ابن خلدون مختلف عن الفقهاء والرحالة المغاربة القادمين لمصر
كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٥ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

ابن خلدون مختلف عن  الفقهاء والرحالة المغاربة القادمين لمصر

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

 ابن خلدون مختلف عن  الفقهاء والرحالة المغاربة القادمين لمصر

أولا :

1 ــ " مصر " – أقدم وطن وأقدم دولة في الوجود – لها مكانة خاصة  لدى الرحالة المغاربة في العصور الوسطى ، ويتضح هذا من خلال ما كتبه إبن جبير وإبن بطوطه وإبن ظهيره والعلوي. وكانت مصر هي المحطة الأثيرة لديهم وهم في طريقهم للحج ، وكان يطول توقفهم فيها ، ويتشابه تعبيرهم عنها ودهشتهم من عمائرها وسكانها ، بل ربما تتشابه خطواتهم إلى الأماكن " السياحية " التي يزورونها في مصر ، وفي مقدمتها الأضرحة والمشاهد المقدسة من المشهد الحسيني إلى الأضرحة المقدسة في القرافتين ، مما يشجع الباحث المهتم بالرصد التاريخي الإجتماعي على تتبع المتغيرات الإجتماعية ونواحي التدين في دراسته لتلك الرحلات. وهذا هو ما ننتظره من شباب الباحثين فى الاستخلاص التاريخى للحركة الاجتماعية من دراسة كتب الرحالة . وقد عرضنا لهذا فى كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية) وكان مقررا فى جامعة الأزهر عام 1984  .

2 ــ  وقد قام إبن جبير بثلاث رحلات ، الأولى والشهيرة هي التي صنف فيها كتابه المشهور " تذكرة بالأخبار عن إتفاقات الأسفار " المعروف برحلة إبن جبير والذي كتبه حوالي 582هـ . وقد إستمرت هذه الرحلة من 578 هـ إلى 581هـ . وقام برحلة أخرى بعد فتح صلاح الدين لبيت المقدس واستمرت عامين ( 585- 587) ثم كانت رحلته الثالثة والأخيرة ، وفيها أدى فريضة الحج وعاش في مصر إلى أن مات فيها 614هـ .

 3 ـ    وكانت رحلة إبن جبير شديدة التأثير في إبن بطوطة وفي صياغته لرحلته المسماه " تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار " وقد بدأ رحلته من طنجة يوم 2 رجب 725 وانتهت في 10 ذي الحجة 754هـ . أي حوالي ثلاثين عاما . وتردد أثناء ذلك على مصر ، ووصف فيها الإسكندرية والقاهرة والصعيد وطريق الحج ، وعادات المصريين ومن قابلهم من العلماء ، وكان ذلك في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون .

4 ــ ورحلة إبن بطوطة مشهورة ، وشهرتها هذه غطت على رحلة أخرى لاتزال مجهولة وهي رحلة العلوي ( خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم ) وقد بدأ رحلته في 18 صفر سنة 736 أي في تاريخ مقارب لرحلة إبن بطوطة ، وليس من الغريب ذلك الإتفاق بين الرحلتين في وصف قبور الأولياء . ولاتزال رحلة العلوي مخطوطة بدار الكتب ( رقم 400 جغرافيا ) وإن كانت صعبة القراءة لأنها مكتوبة بخط مغربي غريب .

5 ــ  ويضاف إلى ذلك رحلة إبن ظهيرة " الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة " والذي حققه مصطفي السقا ، ونشرته دار الكتب 1969 ، وقد احتوى على معلومات هامة عن مصر المملوكية من واقع الدهشة والمعايشة ، وقد قصره على مصر وعمرانها .

 6 ــ    وقد استقبلت مصر – غير الرحالة المغاربة – ألوف الفقهاء المغاربة في عصرها المملوكي ، وأغلبهم استقر فيها ووجد الوظائف الديوانية والدينية والتعليمية.  وبعضهم أنطقته مصر فكتب فيها نوعا جديدا من الفقه نؤثر أن نطلق عليه مصطلح " الفقه الوعظي " وذلك في مواجهة الفقه الآخر ، وهو " الفقه النظرى " . وهذا ما فعله الفقيه إبن الحاج العبدري المغربي المتوفي 737هـ ، في كتابه القيم الرائع " المدخل " .

