مدى تأثر إبن خلدون بعصره منهجيا
ابن خلدون بين المنهج العقلى والصوفى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٣ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 ( ق 2 ف 2 ) مدى تأثر إبن خلدون بعصره منهجيا :ابن خلدون بين المنهج العقلى والصوفى  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 التأثر المنهجى  : العقلى و الصوفى

                                                      المنهج العقلي النظري وإبن خلدون

1 ـ كما سبق فقد صادر التصوف ذلك المنهج العقلي الفلسفي النظري الأرسطي لصالح النظرية  الأفلاطونية الإشراقية التي تتركز في العلم اللدني . ولكن عقلية إبن خلدون ودراسته للمنطق والعلوم العقلية وتعرضه لهذه العلوم في المقدمة – كل ذلك يفرض علينا أن نتحسس إلى أي مدى تأثر إبن خلدون بالمنهج العقلي النظري الذي لم يعد موجودا في عصره . .

وهنا نضع بعض الملاحظات :

(1) إن المنهج السائد في المقدمة هو الإتجاه الإشراقي الصوفي يبدو هذا في تقسيمإبن خلدون للعلوم إلى نوعين ، طبيعي يقوم على العقل " دون التجربة وفقا لما ساد في المنهج العقلي النظري " والنوع الآخر هو العلوم النقلية ، ويؤكدإبن خلدون على أنه لا مجال في هذه العلوم للعقل ، ولكن بالتسليم والإيمان.[1]

 ثم تراه يدعو إلى عدم البحث في الأسباب ، أي في مظاهر الطبيعة لأنه يستحيل الإحاطة بالكائنات ، لذا يكفي الإعتقاد بما أمر به الشرع ، كما أنه لا مجال أيضا للعقل أو التعقل في أمور التوحيد واليوم الآخر [2]، باختصار لا مجال للعقل في عالم الشهادة كما أنه لا مجال له أيضا في عالم الغيب ، والبديل هو العلم اللدني ، ومنه جاءت علوم الصوفية أو  بمعنى آخر خرافاتهم عن الله تعالى والأنبياء وعوالم الغيب .

    (2) إلا أن عقلية إبن خلدون كانت أحيانا تتغلب على منهجه بين السطور ، خصوصا حين يواجه المنطق ، وكان علم المنطق مكروها في عصره ، لذا تراه في نقد المنطق الصورى يقترب من الحقيقة حين يقول أن صناعة المنطق تقع في الخطأ بسبب ما فيها من تجريد وإبتعاد عن  الواقع ، وأن الواقع يخالفها عند التطبيق [3]  ، وقد يقترب بعقله المجرد إلى حقيقة نظرية لا تحتاج إلى تجربة ، فيثبتها بين سطور المقدمة ، كقوله بأن الإدراك الحسي يؤثر في إستقبال الأحلام ، ويستشهد بأن الأعمى لا يرى في المنام إلا ما يتناسب مع طبيعة مدركاته ، فلا يرى الألوان ، وكذلك الأصم  [4] لا يتخيل مدركاته في الأحلام ما يتناسب مع الأصوات ، وأحيانا تأتي التجربة الحياتية لإبن خلدون بآراء صائبة في العلوم النظرية ، كقوله أن العلماء بين البشر ابعد الناس عن السياسة ومذاهبها ، ويقصد أهل النظر السطحي المنحازين للقياس المنطقي البعيد عن الواقع لأن السياسة تقوم على الواقع ، وكذلك أحكام العمران [5].

    وأغلب إجتهاداته الصائبة تنتمي إلى هذا النوع من الفكر النظري القائم على تدبر أحوال العمران والمجتمعات وتطورها التاريخي ، بالإضافة إلى خبرته العملية السياسية ، وربطه العقلي الصائب بين الجغرافيا والتاريخ من خلال خبرته الثقافية بالعالم الإسلامي . إلا أنه عندما يدخل بعقله النظري إلى غير مجاله يقع في أخطاء ، وهذا موضوع الملاحظة الثالثة .

  (3) ذلك أن إبن خلدون تعرض في المقدمة لمجالات العلم الطبيعي ، أو عالم الشهادة التي ينبغي أن نبحثها بالسير في الأرض والتجربة العملية ، وليس منتظرا منه بأي حال أن يفعل ذلك ، لأنه ضد منطق عصره ، كما أنه ضد تخصصه العلمي  كمؤرخ وباحث نظري . ولانتوقع منه على أي حال أن يصحح أخطاء السابقين من علماء فترة الإزدهار الفكري في بحثهم للأمور الطبيعية . إلا أننا كنا نتوقع منه أن ينقل عنهم أفضل ما كتبوا ، وهذا ما لم يفعل ، ونعطي لذلك عدة أمثلة .

