هيا بنا نفشل

كمال غبريال في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

"هيا بنا نفشل" ليست دعوة جديدة أنتوي إطلاقها عبر المدونات الورقية والافتراضية، لكنها صياغة جديدة لمجمل ما يعج به الفضاء الثقافي العربي من دعوات وصيحات وهتافات، هي قراءة من وجهة نظر من ينشد الحداثة ويتوق للخروج من كهوف الماضي ومن تحت ركامه، إلى عالم حضارة الألفية الثالثة، قراءة لدعوات مناضلي العروبة ومجاهدي التأسلم السياسي، تلك التي تحقق الآن نصراً مجيداً بامتداد الشرق الكبير، بحيث صار من الموضوعية أن نردد مع الراحل الكريم أحمد سعيد: "بشرى يا عرب"، والتي كان يجأر بها من إذاعة صوت العرب، أثناء اجتياح الجيوش الإسرائيلية لأراض ثلاث دول عربية عام 67، لكننا نرددها اليوم بجدارة، فيما إرادة شعوبنا وصفوتهم وحكامهم تحقق انتصارات مجيدة على أرض الواقع.

لقد نجحنا في إعطاب قاطرة المشروع الأمريكي الغربي لخلق شرق أوسط جديد أو كبير، ومن حقنا أن نفخر بقدرتنا على المقاومة والممانعة، ونحن نستعرض ما حققناه من ضرب لمشروع الهيمنة الأمريكي بعد 11 سبتمبر 2001:

لقد جاءت جيوش التحالف الأمريكي لبلادنا لمحاربة الإرهاب واستئصال أوكاره، لكننا نجحنا في تحويل انتصاراتهم الأولية إلى هزائم، فها هي طالبان في أفغانستان تستعيد عافيتها من جديد، وتكتسب المزيد من التأييد من الشعب الأفغاني، لتتضاءل آمال التنمية والتحديث، فيما تتفرغ قوات التحالف للدفاع عن نفسها، وكلما قتلت أو أسرت إرهابياً تنجب الأرض عوضاً عنه عشرات ومئات.

وفي العراق جاءوا لإزالة طاغية، وإقامة كيان ديموقراطي يكون نموذجاً صالحاً للتعميم في سائر المنطقة، لكنهم ما أن أزالوا الطاغية الكبير صاحب المقابر الجماعية وقتل شعبه بالغازات والأسلحة الكيماوية، حتى خرج من بين صفوف الشعب العراقي البطل، ومن بين المتسللين من مجاهدي العروبة، مئات وآلاف من الطغاة الصغار، يتقنون الذبح والتمثيل بالجثث، وينال جنود التحالف القليل من همتهم العالية، والأغلب من نصيب الشعب العراقي، ليعلم العالم كله أننا أمة ولادة للطغاة والذباحين، وحين حاولوا أن يفرضوا على الشعب نظاماً جديداً للحكم، لم تعرفه يوماً أرض العراق ولا سائر أقطار أرضنا الطاهرة، بإقامة انتخابات ديموقراطية، ذهب شعبنا العراقي إلى صناديق الانتخاب، لكن لنُفشِل المشروع الأمريكي، ونأتي بالطائفية، كنظام عربي أصيل، مستمد من تاريخنا العريق، تاريخ حروب داحس والغبراء وحرب البسوس، وبدلاً من أن تكون العراق نموذجاً لدولة حديثة على النمط الغربي، حولناها إلى بحيرة عربية من الدماء والأشلاء، تخوض فيها قوات الاحتلال، حتى يصير همها الأول كيف تجد لنفسها مخرجاً من الورطة التي وضعها فيها صمودنا وجهادنا المقدس، وصار النموذج الديموقراطي الذي أرادوه نموذجاً يرتدع منه كل من يحاول استزراع الديموقراطية في أرض العروبة!!

وحين حاول المشروع الأمريكي بالديموقراطية، فرض نظام في فلسطين يؤدي لسلام لا نريده، ولا يتطابق مع رغبتنا في استئصال اليهود من أرضنا المقدسة، ذهب الشعب الفلسطيني أيضاً إلى صناديق الانتخاب، لكن لضرب ما تسميه أمريكا الاستقرار والسلام ومحاربة الإرهاب، وهكذا أيضاً صارت الديموقراطية باباً يدخل منه الإرهابيون إلى سدة الحكم، وتصير فلسطين بحيرة أخرى من الوحل، تغوص فيها قاطرة المشروع الصهيوأميركي، وتصير علامة أخرى على طريق فشل الديموقراطية في الصحراء العربية، ولنعيد التأكيد على أننا أقوى وأصلب من مخططات أمريكا وحلفائها.

