عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف24: 27 ) علم الكيمياء والفلسفة والتنجيم

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٧ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                   الفصل  الرابع والعشرون

                                      في علم الكيمياء

ماهية علم الكيمياء

    هو علم تحويل المواد إلى ذهب أو فضة ، وذلك بالعثور على المادة المستعدة للتحول إلى ذهب أو فضة سواء كانت من حيوانات أومعادن ، واخضاعها بالتحليل والتقطير والتجميد والتكليس إلى أن يستخرجوا منها الأكسير وهو الجسم الطبيعي الذي يلقي منه على الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمي بالنار فيصيرهم ذهبا أو فضة .

التأليف في الكيمياء

     وإمام الكيمياء هو جابر بن حيان وله فيها سبعون رسالة مليئة بالألغاز ، ثم الطغرائي وله فيها دوواين ومناظرات ، ومسلمة المجريطي الأندلسي ، وله فيها كتاب رتبه الحكيم وجعله قرينا لكتابه الآخر عن السحر والطلسمات والذي عنوانه غاية الحكيم ، وكل مؤلفات الكيمياء عبارة عن ألغاز . وينسبون للغزالي معرفة الكيمياء ، وينكر ذلك إبن خلدون كما ينكر أن يعرف خالد بن يزيد بن معاوية الكيمياء لأن عصره كان بدويا بعيدا عن الصنائع .  

رأي إبن خلدون في الكيمياء

     ونقل إبن خلدون فقرات مطولة من كلام إبن بشرون في الكيمياء وهو كلام غير مفهوم لايخرج القارئ منه بطائل ، واستدل إبن خلدون بذلك على ألغازهم في الحديث عن الكيمياء وأنها ليست بصناعة طبيعية .

    ويرى إبن خلدون أن الكيمياء من آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعية ، إما عن طريق الكرامة إذا كانت النفوس خيرة ، أو عن طريق السحر لأن الساحر في رأي إبن خلدون يستطيع قلب الأعيان كما حدث من سحرة فرعون وما يحدث من سحرة الهند والسودان ، واعتبر تخليق الذهب ضربا من ذلك السحر ، واعتبر المتكلمين في هذا العلم من الحكماء مثل جابر ومسلمة ، وقال أنهم لجأوا للألغاز خوفا من الإتهام بالسحر . وفات ابن خلدون تقرير القرآن الكريم على أن سحرة فرعون لم يقلبوا الحبال والعصى ثعابين ، وإنما جعلوا الناس يتخيلون هذا ، أى أنهم سحروا أعين الناس .

                                       الفصل الخامس والعشرون

                                في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها

نقل إبن خلدون للآراء الفلسفية

    يقول إبن خلدون أن علوم الفلسفة تزدهر في الحضارة ، وضرر الفلسفة واضح بالدين لأن الفلاسفة يزعمون أن الوجود وكل أحواله إنما يدركه العقل ، وأن العقل هو الذي يصحح العقائد الإيمانية ، وقد وضعوا قانونا يستطيع به العقل تمييز الحق من الباطل وهو المنطق.

ويصف إبن خلدون الفلاسفة بأنهم صنف من عقلاء النوع الإنساني ، وأورد أقاويلهم في المحسوسات والمعاني والتجريد والمعقولات الثواني وتقدم الحكم على التصور وغير ذلك مما قاله أرسطو، وأن السعادة هي إدراك الموجودات في الحس وماوراء الحس بالبراهين الفلسفية . وترتيب الوجود لديهم يبدأ بالجسم السفلي المركب الحسي ثم النفس ثم العقل ، ووجود النفس والعقل للأفلاك كما هي للإنسان ، وربطوا بين إدراك الوجود والتمسك بالفضائل وذلك لتحقيق السعادة والبهجة واللذة ، وأن الجهل بذلك هو العذاب السرمدي ، وهذا هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة .

وترجمت المؤلفات الفلسفية اليونانية للعربية في العصر العباسي ، وانشغل بها فلاسفة المسلمين كالفارابي وإبن سينا .