   ( أ) ففي الكيمياء أهمل الجهد العملي لجابر بن حيان في التبخير والتقطير والإذابة ، وركز على أوهام تحويل المعادن إلى ذهب وفضة عن طريق الكرامات .

  (ب) وفي الجغرافيا إكتفى بالنقل عن المسعودي مع إعترافه بما في كتابه من خرافات تولى هو بنفسه الرد عليها أحيانا ، وكان يخطئ في النقد ويصيب ، إلا أنه تجاهل البيروني أعظم عقلية عربية جغرافية ، وخصوصا كتابه " تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن " والذي كتبه في مدينة  غزنة سنة 416هـ . وربما لم يتيسر لإبن خلدون أن يطلع على أهم الكتب الهامة في الجغرافيا والعلوم الطبيعية والفلسفية وينقل عنها ، وربما وجد كفايته في كتب الأدريسي والمسعودي وغيرهما .. إلا أنه من الواضح أنه قرأ رسائل إخوان الصفا وتأثر بها . وبذلك ندخل على قضية أخرى تتعلق بما أشيع عن إنتحاله للمقدمة وتأثره البالغ بإخوان الصفا ، وهذه قضية  لا تبتعد بنا كثيرا عن موقف إبن خلدون من المنهج العقلي النظري .

   (4) من الواضح أن إبن خلدون نظر في رسائل إخوان الصفا ، وتأثر بهم ، ولكن هذا التأثر تراوح بين درجة الصفر حين لم ينقل شيئا عنهم في موضوع الجغرافيا مكتفيا بالإدريسي والمسعودي لأنهما الأقرب إلى عقليته ، وبين التأثر بهم حين ينقل عنهم شيئا يتفق مع مزاجه الشخصي مثل الحديث عن علم الغيب ، ثم كان يتجاهل ما يخالف وجهة نظره ، فقد جعلوا الخدمة من أوجه المعاش ، ولكن إبن خلدون يؤكد في فصل كامل على أن الخدمة ليست من وجوه المعاش ، ويؤكد ذلك بما يشبه الإستنكار ، ولكن في كل الأحوال فإن عبقرية إبن خلدون في المقدمة لا تتجلى في النقل من هذه الموضوعات أو إختراعها ، ولكن في إختراعه لعلم العمران ، وهذا ما أكد عليه في إفتتاحية المقدمة .

 ونقول بعد دراسة نقدية للتراث العربي الإسلامي أن إبن خلدون على حق في هذا الإدعاء ، صحيح أن هناك بعض البدايات جاءت في بعض المصادر الأولى ومنها رسائل إخوان الصفا عن حاجة الإنسان للتعاون وأثره في إزدهار الصنائع ومراتب الصناعات والغرض من الملك وأنواع العلوم [6] ، ولكن ما جاء به إبن خلدون هو تصور علمي كامل لعلم جديد ، بمنهج متكامل ، وقد سار فيه على وضع القواعد وتفسيرها تاريخيا ، وتفسيراته من واقع خبرته التاريخية ومتسقة مع تاريخه المكتوب – في الأغلب – ومتسقة أيضا مع شواهده ، وأغلبها أتى بها من ظروف موطنه شمال افريقيا ، وواضح أن تجربته السياسية العميقة قد أسهمت في صياغته لهذا العلم ، أي جمع بين التجربة السياسية والقراءة التاريخية والنظرة التأملية .

 ومن الطبيعي أن ينقل ثقافة عصره ، وأن يتاثر بمنهج عصره ، وإذا كان هذا المنهج عقيما يصادر إمكانية الخروج على العصر ، فإن عقلية إبن خلدون إستطاعت أن تتحرر من هذا التقليد الأعمى حين اختارت جانبا هادئا هو ( علم العمران ) تنطلق فيه وتبدع ، وإن ظلت حريصة على عدم الخصومة مع عصرها ، ولذلك هادنت أو سالمت الخرافات الصوفية والتراثية المقدسة وانصاعت لها . فقد كان ذلك منهج العصر .. المملوكي ، وهذه هي المحطة الأخيرة .

