الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا
إجتهادات خلدونية في إقتصاديات العمران ( علم العمران أو الإجتماع الإقتصادي)

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٢ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

 

 ب – إجتهادات خلدونية في إقتصاديات العمران ( علم العمران أو الإجتماع الإقتصادي)

 

   مقدمة إبن خلدون تحتاج لقراءة متخصصة من علماء الإقتصاد ، وفيها تتجلى عبقرية إبن خلدون التي إنطلقت في أمن من التعرض للثوابت الدينية والثقافية لعصره ، ومن هنا فإن إجتهاداته الإقتصادية ليست قاصرة على عصره وظروفه الإجتماعية . وحتى ما ارتبط منها بظروف سادت في العصور الوسطى فأننا لا نزال نسعد بوجود تلك الظواهر معنا ، ومنها التحايل بالكيمياء على ضعاف العقول وإقناعهم بإمكانية تحويل الأشياء إلى ذهب ، أو إدعاء البحث عن الكنوز والدفائن القديمة، واستخدام التدين في ذلك التحايل .

 الزراعة

    ومن الأنشطة الإقتصادية التي تعرض لها إبن خلدون من المنطلق الثقافي لعصره ، الزراعة. قال عن الزراعة معبرا عن عصره – إنها حرفة الضعفاء حيث يكون الفلاح ذليلا تحت سيطرة القهر ، ولاتزال تلك النظرة سائدة حتى الآن لدى بعض الدوائر الحاكمة حيث تصدر القرارات في مجال الزراعة دون مشورة أصحاب الشأن الفلاحين ، مع أن معظم أولئك الموظفين الكبار ينتمون إلى أصول ريفية ، ولكنهم توارثوا عن البيروقراطية العثمانية والمملوكية إحتقار الفلاح ، وهي نفس النظرة التي سجلها إبن خلدون عن عصره .

    والزراعة – أو الفلاحة – تعني الإستقرار والسكون والصبر وطاعة الحاكم القائم بالحماية وتنظيم الري والصرف وشؤون الوادي . ومن هنا يصبر الفلاح على القهر ، فالظالمون يفني بعضهم بعضا ، ولكن يظل الفلاح ملح الأرض باقيا ما بقيت السماوات والأرض ، وذلك سر الإستمرارالفلاح المصري حتى الآن . ولو أنه لول مرة فى تاريخه الذى يزيد عن خمسين قرنا يهجر أرضه التى التصق بها من قبل ليهاجر الى الخليج ، أو الى القاهرة ليعمل ( بوابا ) .!

ومهما يكن فإن الزراعة فى بلاد النهر والتى تؤسس الحضارة هي حالة تختلف عن أحوال القبائل الرعوية المسلحة المتنازعة في شمال افريقيا ، والتي أهلكت بعضها دون أن تقيم حضارة أو تنشئ فكرا .

ويتكرر إعتراف إبن خلدون بتخلف وطنه بسبب التقلبات السياسية التي لا تنتهي هناك ، والتي لا ينتج عنها إلا الوحشية في سفك الدماء وفي التخريب .

وإذا كان لنا أن نقارن بين صبر الفلاح المصري ووقوعه ذليلا تحت سيطرة القهر ، وبين وحشية السكان الآخرين فالصبر عندنا ليس سكونا سلبيا ، ولكنه عمل إيجابي في البناء والإنتاج والإستقرار والإستمرار ، عكس التدمير والتخريب ، وإن كانت عبارة إبن خلدون عن الفلاح المصري في  عهده صادقة في وصفها وفي إيلامها ، فإن التبعة تقع على عاتق أولئك الحكام الظالمين الذين ألهبت سياطهم ظهر الفلاح المصري ، وهو يكد في إنتاج الخير. . للغير..

عبقرية التحليل للدجل

    وصدق إبن خلدون في وصف حال الفلاح المصري – بالذات – يؤكده نظرته الثاقبة للدجالين محترفي الزعم بتحويل المواد إلى ذهب ، فهو يصفهم بأنهم فقراء عاجزون عن الكسب الطبيعي ، وفي موضوع آخر يجعل أغلبهم من طلبة العلم ، أي مثقفون فقراء حولوا ذكاءهم وثقافتهم إلى تحايل ودجل لكسب المال بطريق سهل ، ويؤكد نظرته الإجتماعية حين يقول أنالفارابي آمن بفكرة تحويل المعادن إلى ذهب لأنه كان فقيرا ، بينما أنكر هذه الفكرة إبن سينا لأنه كان غنيا وزيرا ، أي أن الظروف الإجتماعية تؤثر في الآراء العلمية طالما قامت على أساس الجدل العقلي والمزاج الشخصي دون التجارب العملية .

