القرآن والواقع الاجتماعى (23 ) ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )( جعيفران الموسوس )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢١ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 القرآن والواقع الاجتماعى (23 ) ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )( جعيفران الموسوس )

 القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم ".

 

بعد تفصيلات الميراث يقول جل وعلا : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ   وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ  )( النساء 13 : 14 )

( جعيفران الموسوس ) ضحية الحرمان من الميراث

 مقدمة

هناك ( مؤمنون ) سيخلدون فى جهنم لأنهم تعدوا حدود الله جل وعلا التى وضعها فى الميراث   ، فلو أكلت حق وارث ظلما وعدوانا ، ولو حرمت وارثا من نصيبه فى التركة ومُتّ على ذلك بدون إرجاع حقه اليه فإن مصيرك الخلود فى النار . هى جريمة مُستهان بها ، ويرتكبها ملايين الناس ممّن يقولون آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين . لذا وجب التنبيه .

ونعطى قصة من التراث عن ضحية محروم من ميراثه ، حرمه منه أبوه ، أقرب الناس اليه.

أولا :

1 ــ   كان علي بن اصفر الأنباري من جنود الخلافة العباسية ، وقد سكن بغداد و" سر من رأي " أو سامرا ، وبلغ ابنه جعيفران مبلغ الرجال ، فمنعه من دخول بيته والاختلاط بنسائه من الجواري ، وادعت إحداهن عليه عند أبيه بما يشين ، وكان علي بن اصفر مصابا بالوسواس فصدق الوشاية حينا وارتاب فيها أحيانا، وحتى يصل إلي نتيجة يستريح فيها من الوسواس ذهب إلي الحج ، واستشار هناك بعض الفقهاء ، فما كان من ذلك الفقيه إلا أن أكد للأب وساوسه وشكوكه في ابنه جعيفران ، واتهم الابن المظلوم في شرفه ، بل وافتاه بطرده من البيت وحرمانه من المال حيا وميتا ، أي حرمانه من الميراث .

2 ــ       وعاد الأب الموسوس إلي بغداد فطرد ابنه الشاب من سكنه ومنعه من أي مال يصل إليه منه ، واتصل الأب بفقيه آخر يستفتيه في حيلة يستطيع بها إخراجه من الميراث بعد الموت ، فأفتي له ذلك الفقيه بأن يوصي بكل أمواله إلي رجل ويشترط عليه أن يحرم الابن جعيفران من أي شيء .

3 ــ ومات الأب قاسي القلب وآلت الثروة حسب وصيته إلي  ذلك الرجل ، وجاء إليه جعيفران ليأخذ حقه من الميراث فمنعه الرجل ، فذهب جعيفران إلي القاضي أبي يوسف وشكا له ، فأمر أبو يوسف بإحضار ذلك الرجل الوصي ، وفي مجلس الحكم سأل أبو يوسف جعيفران أن يأتي ببينة علي نسبه وتركة أبيه ، فقدم جعيفران الشهود الذين شهدوا علي صحة نسبه وعلي ما تركه أبوه من أموال ، وطلب أبو يوسف من الوصي بينة علي أن والد جعيفران قد أوصي له بتركته فأحضر الوصي شهودا شهدوا علي أن والد جعيفران احتال بالوصية علي منع ابنه من الميراث ، ولكن أبا يوسف لم يأخذ ببينة الوصي وأوشك علي أن يحكم لجعيفران بحقه في ميراثه من أبيه ، إلا أن الوصي أراد أن يخلو بالقاضي أبي يوسف ليقول له السر ، ولكن القاضي أبا يوسف رفض إلا أن يحضر جعيفران ، فطلب الوصي من القاضي مهلة إلي الغد ليقدم مستندا جديدا فأمهله أبو يوسف للغد ، وسعي الوصي إلي أحد أصدقاء أبي يوسف وأعطاه رقعة أوصلها إلي أبي يوسف وفيها اتهام لجعيفران بتلك التهمة البشعة، وأنها السبب في قرار أبيه بحرمانه من الميراث ، ولم يقبل أبو يوسف ذلك الاتهام فاستدعي الوصي وطلب منه اليمين فاقسم الوصي يمينا كاذبة يؤكد فيها اتهام جعيفران ، فاقتنع أبو يوسف، وفي اليوم التالي كان موعد الحكم فحكم أبو يوسف بحرمان جعيفران من ميراثه من أبيه .

