائية ،وينصبونه ملكاً بدرجة إله ،وسلطاناً برتبة رسول ،وكان السلطان يمنحهم الضياع والإقطاعيات والذهب والحرير وصرة الدينارات والغيد الحسان ،والأهم يمنحهم الأمان فى أن تظل رقابهم فى أماكنها على أجسادهم تطل على الغلابة من قصورهم المنيفة،ولم يهمهم أن يكونوا كآلهة العجوة تصنعها السلطة لتأكلها عند قرصة الجوع! .
[ كانت السلطة تحتاجهم بقدر مايحتاجونها بل أكثر ،وكانت كلمة السر هى الإلهاء ،بمعنى أن وظيفة الفقيه هى أن يغوص فى جدل فقهى ،أو يخترع مشكلة كلامية فلسفية ،أو يؤلف ويولف فتاوى غامضة لإلهاء الناس عن همها الحقيقى ومشاكلها الملحة ،فلم تكن فتاوى فقهاء السلاطين تتحدث عن توريث الخلفاء الحكم لأبنائهم بل كانت تتحدث عن حكم من يصلى وعلى ظهره قربة فساء !!،أو من لعضوه التناسلى فرعان هل عليه غسل واحد أم غسلين ؟!!!،لم تكن هذه الفتاوى نوعاً من الكوميديا أو التسلية ولكنها كانت مسكنات لأورام سرطانية لاينفع معها إلا البتر .
(2)
[ الشيخ محمد عبده والأفغانى وشلتوت كل هؤلاء وغيرهم من القامات الفقهية العملاقة صنعهم الناس ومنحهم البسطاء صك الإعتراف وآمن بصدقهم العوام لأن البوصلة كانت صحيحة وراردار الصدق لم يكن مضبوطاً على بريق الذهب بل على بريق الحق والصدق والعدل ،وعلى الجانب الآخر من الشاطئ تجلس العمامات التى صنعتها أجهزة الإعلام وجملتها الفضائيات وقلوظتها الميديا بكل جبروتها وسطوتها وتأثيرها الكاسح ،وكلمة الكاسح هنا من الإكتساح والكساح أيضاً ،فالمتفرج يشاهد وهو مشلول مكسح مكتسح مشدوهاً مخدراً يتلقى كورقة النشاف كل مايلقى في وعيه من الغث والسمين والرخيص والثمين ،وماأكثر الغث والرخيص ،ومع توحش السلطة وطغيانها أصبحت فى حاجة ملحة إلى مبرراتية أكثر ومجملاتية أقوى تأثيراً ،وبالطبع لايوجد من هم أكثر تأثيراً من فقهاء السلاطين وشيوخ السلطة وصنيعتها لتزييف وعى الناس وتمرير الظلم على أنه منتهى العدل ،وتجرع السم على أنه مجرد عصير فخفخينا ! .
[ تجتاحنى صورة الكاهن الروسى راسبوتين كلما شاهدت واحداً من فقهاء السلاطين الجدد ،فهذا الكاهن سيطر على القصر الروسى وبالتالى على مقدرات الشعب الروسى لأنه كان يخدع بألاعيبه البهلوانية التى تنتمى إلى عالم الحواة القيصر ،ويوهمه بأنه يستطيع شفاء إبنه المصاب بالهيموفيليا (نزيف الدم المستمر من عدم التجلط ) ،وهذا هو حالنا بالضبط ننزف إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً ،وأحفاد راسبوتين يبيعون لنا الوهم ممثلاً فى فتاوى من عينة حكم من تخلع ثيابها أمام كلب ذكر ،ومصير المكوجى الذى يكوى ثياب السافرات ،وجواز حمل الموبايل أبو كاميرا .....الى آخر هذه المخدرات الفقهية التى يوزعها الإعلام على هيئة كبسولات فشر كبسولات سمير رجب !.
