لا زلنا على ساحل المعرفة القرآنية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٢ - نوفمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

لا زلنا على ساحل المعرفة القرآنية

تأثرت جدا بأسئلة سألها أخ وافد حديثا من ظلمات السلفية بعد عشرين عاما من التدريس الجامعى والتأليف والاشراف على الرسائل الجامعية فى إحدى كليات ( القمة ) السنية .

قال : هل تجد فى القرآن فقط كل ما تحتاجه ؟

قلت : نعم .

قال : ألا تحتاج الى السُّنّة مطلقا ؟

قلت فقط عند إثبات زيفها والاحتكام بشأنها الى القرآن الكريم .

قال : وهل يكفيك القرآن فى أبحاثك ؟ أقصد هل تجد فيه مادة علمية كافية تقيم عليها بحثا إسلاميا ؟

قلت : سبحان الله . البداية أن تكتفى بالله الواحد جل وعلا إلاها لا شريك له، يقول جل وعلا فى إستفهام إستنكارى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ  ) (36) الزمر) وتكتفى بالقرآن الكريم كتابا فى معرفة الاسلام ،هذا ما قاله رب العزة فى كتابه العزيز فى إستفهام إنكارى أيضا: (  أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) ففى الاكتفاء بالقرآن الكريم كتابا رحمة وذكرى للمؤمنين ، يقول جل وعلا فى تكملة الآية باسلوب التأكيد  ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت ). وفى الآية التالية  شهادة الله رب العزة  على أن القرآن الكريم  يكفى المؤمن ، لذا يقول جل وعلا بعدها (  قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ ) وفى تكملة الآية يقول جل وعلا عن من لايكتفى بالقرآن كتابا أنه يؤمن بالباطل ويكفر بالله وهو خاسر: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (52) العنكبوت ).  الاكتفاء بالقرآن الكريم وحده هى البداية.

قال : أنا أؤمن بالله وأؤمن بالقرآن .

قلت : الايمان بالقرآن مثل إيمانك برب العزة جل وعلا . لا يكفى الايمان بألوهية الرحمن بل لا بد أن تكفر بأى إله آخر ، وهذا معنى ( لا إله إلا الله ) . أى لا ولىّ مقدس إلا الله جل وعلا الولى الحميد، يقول جل وعلا فى إستفهام إستنكارى:( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً )(14)الانعام) ولا رب مقدس إلا رب العالمين ، يقول جل وعلا فى إستفهام إستنكارى :( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (164) الانعام ) .ونفس الحال فى الايمان بالقرآن الكريم ، لا بد من الايمان به وحده حديثا ، والكفر بغيره ، وهذا الذى تكرر فى القرآن الكريم، وأيضا بالاستفهام الاستنكارى  : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) ) الاعراف ، المرسلات 50 ) (  تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).

قال : ولكن فى الأحاديث معلومات هامة

قلت : لو صحّت فهى من المعارف الانسانية التى تعبر عن عصرها وقائليها ، وليست وحيا الاهيا ، وليست جزءا من الدين الاسلامى ، وبالتالى فإن إسنادها للرسول هو إتهام له بأنه لم يبلغ جزءا من الاسلام وتركه للعصر العباسى وما بعده ، يختلفون فيه ، كما أن إعتبار هذه الأحاديث وحيا يعتبر تكذيبا للآيات القرآنية الكريمة السابقة، ويجعل المؤمنين بهذه الأحاديث كافرين بالله جل وعلا ورسوله ودينه . وبالتالى فلا يمكن أن يزدادوا بالقرآن إلا خسارا بينما يزداد المؤمنون بالقرآن وحده شفاء ورحمة، قال جل وعلا :( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء ) .

قال : كيف يزداد خسارا ومعه القرآن ؟

قلت : تستطيع أنت أن تجيب على هذا السؤال ، فلك كتب منشورة . وأنت فيها تستشهد بالقرآن . فكيف كنت تتعامل مع القرآن ؟

سكت ..

قلت له : أنا أجيب عنك . الحديث أو السُّنّة كانت عندك فى بؤرة الشعور ، ومن خلالها تنظر للقرآن ، تنتقى من آياته ما يتفق فى معناها الظاهرى مع أحاديثك ، وتتجاهل بقية الآيات التى تتناقض مع أحاديثك ، ومعك أكاذيبهم عن الناسخ والمنسوخ وروايات أسباب النزول.