منهجإبن خلدونالصوفي

ونقصد بذلك إنحياز إبن خلدون لتفكير عصره ومنطق العلم اللدني الصوفى في التفسير والفهم ، وإن كان ذلك لم يؤثر على جوهر فكرته عن علم العمران ، وقد نجت بذلك تفسيراته التاريخية لتطور المجتمعات في الأغلب ، ولهذا كان أغلبها صالحا لعصرنا الراهن، أما ما تعرض منها للتأثر بالتصوف وسلبياته فقد كان صادقا فقط في التعبير عن ثقافة عصر إبن خلدون ورؤيته للمجتمع والفكر الديني والسياسي . وقد قلنا فيما سبق أن التصوف حين سيطر وقام بإجهاض الحركة العلمية وتعقيمها وأرسى التقليد . وهذا  التقليد السائد بديلا عن الإبتكار هو الذى آخى بين التصوف ومنهجه الذوقي الهوائي وبين علوم شديدة العداء للتصوف  كالفقه والحديث . وهذا هو المنهج السائد في مقدمة إبن خلدون في مجالات التصوف والعلوم الشرعية ، بل حتى ما يتصل بها من مناطق تشابكت مع علم العمران – الإجتماع . وفيها تمسك إبن خلدون بالتسليم والإيمان وأعطى عقله العبقري أجازة ، بل ودعا الآخرين بأسلوب عاطفي مسكين ليفعلوا مثله .

وهنا نتوقف مع  منهج إبن خلدون الصوفي التسليمي في مقدمته : .

1  :    بالنسبة للتصوف نراه يعتبر شيوخ التصوف المذكورين في  الرسالة القشيرية هم العلماء ورثة الأنبياء ، وفي موضع آخر يصف طريق التصوف بأنه طريق الهدى ، وفي إطار حديثه عن التصوف والغيب يتحدث عن المجاذيب من واقع الإعتقاد في كراماتهم وعلمهم بالغيب ، وقد إخترنا هذه المحطات السريعة عن التصوف في المقدمة لأنها تؤكد أن إبن خلدون قد أهمل عقله تماما ، ذلك أن من يريد الهجوم على التصوف وعقائده وشيوخه لن يجد أفضل  من الرسالة القشيرية لكي يستشهد بها ، وذلك بشرط وحيد ، هو أن يقرأها بعقله وبمنهج موضوعي لا مجال فيه لمحاولات التبرير وعواطف التقديس والتأويل . أي أن إبن خلدون إذا قرأ الرسالة القشيرية فهو بالتأكيد لم يقرأها بعقله ، وإنما بعواطف التسليم والإذعان . وقد دعا القارئ في حديثه عن علم التصوف إلى التسليم بالصوفية وتبرير شطحاتهم وتأويلها .

  وفي المقابل فإن إبن خلدون إستخدم عقله إستخداما سيئا لكي يقنعنا بأن في المجذوب شيئا إلاهيا يتمكن به من الكشف عن الغيوب، واستخدم نفس الطريقة العقلية لكي يدافع عن مظاهر صوفية أخرى تدور كلها حول العلم اللدني للأولياء الصوفية والأئمة الشيعة ، وتراه يحس بضعف حجته العقلية فيلجأ إلى الأسلوب العاطفي ، كما فعل في دفاعه عن تقديس شرف آل البيت من الأئمة الأدارسة [7] .

وبالتصوف شمل التقديس أئمة آل البيت مع أئمة الفقه والحديث ، مع الصحابة رواة الأحاديث ، وبذلك تدعم الصلح بين النقيضين الفقه السلفي السني والتصوف.

2 : ــ  وبالمنهج الصوفى تعامل إبن خلدون بنفس التسليم مع التراث المقدس السني وتاريخ الصحابة والتابعين ، وتطوع فاضاف إليه الخلفاء الأقوياء من الأمويين والعباسيين . وحين يحسّ بضعف حجته العقلية تراه يلجأ الى إبتزاز عواطف القارىء .

2 / 1 :     وإبن خلدون حين عرض لعلوم الحديث وأئمة هذا العلم بنفس الطريقة المتداولة والمتكررة قال في النهاية كأنه يسترحم العقول النقادة " .. فلا تأخذك ريبة في ذلك ، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم ، والتماس المخارج الصحيحة لهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور."[8] .

ويكاد القارئ العاطفي أن يتأثر بهذا الأسلوب ، لولا أن إبن خلدون بعد ذلك الأسلوب العاطفي يلجأ لأسلوب المغالطات في إثبات حجية الأحاديث المنسوبة للنبي ، أو ما اصطلحوا على تسميته بالسنة ، يقول " أجمع الصحابة على وجوب العمل بما يصل من السنة  بالنقل الصحيح قولا أو فعلا للنبي بما يغلب على الظن صدقه " [9] وهو كمؤرخ يدرك أن الصحابة فى انشغالهم بالفتوحات والفتنة الكبرى والسياسة والحكم  لم يتيسر لهم الإجماع بالمفهوم الأصولى  للإجماع. يكفي أن ذلك المصطلح " إجماع " تم إختراعه في عصر الإزدهار الفقهي ، بعد الصحابة بقرن ونصف القرن . وانكره ابن حنبل فقال : ( من زعم الاجماع فى شىء فقد كذب ، وما أدراه أن الناس إختلفوا وهو لا يعلم ) .!. ونفس الحال مع المفهوم التقليدي للسنة الذي برز في العصر العباسي في مواجهة التشيع .