4 ــ   واشتهر الأمر ، وفقد جعيفران ثروته وسمعته ، وفقد معهما عقله ، إذ كان يغيب عقله أحيانا ويختلط ، فحمل من يومها لقب ( جعيفران الموسوس).  ومن أعاجيب مرضه النفسي أنه كان إذا جاءته الحالة نطق شعرا ، ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر .  ويقول ابن عثمان الكاتب أنه أشرف علي جعيفران من علي سطح داره ، وقد جاءت لجعيفران حالة الجنون المؤقت التي تنتابه فسمعه ينطق شعرا .

5 ــ  والواضح أن حرمانه من ثروة أبيه واتهامه الظالم فى شرفه أنطقه شعرا يفيض بالظلم والحرمان من المال ، وقد أدرك أنه فقد سُمعته  بعد أن فقد ماله ، ولكنه ما كان يدري أن مصيبته في ماله وعقله وشرفه قد أنطقته الشعر وأفسحت له مكانا بين سطور التاريخ ، ومنحته ذكرا وشهرة في عصره والعصور التالية . وبينما عرف التاريخ اسمه والظلم الذي وقع عليه فإن الروايات التاريخية تجاهلت أسماء الذين تسببوا فى محنته : جارية أبيه والفقهاء والوصي الذين تآمروا علي حرمانه من حقه ، ولذلك لم نعرف أسماءهم ، ولا نريد أن نعرفها .

ثانيا

1 ــ    إن قافلة الظلم ـ مع شديد الأسف ـ لا تزال تسير ، تحمل معها أنواعا مختلفة من الظلم ، منها ظُلم المشرك لربه جل وعلا حين يفترى أحاديث كاذبة ينسبها للوحى الالهى وفى سبيلها يفترى على الله جل وعلا كذبا ، ومنها ظلم الانسان للإنسان . ولكن الغريب أن يظلم ( المؤمن ) أقرب الناس اليه ، ويتجلى هذا فى موضوع الميراث ، فهناك من يجرؤ علي شرع الله تعالي فيحرم وارثا من حقه ، وقد يكون المحروم ابنا مثل جعيفران . وقد يكون المحروم بنتا شاء سوء حظها أن يبتلي أبوها بالتفكير الجاهلي الذي يحرم المرأة من حقوقها . وأولئك جميعا يحتاجون إلي مراجعة النفس وصحوة الضمير والتوبة قبل فوات الأوان .  

2 ــ والمؤسف أنه على صعيد الفقه ( النظرى ) يثور جدل حول نصيب البنت وكيف أنه نصف الولد من تركة الأب ، ونفس الحال فى الأخت مع أخيها ، وفى نصيب  الزوجة بالمقارنة بزوجها . وهو جدل بعيد تماما عن الواقع . فالواقع أن الأنثى فى معظم مجتمعات المحمديين لا تحصل من الميراث  إلا القليل ، بل قد لا تحصل على ميراثها أصلا . تؤول التركة من الأرض والثروة الى الذكور ، ولا تحصل الوارثات ( من الأم والزوجة والبنت ) إلا على الفتات . وفى أحيان كثيرة يستولى الابن الأكبر على حقوق اخوته الأصغر منه ذكورا وإناثا . اى يقع الظلم من شخص على أقرب الناس اليه ، وبدلا من ان يقوم الأخ بحق أخته الضعيفة فإنه يأكل حقها فى الميراث ، ولا يحس بالخجل ، فهو لا يراها ولكن يرى زوجها , ويستكثر أن يؤول جزء من املاك أسرته لزوج الأخت .

3 ـ وهناك من يتحرى العدل ويقيم شرع الله جل وعلا فى الميراث واضعا فى الاعتبار قول الرحمن جل وعلا : (  لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) النساء )، أى مهما قلّ النصيب فى الميراث فلا بد من إعطاء النساء حقوقهن فى الميراث . بمعنى لو ترك بضعة جنيهات فقط فلا بد من إعطاء الوارثات حقوقهن من هذه العشرة جنيهات .! ، وإلا فهو التعدّى على ( حدود الله ) جل وعلا . وجزاء هذا المتعدى ـ ولو فى بضع جنيهات ــ هو الخلود فى النار.  يقول جل وعلا : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ   وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( النساء 13 : 14 )

أخيرا

انتهى العصر العباسى الذى عاش فيه جعيفران الموسوس ، وجاء العصر المملوكى . ولو عاش جعيفران الموسوس فى العصر المملوكى لإعتبروه ( مجذوبا ) و من ( ارباب الأحوال ) وقصدوه بالنذور والتقديس والتوسل وطلب المدد .. هذا يوضح جريمة التصوف وجنايته على عقول المحمديين .! كان ممكنا أن يتقدموا الى الأمام فجذبهم التصوف الى الخلف وأعاشهم فى الخرافات وتقديس المجانين ( المجاذيب ).

اجمالي القراءات 9892