قال : ليس الأمر كذلك . أنت بهذا تعتبرنى باحثا . الحقيقة أننى كنت أكتفى بالنقل عن السابقين نفس إستشهاداتهم بالأحاديث وبالقرآن وفى نفس الموضوعات . كنت مجرد ناقل . ثم عثرت على كتاب لك بالصدفة عن ( حد الردة ) ومع أنه كتاب ضئيل وفى طباعة متواضعة فقد زلزل كيانى ، وقرأت لك بعدها كتاب ( القرآن وكفى ) ثلاث مرات ، وفى المرة الأخيرة رجعت بنفسى لصحيح البخارى أستوثق من الأحاديث التى إستشهدت بها فى أن البخارى يطعن فى الرسول ، وكانت فى الحقيقة أول تعامل مباشر لى مع كتاب البخارى . وعشت فى جحيم فكرى وتساؤلات عما نحن فيه ، ثم تابعت كتاباتك فى موقع الحوار المتمدن ، ثم فى موقع ( أهل القرآن ) . وفى كل جديد أقرؤه لك أتساءل كيف تجد كل هذه المعلومات من القرآن . المشكلة أننى أحفظ القرآن ، وأحفظ الآيات التى تستشهد بها ، ولكن عندما أقرؤها فى كتاباتك أكتشفها لأول مرة . لذا أتساءل كيف ؟ كيف تتعرف على معانى القرآن بدون اللجوء للقواميس و كتب أسباب النزول والتفاسير والأحاديث ؟ كيف تكتب بحثا من القرآن وحده . ؟ ثم هذه السلاسة والمنطقية فى العرض وفى اسلوب سهل بعيد عن التعقيد الأصولى .

قلت : لأن القرآن مٌيسّر للذكر لمن أراد الهدى به فقط .

قال : أنا أريد مع الهدى أن أكون باحثا قرآنيا .

قلت : باب الهداية مفتوح للجميع طبقا لقوله جل وعلا : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) الكهف ). وباب البحث القرآنى مفتوح أيضا لأى فرد طالما سعى لذلك .

قال : وكيف السعى لأن أكون باحثا قرآنيا ؟

قلت : بالهداية الاسلامية وبالهداية العلمية .

قال : أنا الآن أؤمن بالقرآن وحده حديثا .

قلت : هذا يستوجب أن تطهّر قلبك من رجس الطاغوت .

قال : قرأت لك بحثا قلت فيه أن الطاغوت هو الأحاديث التى تسميها شيطانية ، يعنى السّنة . وحاولت الرد عليك ولكن إستشهاداتك بالقرآن ألجمتنى .

قلت : عندما تجتنب الطاغوت ، ولا تكون هذه الأحاديث الشيطانية جزءا من إيمانك ، سواء كانت أحاديث سنية أو شيعية أو صوفية ، عندما يتطهر قلبك صالحا للمسّ القرآنى . وهذا معنى قوله جل وعلا :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) الواقعة ).  وطالما يكون الفرد ممسوسا بالطاغوتـ مؤمنا بتلك الأحاديث الشيطانية ـ فلا يمكن ان تصل الى قلبه أنوار القرآن الكريم .

قال : فماذا عن الهداية العلمية ؟

قلت : أن تتأهل باحثا حقيقيا .من يريد أن يكون باحثا عاديا فى العلوم الانسانية عليه أن يعد نفسه باحثا أولا قبل أن يبدأ بحثه .

قال : كيف ؟

قلت : لا بد أن يتثقف ثقافة عامة بقراءة واسعة ونقدية ، ثم ينتقل منها الى ثقافة متخصصة فى الفرع الذى سيكتب فيه ( إجتماع ، تاريخ ، قانون ،علوم سياسية ..الخ  ) ثم قراءة متعمقة فى الباب الذى سيبحثه ، ثم فى موضوع بحثه . وبعدها يبدأ فى تجميع المصادر والمراجع ، وقراءتها قراءة نقدية ، ويبدأ فى تجميع مادته العلمية منها ، ثم ترتيبها ثم صياغتها .

قال : هذا عن الباحث العادى .