وفي موضوع البحث عن المطالب والدفائن كانوا يستعملون الطرق السحرية في البحث ، وليس التنقيب العملي ، واستهواهم ذلك البحث السحري المزعوم حتى أصبح مرضا ، وإبن خلدون يستخدم تعبيرا بالغ الدلالة في وصف حالهم ، فهو ينصح من يصاب " بهذا الوسواس" ، بأن يتعوذ بالله من العجز والكسل وينصرف عن طريق الشيطان ، أي أن الأمر تحول إلى  ما يشبه الوسواس (Obsession( القهري  المرضي  

   . . وفي التجارة

وبعد الزراعة واحتراف الدجل في كسب المعاش نصل إلى التجارة . وسبق أن عرضنا لنظرة مجتمع إبن خلدون للتجارة.  وقد شرح هذه النظرة المتدنية للتجار في فصلين ،  يؤكد فيهما أن الأشراف وأصحاب المروءة لايحترفون التجارة . وهو في موضع آخر يتحدث عن المصاعب التي تواجه التجار منها قلة أصحاب الذمة والغش وتطفيف الكيل والميزان والمماطلة في  الدفع وجحود الحق ، وعدم الوصول للحق بواسطة القضاء إلا بصعوبة وبعد مدة طويلة ، لذلك يرى أنه لا يصلح للتجارة ، ولا يفلح فيها إلا من كان جريئا في الخصومة بصيرا بعواقب الأمور شديد المماحكة مقداما على الحكام ، أو إذا كان صاحب جاه حتى يضمن حقه طوعا أو كرها ، ويؤكد أنه لذلك كانت أخلاق التجار بعيدة عن المروءة وأخلاق الملوك والأشراف بما فيها من مساومة وغش وحلف بالكذب ، ويندر من يكون من التجار شريفا سليما من هذه الرذائل [1]. ومن الطبيعى أن هذه الصفات للتجار مسئول عنها ـ جُزئيا ـ الفساد المرتبط بالاستبداد ، خصوصا مع عمل السلطان ( أو الجكومة ) فى الاقتصاد زراعة وتجارة وتدخلها بالقوانين واللوائح ، وشيوع الرشاوى ، وقد كان للرشاوى فى مصر المملوكية جهاز رسمى هو ( ديوان البذل والبرطلة ).

    وقد وصف إبن خلدون الدول البدوية التي قامت : بأنها تحترف السلب والنهب والتخريب للأمصار ، ومن الطبيعي أن يكون التجار ضحايا مثاليين لهذا النوع من الأنظمة الحاكمة ، خصوصا وأن طرق القوافل يتحكم فيها قطاع الطرق من أتباع الدولة وخصومها . ومن هنا فالتاجر الذي يستطيع الصمود في هذا المناخ إما أن يكون مغامرا أقرب إلى قطاع الطرق ، وإما أن يكون وثيق الصلة بالحكام ، أي أقرب أيضا إلى قطاع الطرق الرسميين . وفي كل الأحوال فأولئك التجار مع أولئك الحكام أبعد ما يكون عن المروءة وأخلاق الملوك والأشراف . وحال التجار فى الدول البدوية غير المستقرة أسوأ من حالهم فى الدول النهرية الأميل الى الاستقرار .

   والغريب أن إبن خلدون يغيب عنه ذلك التحليل ، ويكتفي بتسجيل رؤية عصره للتجار ، وهي رؤية خاصة بموطنها وتخالف الرؤية المصرية والمشرقية حيث الأمن أكثر إستتبابا، وحيث كان التاجر ذا وضع أكثر إحتراما ، وإبن التاجر في رواية ألف ليلة وليلة لايختلف كثيرا عن أبناء المترفين ، وكثير من التجار في العصر المملوكي أفسحت لهم الحوليات التاريخية بين سطورها وكان منهم من سلك طريق العلماء على سبيل الهواية ، ومنهم من سجلته الحوليات التاريخية بسبب كرمه وعلاقاته الطيبة بمجتمع العلماء والسياسيين ، ومنهم من ابتنى مساجد ومؤسسات دينية وتعليمية .