رأي إبن خلدون في الفلسفة

   ويعتبر إبن خلدون بطلان مذهبهم في إسناد الموجودات كلها للعقل الأول ، لأن الوجود الذي خلقه الله تعالى أوسع من ذلك ، ويشبههم بالطبيعيين المنكرين لما وراء المادة ، ويرى أن براهين الفلاسفة قاصرة ، وتفتقر إلى اليقين ، ومسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها . وماوراء الطبيعة عوالم مجهولة لايمكن التوصل إليها بالبرهان ، وغاية ما نصل إليه هو الظن بعد التعب . إذا فلا داعي لهذا المجال ، ويرى أن القول بأن السعادة هي إدراك الموجودات بتلك البراهين إنما هو قول مزيف ، وأستدل بسعادة الصبي الصغير بما يدركه بحواسة ، ولا شأن له بالبراهين .. كما استدل بالصوفية الساعين للسعادة بالادراك الوجداني وليس بالبراهين العقلية ، ويسخر إبن خلدون من قولهم بأن السعيد من أدرك منهم العقل الفعال – وهو أول رتبة في الكشف عن الروحانيات ، ولأنه يرى السعادة والشقاء من وراء الادراكات الجسمانية والروحانية ، فإن إبن خلدون يخالفهم في القول بأن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه واصلاحها ، وقال أن إبن سينا قد تنبه لذلك  حين قال في كتابه " المبدأ والمعاد" أن المعاد الروحاني يعرف بالبرهان العقلي ، أما المعاد الجسماني فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة.

    وينتهي إبن خلدون إلى أن علم الفلسفة لايفي بمقاصدهم ، وليس له إلا ثمرة واحدة ، هي تدريب الذهن على استخدام الأدلة والحجج للوصول إلى الصواب ، وينصح الناظر في الفلسفة بتجنب الزلل فيها ، وأن يتخصص أولا في الشرعيات والتفسير والفقه حتى يتسلح بعلوم الملة قبل أن يخوض بحار الفلسفة .

                                         الفصل السادس والعشرون

                         في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها

ماهية علم النجوم

   يزعم أصحاب هذا العلم أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها عن طريق معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها في العناصر ، ومن هنا تدل أوضاع الأفلاك على ماسيحدث في  الكائنات الكلية والشخصية .الكائنات الكلية والشخصية

    والمتقدمون من علماء التنجيم يرون معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة ، وهو أمر تتقاصر عنه أعمار البشر ، ويرى آخرون أن المعرفة بذلك تأتي بالوحي ، ويعارض إبن خلدون هذا الرأي لأن الأنبياء يعلمون الغيب بالوحي من الله وليس بالتعلم والإستنباط الصناعي .

أقوال بطليموس والمتأخرين

    ويرى بطليموس وأتباعه أن دلالة الكواكب على أحوال الكائنات دلالة طبيعية من مزاج الكواكب في العناصر ، مثل أثر الشمس في تبدل الفصول ونضج الثمار والزرع ، ولهم في بقية الكواكب طريقان في معرفة تأثيرها ، التقليد والحدس والتجربة بالقياس إلى الكوكب المنير الأعظم – أي الشمس - ، هل يزيد عند الاقتران أم ينقص ، ثم إذا عرفنا قوى الكواكب مفردة عرفناها مركبة عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وذلك بالقياس إلى الكوكب المنيرالأعظم .وإذا عرفنا قوى الكواكب عرفنا تأثيرها في الهواء وفي المزاج وتأثير ذلك في العناصر والبشر والنفوس . ويقول بطليموس أن هذا علم ظني وليس من القضاء الإلهي ، ولكنه من جملة الأسباب الطبيعية للكون ، والقضاء الإلهي ، سابق عليها .

