رأينا فى تفسير موت ( إغتيال ) ابن خلدون الغامض

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٨ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

رأينا فى تفسير موت ( إغتيال ) ابن خلدون الغامض  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

رأينا فى تفسير موت ( إغتيال ) ابن خلدون الغامض  

أولا :  ونبدأ بسؤال : ما الفائدة التي تعود على إبن خلدون من إشتراكه مع سعد الدين إبراهيم ابن غراب ضد الدولة المملوكية التي احتضنته ؟

  1 : هناك فائدة سياسية متوقعة ، وهى أن يشارك إبن خلدون في جني ثمار نجاحه ، إذا نجحت خطته مع رفيقه سعد الدين إبراهيم . فى أن يحقق ابن خلدون طموحه السياسى الذى فشل فى تحقيقه فى الاندلس وشمال أفريقيا ،بل أن يحققه فى مصر التى كان يتوق الى القدوم اليها والاستقرار فيها . وواضح أنه لعب على الحبال المتاحة له ، فأيد الأميرين يلبغا ومنطاش فى ثورتهما على ولىّ نعمته السلطان برقوق ، ليس بالطبع حبا فيهما ولكن ليحقق طموحا سياسيا لا يمكن الوصول اليه إلا بفنّ التآمر السائد والمشروع وقتها، وابن خلدون بارع فى هذا الفنّ.

  2 :  وهناك أيضا فائدة خلدونية خاصة بصاحبها ، وهى إثبات نظرية إبن خلدون في العصبية ، وتطبيقها في مصر في عهده عمليا . فقد أقامإبن خلدون نظريته السياسية في "المقدمة " على العصبية القائمة على النسب، والتي  تعنى أن أهل العصبية القبلية القائمة على النسب الواحد والأصل الواحد إذا أتيحت لهم أسباب القوة ، فإنهم يستطيعون إقامة ملك لهم .وذلك ما كان يحدث في شمال أفريقيا والمغرب والأندلس .. إذ تتجمع عصبية القبيلة تتحرك به في الصحراء إلى المدن الساحلية حيث تقيم لها ملكا ، إلا أن النظام المملوكي المستحكم والمتحكم في مصر والشام كان يناقض فكرة العصبية من أساسها .لأن المماليك ليس لهم أصل ولا نسب منذ البداية .

3 ــ وقد تجاهل إبن خلدون في أثناء مقامه في مصر الإشارة إلى ذلك التعارض بين النظام المملوكي ونظريته في العصبية ، كما لم يقم بتعديل نظريته في المقدمة . برغم أنه ختم حياته بربع قرن عاشه في مصر .

ولعله ـ وفقا لنظريتنا الخاصة ـ كان يؤجل هذا إلى أن ينجح في إثبات نظريته على أرض الواقع في إقامة ملك مصري يقوم على العصبية . وقد كانت عصبيات الأعراب في مصر موجودة ، وكانت هي القوة المسلحة الوحيدة في الداخل التي تناوئ السلطة المملوكية . ولكن كانت تحتاج إلى تنظيم وتقعيد .

4 ــ أي أن أدوات التآمر كانت متاحة أمام إبن خلدون لكي يثبت صدق نظريته في العمران ، وإمكان تطبيقها في مصر وهى أم العمران ، وذلك أكبر مكسب علمي ومعنوي يعود على إبن خلدون في تحالفه مع سعد الدين إبراهيم .

ثانيا : ماذا عن الدليل والبرهان

1 ـ ما سبق كله إفتراض يحتاج إلى دليل وبرهان ، ومن شأن التأريخ في الحوليات التاريخية أنها تسجل أحداث العصر باليوم والشهر وذلك على مدار العام أو الحول ، وكل عام ، وهذا ما فعله المؤرخون المعاصرون لابن خلدون وهو فى مصر ، مثل المقريزى في تاريخه " السلوك " وإبن حجر في تاريخه " إنباء الغمر" والعيني في تاريخه " عقد الجمان" . كانوا معاصرين لإبن خلدون في مصر ، ويرصدون ظواهر الأحداث من واقع المتابعة اليومية .

2 ــ ومن هنا فإن حركات التآمر التاريخي ـ والتى كانت تُشكل الحياة الواقعية ـ كانت تظهر أحيانا بين سطور الأحداث ، وتستلزم إستنطاق الوقائع وربطها ببعضها ، ويعتمد هذا الربط أساسا على منطقية التفسير للأحداث .  