قلت : الباحث القرآنى مطلوب منه أن يتثقف ثقافة عامة ، ثم ينتقل منها الى ثقافة متخصصة فى الموضوعات التى يتعرض لها القرآن ، من القصص القرآنى والتاريخ و علم الاجتماع وطرف من العلوم الطبيعية ، مع التركيز على اللسان العربى ( اللغة العربية ) ومعرفة الفارق بين مصطلحات القرآن والمصطلحات التراثية على إختلاف أنواعها ، والمعرفة الدقيقة بتراث ( المسلمين ) الفكرى والعقيدى والتشريعى ، سواء كان صوفيا أو سنيا أو شيعيا أو أدبيا بلاغيا . ثم بهذه المحصّلة العلمية يدخل على القرآن يطلب مخلصا الهداية ومعرفة الحق ، والاصرار على التنازل عن أى فكر أو معتقد لديه يخالف القرآن الكريم ، والاستعداد للتضحية من أجل الحق لأن الحق يستلزم الصبر كما جاء فى سورة العصر .

قال : لنفرض أننى أريد أن أقوم ببحث قرآنى عن كروية الأرض . ماذا أفعل ؟

قلت : بدون أى فكرة مسبقة تريد إثباتها ، تبدأ بتجميع كل الآيات القرآنية التى ترد فيها كلمة ( الأرض ) وما يقترب منها ، فى السياق الخاص وفى السياق العام ، ثم ..

قال : معذرة على مقاطعتك .. ما الفارق بين السياق الخاص والسياق العام ؟

قلت : قد تتغير مصطلحات القرآن حسب السياق ، وهناك السياق الخاص أى ما قبل الآية وما بعدها ، ثم هناك السياق العام وهو ما يتصل بالموضوع فى القرآن الكريم كله .

قال :هل لا بد من حفظ القرآن وإستظهاره ؟

قلت : ممكن أن تجيب بنفسك ، فقد قلت إنك تحفظ القرآن .

قال : فعلا . كنت أحفظه دون فهم .

قلت : ومع ذلك فمن تجربتى الشخصية أقول إن حفظ القرآن يسهّل للباحث القرآنى عملية البحث . وخصوصا تجميع الآيات فى الموضوع المراد بحثه .

قال : أرجو شرح هذا .

قلت : تقوم بتجميع الآيات كلها فى سياقها الخاص والعام ، وايضا ما يتصل بها من بعيد ، ثم تحدد مفاهيم الكلمة ( الأرض ) من خلال هذا السياق ، وما يتصل بكل مفهوم . وقد تكون هناك آيات محكمة تأتى بالمعنى بصياغة علمية ، وآيات متشابهة تفصّل وتؤكد الآيات المحكمة فى نفس الموضوع ، فعليك تمييز هذا من ذاك . وقد يأتى المعنى مجازيا بالتشبيه والاستعارة والكناية والتورية والمشاكلة ، وقد يأتى بأسلوب علمى تقريرى . عليك فحص وبحث كل هذا بموضوعية ومنهجية دقيقة تبتغى مرضاة الله جل وعلا . ثم بعدها تكتب بحثك تقدم فيه رؤية قرآنية تحتمل الخطأ والصواب . فالقرآن الكريم حق مطلق ، أما ما نفهمه نحن منه فهو حق نسبى ، يتأثر بمدى إمكانية الباحث العلمية ومدى إخلاصه .

قال : واضح أنك أتبعت هذا المنهج ، فما هو تقييمك لعملك بعد كل هذه السنين ؟

قلت : لا زلت على ساحل المعرفة القرآنية بعد أن بدأت ــ ولأول مرة فى التاريخ الفكرى للمسلمين ـ القراءة العلمية للقرآن الكريم ، وبحثه من داخله ، وفهمه بمصطلحاته دون الاستعانة بالقواميس  وكتب التراث ، وبهدف البحث عن الهداية ، مع الاستعداد للتضحية ودفع الثمن. .والحمد لله جل وعلا أن تحرك قطار الوعى ـ مع كل المتاريس التى توضع أمامه ، وكل الخلل الذى يدب داخله ويشب بين ركابه .

قال : وماذا عن المستقبل ؟

قلت : القلق الذى يراودنى هو الاستمرارية . وهذه الاستمرارية مرتبطة بكم أحبتى أهل القرآن . أرجو أن تستمروا بعدى فى حمل راية التنوير القرآنى ، وفى قيادة قطار التنوير الاسلامى . لقد جاءكم من رب العزة:  ( نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المائدة )، ولقد إخترتم شرف التبشير بهذا النور . فعليكم ــ أحبتى أهل القرآن ـ مواصلة المسيرة ، لأنها قضيتكم ومسئوليتكم ومستقبلكم يوم الدين أمام الواحد القهار

اجمالي القراءات 9436