رأي إبن خلدون

    ويستدل إبن خلدون – على ضعف هذا العلم بقيامه على الظن ، ويقرر أن القوى النجومية ليست الفاعلة وحدها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي ، مثل قوة التوليد للأب في النطفة والقوى الخاصة داخل النوع ، وقال أنه يشترط مع العلم بتأثير النجوم إضافة المزيد من الحدس والتخمين حتى يقوي الظن ، وإلا تناقص وأصبح شكا . وقال أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه ، ولا يمكن إثبات قوى الكواكب الخمس بالقياس للشمس لأن قوة الشمس مستولية عليها ، وتأثير الكواكب فيما تحتها باطل حيث لا فاعل إلا الله ، والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله ، والنبوات تنكر تأثير النجوم ، واستشهد بأحاديث مثل الشمس والقمر لايخسفان لموت أحد ولا لحياته ، أي أن علم النجوم باطل شرعا وعقلا .

إعتقاد العوام في النجوم

     وقال أن بعض العوام يعتقد في النجوم والتنجيم إذا تصادف صدق تنبؤاتها فيرد الأشياء إلى غير خالقها . ونصح بقطع دابر هذه الصناعة في البلاد لضررها على الدين والدولة حيث تساعد على تطاول الأعداء وقيام الثورات . ويرى أنه من العبث تضييع العمر في تحصيل هذا العلم الظني الضار القاصر ، لأنه بعد تحريمه أصبحت مطالعة هذا العلم تتم سرا ، ومع صعوبته وقلة الملتفتين إليه فإن من المستحيل أن يتبحر أحد فيه .

                                             الفصل السابع والعشرون

                                    في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة

                                وجودها وما ينشأ من المفاسد من إنتحالها

الكيميائيون في عصر إبن خلدون

    تحدث إبن خلدون عن التحايل بالكيمياء الذي صار في عصره أحد طرق إكتساب المعاش، حيث يعتقد أحدهم أنه من الأيسر له اقتناء الأموال عن طريق الكيمياء التي كانت تعني تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، فيضيع جهده ووقته وماله في غير طائل ويبوء بالخسران وأحيانا غضب السلطان .

طرق الكيمياء : تحويل المعادن إلى ذهب

   ولديهم طرق مختلفة في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، والأساس فيها الحصول على الحجر المكرم من البراز أو الدم أو الشعر أو البيض .. الخ ، ويقول إبن خلدون ثم تمهي بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء وتضاف لها العقاقير ، ثم تجفف أو تطبخ بالنار أو تقطر ، وفي النهاية يستخرج منها الإكسير الذي إذا ألقي على الفضة المحماة بالنار صارت ذهبا ، وإذا ألقي على النحاس المحمي بالنار صار فضة ، ويقولون إن الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة فيها قوة مؤثرة مثلما تؤثر الخميرة في العجين فتحوله إلى عجين مخمر .

    ويقول إن الكيميائيين في عصره عكفوا على هذه التجارب وتناقلوا ما كتبه جابر بن حيان والمجريطي والطغرائي والمغربي ، ولم يخرجوا من ذلك بطائل ، وقد استشار إبن خلدون الشيخ التلفيقي أكبر شيوخ الأندلس في بعض كتبهم ، فقال له بعد أن قرأ ذلك الكتاب أنه لايضمن لهم إلا الخيبة .

تورطهم في الخداع والتدليس والتزييف

    وبعض الكيميائيين في عصر إبن خلدون يقع في التدليس كتمويه الفضة بالذهب أو إلقاء الشبه بين المعادن مثل تبييض النحاس ليشبه الفضة ، ولايكتشف ذلك إلا الخبراء ، وهم يضعون عليها علامة السلطان ، ويراهم إبن خلدون شر الناس ، حيث يسرقون الناس عن طريق تزييف الذهب والفضة والعملة وقال أن معظمهم من طلبة البربر الذين يعيشون على أطراف المدن يخدعون الأغنياء بمقدرتهم على استخلاص الذهب والفضة ، وبعد أن يفوزوا بالأموال يتركون المكان إلى بلد آخر ، ويطالب إبن خلدون بتشديد العقوبة عليهم لأنهم يفسدون العملات المعدنية من الذهب والفضة ويرى إبن خلدون أن هذا الصنف لايستحق الرد عليه .