ثم أن مفاهيم النقل الصحيح للأحاديث لم يعرفه تاريخ الفكر للمسلمين إلا فى العصر العباسى الثانى ، عصر تدوين الحديث  ، وإصطناع الأسانيد وما ترتب عليه من زعم التثبت من حال الرواة ، أو فيما يعرف بعلم الجرح والتعديل ، وذلك ما عرض  له إبن خلدون في كلامه عن علوم الحديث متأثرا بما جاء في مقدمة صحيح مسلم والتي نراها أروع من كتاب صحيح مسلم ذاته.

ونرجع لإبن خلدون وحديثه عن الصحابة وعلوم الحديث . فكيف للصحابة في إنهماكهم في الفتوحات والخلافات السياسية أن يتطرقوا إلى مفاهيم أصولية لم تظهر إلا بعدهم بقرنين تقريبا ؟

وأكاد أقطع بأن ثقافة الصحابة البسيطة ـ حتى لو تفرغوا للعلم والبحث ـ  لم تكن لتوافق على كلمة إبن خلدون" وجوب العمل بما يصل من السنة بالنقل الصحيح . . . بما يغلب على الظن صدقه ". ومع إفتراض علم بعضهم بالقرآن فإن  القرآن ينهي عن إتباع الظن في الدين ، ويجعل الحق القرآني الذي لا ريب فيه هو وحده الحديث الذي نؤمن به في مقابل الطرق الأخرى القائمة على الريب والظن .   

إلا أن بعض علماء الأصول فيما بعد فرقوا بين القرآن وتلك الأحاديث فجعلوها ظنية الدلالة وظنية الثبوت في مقابل القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وبعدهم بخمسة قرون يأتي إبن خلدون لينسب تلك الأقاويل إلى الصحابة وهم لا يدرون عنها شيئا .

2 / 2  ــ     وبنفس المغالطة يقول إبن خلدون في موضع آخر " إن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثيلهما " [10] . وهي مغالطة فجة لم يقلها أحد قبل إبن خلدون ، إذ جعل للأحاديث المنسوبة للنبي إعجازا كإعجاز القرآن بحيث يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما .. وهذه المغالطة غير المسبوقة تتناقض مع تأكيدات القرآن على أنه لا مثيل للقرآن ( الإسراء 88) بل تتناقض مع تأكيدات إبن خلدون نفسه في المقدمة ، حين يقول أن إعجاز القرآن في داخله ولا يحتاج إلى دليل صدقه من خارجه ، ففيه يتحد الدليل والمدلول [11]، فكيف يتساوى القرآن بأحاديث تحتاج لأسانيد كي نصدقها ؟

3 ــ وهذا يجعلنا نشير إلى قضية أخرى ، وهي الهوى المذهبي الذي كان مؤثرا في منهج إبن خلدون وهو يكتب المقدمة ، ففي موضوع الحديث بالذات نراه – على غير العادة ينتقد الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر وينفيها بالتشكيك في الرواة بمنهج الجرح والتعديل ، ولم ينس ألا يصل بالنقد إلى البخاري ومسلم . وكل ذلك بسبب هواه المذهبي ضد الشيعة ، ثم يذكر  أحاديث ضعيفة مشهورة بضعفها منها ما يأتي مدحا في علماء الموالي ، ومنها ما يأتي مدحا لبعض فروع العلم ، ومثل هذه الأحاديث المطعون فيها لايمكن أن نتصور أن إبن خلدون لا يعرف حالها ، إذا كان بهذه المقدرة على الجرح والتعديل في أحاديث المهدي المنتظر .

وبنفس الطريقة المذهبيبة نراه يمتدح تفسيرالزمخشري ولكن يحذر من إتجاه الزمخشري المعتزلي ، ويحذر من علوم المنطق والفلسفة إلا بعد التعمق في علوم السنة والشرع [12] .