في لبنان الذي حاول الغرب تخليصه من قبضة نظام البعث السوري البوليسي، على أمل أن يعود واحة للديموقراطية في صحراء العروبة، استطعنا أيضاً ضرب المشروع الأمريكي، وتحويل ما تصوروه انتصاراً إلى خسارة فادحة، حقاً انسحبت قوات البعث من لبنان، لكن ليمسك حزب الله برقبة الشعب اللبناني وحكومته، ليقودهم إلى نضال ضد العدو الصهيوني، ينتصر فيه حزب الله انتصاراً إلهياً، ويتحول فيه لبنان إلى خرائب وأطلال، ليتولى العالم – الغربي بالأساس – إعادة إعماره، تمهيداً لجولة أخرى من الجهاد والنضال والخراب، وليستمر حزب الله بعد انتصاره في غرس أنيابه في رقاب الشعب اللبناني، وليغوص قطار الإصلاح الأمريكي أكثر وأكثر في مستنقعات العروبة المناضلة!!

تلك مجرد أمثلة هي الأكثر بروزاً على ساحة الشرق الكبير، التي تنتشر فيها مستنقعات نجاحنا، أو فشلنا إن فضلت هذا التوصيف، ففي كل مكان أثمرت محاربة الإرهاب المزيد من الإرهاب وسفك الدماء والذبح العشوائي والموجه، وكان تطبيق الديموقراطية عبر صناديق الانتخاب بوابة لدخول أسوأ الاتجاهات والفصائل، وكان التبشير بفكر التنوير والليبرالية والعلمانية محفزاً على المزيد من التخلف والظلامية والتشدد، الأشبه بتنين أسطوري، كلما قطعت له رأساً أو ذنباً نبتت له على التو عشرات الرؤوس والأذناب!

لا أعتقد أنه من السابق لأوانه إعلان اندحار المشروع الأمريكي لخلق واقع جديد ومغاير لمنطقتنا، ولا من المبكر أن يرفع أشاوس العروبة ومجاهدوها رايات النصر، الذي وإن لم يكن قد تحقق الآن فعلاً، فإنه هناك على مرمى النظر، لكن من حق آخرين أن ينظروا إلى ما حدث ويحدث على أنه فشل لشعوبنا في تقبل الحداثة، وفشل في التخلص من أوزار الماضي وأغلاله والولوج إلى عصرنا الراهن.

في عمليات استزراع الأعضاء، والتي تجرى لمريض بغية إنقاذ حياته بزرع عضو جديد، يقوم جهاز المناعة لدى الإنسان بمقاومة ولفظ العضو الغريب المستزرع، وتتكفل الأدوية المضادة التي تعطى للمريض بإحباط هذه الممانعة، والنجاح والفشل هنا يمكن أن يدلا على نفس الشيء، فنجاح الجسم في طرد العضو المستزرع هو فشل للمريض في تقبل العلاج، والعكس صحيح.

يمكن إذن أن نقول أننا نجحنا في إفشال المخططات الأمريكية الغربية.

ويمكن أن نقول أننا فشلنا وأفشلنا، فشلنا في تقبل الحداثة، وأفشلنا من حاول دفعنا إليها.

منذ ما يقرب من ثلاثة عقود فشلت أمريكا في فيتنام، وانتصرت قوات الفيتكونج الشيوعية، لكن اليوم وقد التحقت فيتنام بالعالم الرأسمالي، وبدأ إنتاجها يغزو أسواق العالم، يمكن أن نقول أن أمريكا والرأسمالية انتصرت بعد حين، وأن الشيوعية قد هزمت وبادت، لكننا يمكن أن نعبِّر عن هذه الحالة بكلمات عكسية، بأن نعتبر الخسارة الأمريكية في فيتنام هي فشل للشعب الفيتنامي في الإمساك بيد الإنقاذ الممدودة له، وأن الانتصار الأمريكي الأخير هو نجاح للشعب الفيتنامي في تجاوز أسر الشمولية والتخلف.

الآن أعيد تكرار نداء: " هيا بنا نفشل "

ليفهمه أشاوس العروبة ومجاهدوها على أنه دعوة لمزيد من المقاومة المستميتة لمشاريع التحديث التي يحاول الغرب فرضها علينا.

وليفهم آخرون ذات النداء على أنه دعوة لكي نفشل في مقاومتنا للحداثة، لننجح في الالتحاق بمسيرة الحضارة الإنسانية.

فهل من الممكن أن نفشل (ننجح) الآن، أو حتى بعد حين كما فيتنام؟

أو إن الفشل الخالص الذريع هو قدرنا الذي لا فكاك لنا منه؟!!

اجمالي القراءات 11093