3 ــ المؤرخ  وقتها يسجل ما يرد اليه من أحداث ، يسجل ما يصل الى السطح ، وهو بعيد عن العُمق ، ومكائد القصور. وهى ظاهرة لم تتكرر فى التاريخ المصرى بطوله ، أن يقوم شاب بما قاله المقريزى عن ابن غراب :(اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). كيف وصل هذا الشاب الى تلك المنزلة؟ وكيف برع فى فنّ التآمر الى هذه الدرجة ؟ ومن كان خلفه يوجهه من وراء ستار؟ .. سطور التاريخ المعاصر تعطى إشارات ، والأحداث فيها تتحللها الفجوات . ومهمة الباحث التاريخى عسيرة فى الوصول الى مؤامرة تختبىء بين السطور ، ولا تحكى عنها السطور سوى شذرات من بينها ، احيانا ـ النتائج .

4 ـ الصعب هو أن تبحث عن مؤامرة فاشلة . المؤامرات التاريخية منها ما ينجح صاحبها فيصل الى الحكم أو يقيم دولة فيتراقص فى موكبه المؤرخون ، يحكون أصله وفصله وجهده . ومنها ما يفشل ، فيغيب صاحبها بالموت ، ويقبع بين سطور التاريخ بين أشلاء مؤامرته المبعثرة هنا وهناك .

5 ـ فى اول كتاب لنا :( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) عام 1982 ، وهو منشور هنا كشفنا مؤامرة شيعية كبرى لقلب نظام الحكم فى مصر الأيوبية ، وقد تستر أعيانها بالتصوف ، وكانت نقطة المركز فى قرية مجهولة يومئذ ، هى طنتدا ( طنطا ) وسط الدلتا المصرية ، وتزعمها فى المرحلة الحاسمة ( أحمد البدوى ) وعاونه ابوالحسن الشاذلى وابراهيم الدسوقى ، وكانت الدولة الأيوبية فى وقت ضعفها ، ولكن تغير المسرح سريعا بوثوب المماليك ( القوة العسكرية ) للحكم ، ونجاحهم فى تدمير الأيوبيين وقهر المغول وتقليم أظافر الصليبيين وقهر ثورة الأعراب ، وتلفت الظاهر بيبرس الذى وطّد الحكم المملوكى حوله فوصلت اليه انباء تلك الحركة الشيعية الغامضة ، وكان شيخه ( خضر العدوى ) جاسوسا لهم عليه . إنقلبت الأوضاع بالنسبة للسيد البدوى فى طنطا ، وأحس بالخطر فاستمر فى تنكره وتصوفه خائفا من جبروت الظاهر بيبرس . وفشلت تلك الحركة الشيعية التآمرية ، ونتج عنها تكوين طرق صوفية مشهورة . وإشتهر السيد البدوى علما تاريخيا بعد قرنين من وفاته ، بينما كان مجهولا فى حياته لم يسمع به أحد . هذا مثال على الحركات التآمرية الفاشلة التى حققناها من أكثر من ثلاثين عاما .