    ورؤىإبن خلدون ونظراته الإقتصادية في المقدمة جاءت في صالح تحرير التجارة والإزدهار الإقتصادي ، وإذا جاز لنا الإفتراض التاريخي ، فإننا نقول أن الغرب لو إتبع نظرات إبن خلدون لاستراح العالم من تجربة الشيوعية التي أعاقت التطور الإنساني نحو قرن من الزمان ، ولم تفلح الشيوعية إلا في تقليم أظافر الرأسمالية وإصلاحها من  الداخل . إذ تطرفت الرأسمالية في إستخدام نفوذها ضد العمال وأرهقتهم وأرهقت المجتمع بالإحتكار ، مما أدى إلى تطرف مضاد هو ظهور الفكر الشيوعي الذي أقيمت على أساسه نظم سياسية ، وفيها جاءت رأسمالية الدولة الصريحة في الصورة الشيوعية حيث يمتلك الدولة والشعب شخص واحد تتمثل فيه حقوق العمال الضائعة  ولايستطيع أحد أن يناقشه ، وذلك في مقابل الرأسمالية وهي حفنة من الأسر والتكتلات الإقتصادية تحكم الشعب بمسرحية التمثيل النيابي والديمقراطية غير المباشرة ، إلا أن العمال فيها والجماهير أفضل حالا من أمثالهم في العالم الشيوعي .

بين الثروة والنفوذ ، بين الجاه  والمال :

 ويؤكد إبن خلدون على العلاقة بين الثروة والنفوذ، أو الجاه  والمال ، أو التلازم بين السلطة والثروة . فيقول أن المتمول أو الرأسمالي  يحتاج إلى الجاه ، فالتاجر صاحب الجاه أكثر ثروة من التاجر الذي لا جاه له ، بل أن الفقيه صاحب الشهرة لايلبث أن يصبح صاحب جاه ثم صاحب ثروة ، وهذه حقيقة تنطبق على كل زمان ومكان . وفي موضع آخر يقول أن المال يأتي عن طريق العمل ، ولكن الجاه يفيد تنمية المال ، وبدون الجاه يصير الكسب على قدر العمل .

    ويلتفت إلى أحوال الجاه والنفوذ ، فالنفوذ يتركز في السلطان ثم يوزع من هذا المركز إلى الحاشية وأصحاب القوة وعلى قدر هذه  القوة ، إلى أن  ينتهي عند من لا حول له ولا قوة .

   ويشير في نظرة ثاقبة إلى الطبقات الإجتماعية ، فيوضح أن لكل طبقة في المجتمع جاها ونفوذا وسطوة ، وهي تخضع للطبقة الأعلى منها والتي تكتسب منها النفوذ ، ثم تمارس هذا النفوذ على الطبقة التي تليها والتي تعطيها بعض النفوذ . وهكذا فالطبقة الأدنى تستمد نفوذها وجاهها من الطبقة التي تعلوها . وتزداد ثروتها بقدر الجاه الذي تتمتع به . وهكذا تتميز كل طبقة عن الأخرى بمقدار جاهها وثروتها . وهذا الفتح الخلدوني هو الأول في بابه في فقه الصراع الطبقي الذي يختال به الغرب علينا . وقد جاء بين سطور المقدمة في معرض العلاقة بين الجاه والثروة .

     ثم يلتفت إبن خلدون إلى أحوال صاحب الجاه ويبين أنه إذا ضاع منه جاهه ونفوذه ضاعت منه ثروته ، وإذا اقتصر على عمله يصبح فقيرا . ويصل إلى نتيجة حقيقية ومؤلمة وهى إعطاء الجاه يعني إعطاء الثروة ، ومن هنا يتزلف المنافقون لأصحاب النفوذ طلبا للثروة والسطوة معا ، ومن يترفع عن النفاق ويقتصر في التكسب على عمله يظل فقيرا [2]مهما بلغت كفاءته ومهما بلغ نبوغه و إخلاصه لعمله . والمؤلم هنا أن هذه القاعدة الخلدونية سارية المفعول في عصرنا ، وهي من الأعراض المرضية ( من المرض ) في العالم الثالث ، وبها تهرب الكفاءات الى دول الغرب ، ورءوس المال ايضا ، فيظل الغرب فى تقدم مستمر ، ويظل الشرق ( الأوسط ) فى تراجع مستعرّ. !! .



[1]
- المقدمة : الفصل 4، 8 ،11، 10 ، الباب 5 ، والفصل 26 من الباب 6

[2] -  المقدمة : الفصل 5، 6 من الباب 5 والفصل 16 من الباب 4 .

اجمالي القراءات 7489