  7 ــ    والسائد في الكتابات الفقهية هو المنهج السرياني الصوري ، أي وضع القواعد النظرية وما تنطبق عليه من إحتمالات أو " صور فقهية " مثل إذا قال كذا أو فعل كذا فعليه كذا ، ويجنح هذا النوع من الفقه إلى تصور إحتمالات فقهية مستحيلة لاتزال تمتلئ بها كتب الفقه المقرر على الأزهر حتى الآن ، ونذكر منها ما كان مقررا علينا في الثانوي الأزهري في كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع " صورة فقهية كانت تؤرق عقولنا الغضة ، وهي " إذا زنا بأمه في جوف الكعبة في نهار رمضان فماذا عليه من الإثم والعقوبة ". المهم أن الفقه النظري المغرق في التفصيلات الصورية والخيالية كان هو السائد في  عصور التخلف العلمي ، أي في العصرين المملوكي والعثماني ، ومنهما لاتزال مؤلفات الفقه مقررة على طلبة الأزهر حتى الآن . وفيما يتصل بموضوعنا فإن الفقيه المغربي إبن الحاج هو الذي إستنطقته مصر فكتب نوعية جديدة ورائعة من الفقه الذي نسميه الفقه الوعظي ، وذلك في كتابه " المدخل " تأثرا منه بمصر ومجتمعها ونبض عمرانها .  ويقول إبن حجر في صاحبنا إبن الحاج المغربي أنه قدم إلى مصر " وجمع كتابا إسمه " المدخل " كثير الفوائد كشف فيه عن معايب وبدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها ، وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل . "[1]

    وكتاب المدخل مطبوع ومنشور ومتاح للباحثين ، وهو زاد أساس للباحث في التاريخ الإجتماعي لمصر المملوكية ، ومنهجه المتميز أنه يقرن القواعد الفقهية بأحوال الناس ، أي يستعرض أحوال عصره وينتقدها في ضوء الشرع والفقه . ومن خلال تشابكه الفقهي مع  واقع عصره يثرثر ويصف مظاهر الحياة الإجتماعية التي قلما تحظى بالرصد التاريخي ، حيث ينصب التأريخ أساسا على الأحوال السياسية وتاريخ حياة المشاهير أما نبض الإنسان العادي وحركته في الأسواق والبيوت والشارع وعاداته وتعاملاته وطوائفه ومعتقداته فلا يهتمون كثيرا به إلا إذا اتصل بالملوك والعلماء . أما إبن الحاج فقد ذكر تفصيلات المجتمع القاهري المملوكي في الزي للرجال والنساء وتناول الطعام وخروج النساء والتفاؤل والتشاؤم والعوائد الإجتماعية والدينية وحفلات الغناء ومعاملات الأسواق ، والتعامل بين الأزواج ، والصنائع والأنشطة الإقتصادية ، والسفر وتربية الأطفال وتعليمهم . . الخ [2]، وذلك من واقع الإنتقاد والوعظ والتوجيه .

ثانيا

1 ــ   وما نقوله عن الرحالة  المغاربة وإبن الحاج المغربي يعتبر مقدمة – طويلة نوعا ما -  لموضوعنا الأساسي عنإبن خلدون الفقيه والمؤرخ والعبقري المغربي ، والذي أقام في مصر الربع قرن الأخير من عمره ، لماذا لم ينفعل بمصر بمثل ما انفعل به رفاقه المغاربة وآخرهم إبن الحاج العبدري الذي استقر بمصر حوالي نصف قرن ومات بها قبل أن يأتيها إبن خلدون بنحو نصف قرن ؟

2 ــ      إن هناك من العوامل ما يجعلنا نحبذ هذا التساؤل .

2 / 1 :  فإبن خلدون يختلف عن أولئك الرحالة والفقهاء المغاربة ، فقبل أن يأتي لمصر كان قد كتب مقدمته العبقرية في علم العمران ، ومصر هي أم العمران ، ولا يصح إلا أن تكون أساس كتابه عن العمران ، ولكنها غائبة ، أو على الأقل وجودها النادر ينبه القارئ إلى غيابها أكثر.

2 / 2 : ثم إن هذه العقلية الخلدونية المتميزة كيف لم تنفعل بمصر ولو حتى بالقدر الذي انفعلت به عقليات أخرى مغربية عادية .

2 / 3 : وتلك العقليات الأخرى المغربية العادية  لم تأخذ فرصة إبن خلدون في صلته بالحكام وصلته بالشارع والناس حيث عمل قاضيا ، كما أتيح له أيضا وقت طويل للتفرغ حوالي خمسة عشر عاما متصلة بين  عزله من القضاء لأول مرة وعودته إليه مرة أخرى ، بالإضافة إلى سنوات أخرى متفرقة ، وقد قال في كتابه " العبر " أنه قام بتنقيح كتابه في تلك الفترة في مصر فلماذا لم يشمل التنقيح الأخير إعطاء مصر حقها ، خصوصا وأنه أكمل ذلك التنقيح سنة 797 أي قبل 11عاما من وفاته ؟.

 إن الأمر يستحق الكثير من التفصيلات .



[1]
- ابن حجر : الدرر الكامنة في اعيان المائة الثامنة ،4/237 ط . بيروت .

[2]- المدخل لابن الحاج : دار الحديث 1981، اربعة أجزاء.

اجمالي القراءات 13452