[ صناعة المشايخ عبر التليفزيون المصرى صناعة إزدهرت فى السبعينات ،حين إحتاج الرئيس السادات إلى ذخيرة فقهية دينية لدك حصون اليسار ،فلجأ إلى الجامعة حيث تشكلت الجماعات الإسلامية للرد على رذالات الطلبة اليساريين وساعده على ذلك عثمان أحمد عثمان بميوله الإخوانية وكراهيته الشديدة لليسار ،وبالطبع لجأ السادات بذكائه الشديد إلى التليفزيون ليساعده فى هذه الحرب وخاصة أن أبناء اليسار كانوا ذوى كاريزما خطابية وإعلامية شديدة الجاذبية حينذاك ، ووجد السادات ضالته فى المذيع أحمد فراج الذى إنتقل من الإذاعة إلى التليفزيون ليقدم برنامجه الشهير "نور على نور " كل يوم جمعه ،ومن يدرس تاريخ أحمد فراج الإعلامى أول من دشن هذه الصناعة الثقيلة صناعة الشيوخ ،يستطيع أن يرصد التغيرات المجتمعية والإعلامية المصرية منذ بداية السبعينات،فهو أصدق ترمومتر يقيس درجة حرارة التغير والتبدل المصرى السريع ،فهذا الرجل كان لايقدم أى برامج دينية حين كان فى الإذاعة ،ولم يكن نجماً إذاعياً شهيراً مثل المأمون أبو شوشة أو طاهر أبو زيد مثلاً ،ولم يصبح نجماً تكتب عنه الصحف إلا عندما تزوج الفنانة صباح رمز الأنوثة الطاغية ذات المذاق اللبنانى حينذاك ،وسرعان ماأصابه التحول وأصبح برنامجه ترسانة صناعة المشايخ ذوى الحظوة الإعلامية،وقويت علاقته بالسعودية حتى صار المشرف على مؤسسة زكى يمانى وزير البترول السعودى السابق ،وبدأ الجمهور يتعرف بفضله على وجوه كانت مغمورة محدودة التأثير ،صارت بفضل أحمد فراج نجوماً مثلهم مثل نجوم السينما ،ولكن كانت الحلقة المفصلية التى فصلت مابين مرحلتين كانت حلقة الإسراء والمعراج التى إستضاف فيها الشيخ الشعراوى .
[ كان الشيخ الشعراوى قبل إستضافته فى برنامج "نور على نور" مجرد شيخ مجتهد فى مادة البلاغة يكتب أشعاراً لم يكتب لها النجاح ، تدرج فى السلك الوظيفى بالمعاهد الأزهرية من مدرس بمعهد طنطا إلى الزقازيق إلى الإسكندرية إلى مدير مكتب شيخ الأزهر ،وفى أثناء ذلك سافر إلى السعودية والجزائر ،ولكن بعد هذه الحلقة الشهيرة إكتسحت نجومية الشيخ الشعراوى كل ماعداها كالفيضان ،وصار له مريدون بالملايين ،وقد كان إختيار فراج للشعراوى فى منتهى الذكاء ،فالشيخ الشعراوى كان يتحدث وكأنه ولد أمام كاميرا ،يعرف كيف يؤثر فى جمهوره ويمسك بتلابيبهم ويسحرهم ويفتنهم بمنطقه ،وكان لديه حضور إعلامى طاغى ،وكان يستخدم جسده وذراعيه فى الحديث بطريقة لاتسمح للملل بان يتسرب إلى المشاهد ،وساهمت لكنته الريفية وحكاياته الشعبية البسيطة فى التسلل إلى وجدان وعقل الجمهور ،أى أنه كان ببساطة كنزاً إعلامياً لايقدر بثمن .
[لم يترك السادات تلك الفرصة الذهبية تفلت من يديه ،وفتح مغارة على بابا ليغرف من هذا الكنز الذى لاينضب ،فعينه وزيراً للأوقاف ،وكان أول إستغلال للشيخ الشعراوى من السادات حين خرج علينا الشعراوى فى التليفزيون أثناء إنتفاضة يناير ليهاجم المظاهرات التى كانت تنطلق ككرة النار من بلد إلى بلد ،وكان السادات مصدوماً مذهولاً ولم يجد أمامه أفضل من نجومية الشعراوى لكى يطفئ هذا اللهيب المستعر ،وتوالى إستغلال السادات لكاريزما الشعراوى حين إحتاج إلى تنصيب نفسه ككبير العائلة فقال عنه الشيخ إنه لايسئل عما يفعل !،وعندما إحتاج إلى الإجهاز على عبد الناصر بدون أن يظهر فى الصورة ،تقدم الشعراوى بحكايته الشهيرة عن أنه صلى لله شكراً يوم هزيمة 67 ،وحين ترك السادات الروس ولجأ إلى الأمريكان خرجت فتوى أن الأمريكان أصحاب الكتاب أقرب من الروس الكفار!،وكانت هذه الفتاوى والتصريحات البداية الجنينية والحقيقية لصناعة المشايخ الجدد ،والتى نبهت السلطة إلى أهمية صناعة شيخ لكل مرحلة .