4 ــ     وفي تاريخ الصحابة نراه يخاصم عقله لكي يثبت لهم عصمة برغم ما وقعوا فيه من خلافات وخصومات واقتتال . ومانتج عن هذه الحروب الأهلية من عشرات الألوف من القتلى ، ثم استمرت تلك  الحروب في عصر التابعين وتابعيهم السائرين على طريق الفتنة والإقتتال . ويتعرض إبن خلدون لبداية الخلافة باكتناز الصحابة للأموال في عصر عثمان ، والخلاف بين الصحابة ، ويظل يؤكد أن ذلك الخلاف كان إجتهادا بالحق دون غرض دنيوي . ثم يصل إلى معاوية ويحاول أن يقنعنا أنه إضطر للإستبداد بالحكم واضطر لأن يجعل الحكم وراثيا بالعهد لإبنه حرصا على مصلحة المسلمين ، ثم يدافع عن الخلفاء الأقوياء من الأمويين والعباسيين . ومما يبعث على الغيظ أن يقولإبن خلدون عن إقتتال الصحابة أن الحق واحد لدى كل من الطرفين وكل منهم إجتهد ولا يأثم ، فكل واحد منهم على الحق ، فمن كان مع علي أو مع الحسين كان على الحق ، ومن كان مع معاوية او معيزيد كان أيضا على الحق والكل مجتهدون والقتلى شهداء مثابون لأنهم قصدوا الحق . . . [13] ، وبالتالي فإن ذنب عشرات الألوف من القتلى يقع على الأسكيمو وسكان أمريكا الجنوبية !!

     وإبن خلدون لابد وأنه يعرف عقوبة قتل مؤمن واحد على سبيل العمد ، وأن جزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( النساء 93) وأن قتل نفس بريئة واحدة كقتل الناس جميعا ( المائدة 32) ولأنه يعرف أنه يفتقد المنطق العقلي والدليل القرآني فلم يبق له إلا إستجداء العطف حين يحذر من التعرض للصحابة باللسان أو سوء الإرتياب ، ويقول " فالتمس لهم مذاهب الحق وطرقه ما استطعت ، فهم أولى الناس بذلك ، وما اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق ، وأعتقد مع ذلك أن إختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ، ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ويجعله  أمامه وهاديه ودليله "[14] .  وفعلا فإننا إتبعنا نفس منهجهم في قتل أنفسنا بأنفسنا ، ولا تزال أفضل الأمم في الإقتتال المحلى . وليهنأإبن خلدون فوصيته مرعية .

  5 ــ  وهكذا التزم إبن خلدون بمنهج عصره الصوفي ولم يخرج عنه ، ومن الطبيعي أن يؤكد ثوابت عصره الفكرية والعقيدية والثقافية ، وسنناقش من هذه القضايا ما ركز عليه ، مع التأكيد المسبق أنه كان مدافعا جيدا  ( بالباطل ) عن تلك الثوابت( الخرافية ) في المقدمة ، وربما لم يستطع علماء الصوفية الدفاع عن التصوف بمثل ما فعل إبن خلدون .

6 ــ  ونبدأ المناقشة بموضوع الجغرافية باعتبارها من العلوم الطبيعية ، التي تقوم على المنهج التجريبي ، وبعدها نناقش الموضوعات المتصلة بالتصوف ونتفرغ أخيرا لآرائه في علم العمران ، أو الإجتماع .



[1]
- المقدمة ، الفصل الرابع ، الباب السادس

[2]- المقدمة ، الفصل العاشر ، الباب السادس

[3]- المقدمة ، الفصل الرابع والثلاثون ، الباب السادس

[4]- المقدمة الفصل الثاني عشر ، الباب السادس

[5]- المقدمة الفصل الخامس والثلاثون ، الباب السادس ص 477.

[6]- رسائل اخوان الصفا ن دار صادر بيروت :1/100، 113، 153، 157، 158: 182، 266: 275، 284: 291.

[7]-  المقدمة : الفصل الثالث والخمسون ، والفصل الحادي والثلاثون من الباب الثالث . بالإضافة إلى ص 78: 79

[8]-  المقدمة ، الفصل السادس من الباب السادس .

[9]- المقدمة ، الفصل التاسع من الباب السادس ص 378.

[10]-  المقدمة ، الفصل الثامن والأربعون ، من الباب السادس

[11]- المقدمة ص 80

[12]- الفصل 53 من الباب 3 والفصل 35 من الباب 3 والفصل 14 من الباب 6 والفصل 5 من الباب 6 من المقدمة .

[13]-  المقدمة ، الفصل 30 من الباب 3.

[14] -  المقدمة ، الفصل 30 من الباب 3.

اجمالي القراءات 9190