6 ــ والآن مع حركة تآمرية أبسط ، ودارت أيضا فى منطقة مفصلية ، بين سقوط الدولة المملوكية البحرية وتأسيس وتوطيد الدولة المملوكية البرجية . البطل هو الشاب ( المجهول تاريخيا ) سعد الدين ابراهيم ابن غراب الذى قال المقريزى عن تحكمه فى الدولة المملوكية عام 808 : ( اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). قال المقريزى عن خلاف المماليك مع السلطان فرج بن قلاوون : ( ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه، بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى أينال باي بن قجماس، ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه.) وقال عن دور الشاب سعد الدين ابن غراب ( كاتب السّر ) أى سكرتير السلطان وكاتم سرّه والمتحكم فيه : ( فخيّله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفاً. فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسّن له أن يفر، فمال إليه. وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة فن باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضاً، إلى بركة الحبش. ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب. ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد. وقد حدثني بكتمر المذكور بهذا فيما بعد، وقد صحبته في السفر، فبلوت منه ديناً، وصدق لهجة، وشجاعة، ومعرفة ومحبة في العلم وأهله. ).أى يحكى المقريزى نقلا عن بكتمر مملوك ابن غراب ، والذى لعب دورا فى هذا بأوامر من سيده ابن غراب . وقام سعد الدين إبن غراب بتعيين أخ السلطان الغائب سلطانا بدير وأسماه : ( السلطان الملك المنصور) وهو  عز الدين أبو العز عبد العزيز بن السلطان برقوق . ويقول المقريزى عن تقليد السلطنة للسلطان الجديد : ( وقد أحضروا الخليفة والقضاة الأربع، واستدعوا الأمير عبد العزيز بن الظاهر، وقد ألبسه ابن غراب الخلعة الخليفتية، وعمّمه. فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقبوه الملك المنصور عز الدين، وكنوه بأبي العز. وذلك عند أذان عشاء الآخرة، من ليلة الاثنين سادس عشرين ربيع الأول، وقد ناهز الاحتلام . وصعدوا به من الإسطبل إلى القصر. ولم تدق البشائر على العادة، ولا زينت القاهرة، وأصبح الناس في سكون وهدوء، فنودي بالأمان والدعاء للملك المنصور. ) ويقول المقريزى عن تحكم سعد الدين ابن غراب فى السلطنة وقتئذ : ( وقام بن غراب بأعباء المملكة، يدبر الأمراء كيف شاء. والمنصور تحت كفالة أمه. ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم في الخطة، وعلى أطراف المراسيم .). وبين السطور صراعات معقدة بين المماليك ، وفريق منهم تحت إمرة ابن غراب ، واستمر هذا الصراع من ربيع الأول وانتهى فى رمضان من نفس السنة  808 وهى نفس السنة التى شهدت أوج عظمته وشهدت أيضا موته الغامض ، وموت استاذة ابن خلدون . ابن خلدون فى رأينا هو الذى كان فى الخلفية يخطط لابن غراب . فالأبطال هنا إثنان فقط : ابن خلدون وابن غراب . كانا على وشك تغيير تاريخى جذرى .. لولا الفشل .

7 ـ هذا الفشل فى حد ذاته هو الذى يجعل أشلاء المؤامرة مبعثرة فى صراع معقد ومتحرك تختلف شخصياته وتتنوع مواقفه، ويجعل أحداثها تُلمح ولا تُصرح ، تشى ولا تشرح ، ولكن تظل بين أخبارها غرائب تجعل الباحث يلهث خلفها يستنطق الأحداث ، ويسترجع ماقبلها وما بعدها ويتأمل ما بين السطور ، ويقارن التواريخ ، ويتساءل عن المسكوت عنه بين السطور ، ثم يقوم بتجميع الأحداث الأصلية والفرعية وما يتصل بهما ، ثم يحدد الفجوات بينها ، ويحاول أن يملأ تلك الفجوات بتصورات ( درامية ) محكومة بشخصيات العصر وثقافته . هذا ما فعلناه فى تصورنا البحثى لمؤامرة ابن خلدون وابن غراب ، لتجلية مؤامرة مسكوت عنها ، ولتجلية سبب الموت المفاجىء للعلامة ابن خلدون ، ولإماطة اللثام عن شخصية مجهولة فى التاريخ المملوكى هى الشاب سعد الدين ابراهيم المشهور بابن غراب .!.

 قمنا ببحث مكثف بين سطور التاريخ المصري في هذه الفترة ( 784 ـ 808 )، تمّ فيه تجميع الأحداث ، وملء الفجوات بينها ، وتحديد الشخصيات وخلفياتها قبل وبعد هذا التاريخ ، ثم فيما بعد قمنا بصياغتها دراميا . ويبقى الأصل البحثى وهو المهم هنا .

8 ـ ومن حق القارىء أن يرفض تصوراتنا .. ولكن من حقنا أن نطالبه بتفسير لتلك الحالة الغريبة لشاب مصرى عاش فى حكم عسكرى مؤسس على التآمر فوصل الى أعلى منصب مدنى وتلاعب بالسلاطين. ليست جريمته أنه ـ برغم تحكمه فى الدولة العسكرية المملوكية فترة من الزمن ـ أنه قبع مجهولا بين سطور التاريخ . بل على العكس ، فهذا فى حدّ ذاته ـ أكبر باعث للبحث. وإذا كانت الفجوات بين الأحداث عائقا ، فالتصور الدرامى كفيل بتقديم الصورة ، لتكون أقرب للواقع ، فى تسلسها ومنطقيتها .

9 ــ  ونقدم موجزا للأحداث التاريخية وبالتصورات الدرامية ، محتفظين لنا بكل التفاصيل ، وبحق تحويلها الى عمل درامى ، بعد عمل منهك ــ  فى تجلية هذه الفترة الغامضة من التاريخ المملوكى  ــ إستمر شهورا .

اجمالي القراءات 10450