    ويقول إن الصنف الذي يستحق الرد عليه هو من تنزه عن التدليس والتزييف وآمن بصحة تحول المعادن الخسيسة إلى الفضة والذهب . وقال إنه لم يحدث أن نجح أحد من قبل في ذلك ، بل ذهبت أعمارهم في غير طائل ، مع أن انتحال هذه الصناعة قديم ، وأوضح إبن خلدون أصل الموضوع .

الأساس الفكري للكيمياء

    قال إن المعادن السبعة القابلة للطرق هي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والحديد والنحاس والخارصين ، وقد اختلف الحكماء هل هي من نوع واحد أو مختلفة الأنواع ، وعرض إبن خلدون لذلك الإختلاف بين إبن سينا والفارابي . ويرى الفارابي أنها نوع واحد لذلك يمكن تحويل بعضها إلى بعض بالكيمياء ، أما إبن سينا فيرى أنها مختلفة الأنواع يستحيل تحولها . ورد عليه الطغرائي بإمكانية التحويل بمثل ما تتخلق الحيوانات التي نجهلها من التراب والنتن ، وكانوا يعتقدون أن الحشرات تتولد من التراب والقاذورات والمهم هو الحصول على المادة المستعدة للتحول وقوتها الفاعلة التي تشبه الخميرة ، وهي الإكسير .

رأي إبن خلدون

    وقرر أن تلك الأحوال التي يذكرونها عن المعادن لا نهاية لها ويعجز العلم البشري عنها مثل من يحاول تخليق إنسان أو حيوان أو نبات ، واستشهد بحجة إبن سينا وهي أن هذين المعدنين

( الذهب والفضة ) هما أساس الأموال ، ولوحصل عليهما أحد بالصنعة لبطلت حكمة الله في اتخاذهما ، وتكاثر وجودهما لايجعل لهما قيمة مالية ، وقال أنه لو كان سهلا الحصول عليهما بالطريق الصناعي لكان أسهل بالطريق الطبيعي .

     ويوافق إبن خلدون على زعم الطغرائي في تخليق العقرب والنمل من التراب ، إلا أنه لايرى ذلك متفقا مع الكيمياء ، حيث لايزال أصحاب الكيمياء عاجزين عن الوصول لمطلبهم ، ولو نجح أحدهم لعرف الجميع بطريقته وتناقلوها.

وفي الرد على تشبيه الإكسير بالخميرة ، ينفي إبن خلدون ذلك الشبه ، لأن الخميرة تعد العجين للهضم وهو فساد ، والفساد في المواد سهل ميسور ، أما المطلوب من الإكسير فهوقلب المعدن إلى ما هو أشرف منه ، فهو صالح للتكوين ، وذلك أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة . ومن الواضح أنه يرد عليهم بالجدل المنطقي حسب المنهج العقلي الأرسطي .

     وفي النهاية يرى إبن خلدون أن الكيمياء إذا صح وجودها فليست من الصنائع الطبيعية ، وإنما هي من الأمور السحرية والخوارق الخارجة عن حكم الصنائع ، فمن طلب الكيمياء عن طريق الصناعة أضاع ماله وعمله ، وأشار إبن خلدون إلى إمكانية  الكيمياء واقعيا مما وراء الطبائع ( أى بالكرامات )  مثل المشي على الماء وامتطاء الهواء ومثل كرامات الأولياء أو معجزات الأنبياء ، وقد تأتي للغير الصالح أو غيره فتكون سحرا ، ولذلك كان الكلام فيها ألغازا لا يعرفها إلا من خاض لجة علم السحر واطلع على تصرفات النفس.أي يؤمن بالكيمياء إذا جاءت من الأولياء الصوفية.

     وقال إنه يتعلق بها العاجزون عن الكسب الطبيعي من الفقراء طلبا للرزق السهل ، ولذلك آمن بها الفارابي وكان فقيرا ، بينما أنكرها إبن سينا وكان غنيا وزيرا .

اجمالي القراءات 13837