(3)
عندما ظهرت الفضائيات زادت حمى صناعة المشايخ ،وزاد شبق الشيوخ إلى الظهور الذى سيتعدى الحدود ويتخطى الآفاق ،فبضغطة زر الريموت كنترول سيشاهده القابع فى كوخ أفريقى والساكن فى قصر أمريكى !، وأصبح إنشاء كل فضائية عربية مرتبط أولاً بصناعة شيخ يكون علامة هذه المحطة المسجلة ،وإذا كنا نبرر تنافس الفضائيات على تنجيم الشيوخ على أنه بيزنس ،فكيف نبرر هذا الفيضان من برامج الفتاوى على التليفزيون المصرى والفضائية المصرية والقنوات المتخصصة ؟،بالطبع لابد أن ينصب هذا فى خانة صناعة تخدير جديد وتبرير جديد وإلهاء جديد ،وخرج مانطلق عليه الدعاة الجدد فى حلة جديدة ،يرتدون ثياباً مغايرة ،ويتحدثون لغة مختلفة ،ولايقربون السياسة فإنها إثم عظيم ورجس من عمل الشيطان ،وزاد إرتباطهم بالنظام السعودى وصبغت فتاويهم باللون الوهابى القاتم ،وزاد الثراء الفاحش ،وزادت معه رحلات العمرة السبع نجوم التى يشرفون عليها،والفتاوى الأون لاين والزيرو تسعمية ،وأصبح الحفاظ على السبوبة الإعلامية أهم من صدق الفتوى وعدالة القضية وأمانة الطرح ، وظهرت نماذج خالد الجندى المرتبط بالأوربت ،وعمرو خالد المرتبط بالإيه أر تى،ومحمد هداية المرتبط بدريم ،وهذا الأخير له قصة مدهشة فقد إعترض عليه مشايخ الأزهر وتم طرده من التليفزيون لكثرة أخطائه ومايعانيه من أنيميا فكرية وفقهية ،وقد عاد إلى دريم بتوصيات أمنية شديدة .
[ كانت السلطة تبحث بدأب ونشاط عن نموذج بديل لأحمد فراج ،وكانت هناك مرحلة إنتقالية ظهرت فيها نماذج من المذيعين لم تحقق نفس نجاح فراج مثل فؤاد شاكر وكاريمان حمزة ،ولكن ظهر البديل الشاب فى علاء بسيونى وأحمد عبدون ،وكلاهما تحول مثل أحمد فراج ،وكان تحوله دلالة على لخبطة المرحلة التى نعيشها ،فالأول كان مذيع منوعات نشيط وملحن أكثر نشاطاً ويكفى أنه واضع لحن تتر صباح الخير يامصر ،وفجأة وبدون سابق إنذار ترك كل هذا ليتفرغ لتلميع الشيخ هدايه والشيخ جبريل الذى فقد مصداقيته بعد فضيحة شهيرة فجرها الصحفى محمد الباز على صفحات صوت الأمة ،والثانى خريج السياسة والإقتصاد والذى بدأ ببرامج سياسية ساخنة إستغل فيها معرفته الجيدة باللغات الأجنبية ،ولكنه ترك كل هذا ليتفرغ لبرامج تتحدث عن الغسل والتكفين والزواج من الجن!.
[ ساهمت حالة الدروشة التى إكتسحت عقل ووجدان الشعب المصرى فى أن تكون صناعة الشيوخ وبيزنس الفتاوى أقصر طريق للسيطرة على هذا الوطن ،ولهذا لم أندهش من المسئولين الذين يبحثون عن صناعة شيخ جديد يتولى تبرير المرحلة الجديدة والتمهيد لإنتخابات الرئاسة ،وكما قيل قديماً أثناء حرب على ومعاوية مامعناه " طعام معاوية أدسم،والصلاة خلف على أكرم ،والجلوس فى البيت أسلم "!!!.

 

اجمالي القراءات 14240