طعن علماء السنة في الإمام أبي حنيفة

سامح عسكر في الخميس ٢٠ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

الإمام أبو حنيفة النعمان أحد الأئمة السنية الأربعة، وهو أولهم مولداً ووفاة، ولد في الكوفة عام 80 هـ وتوفى ببغداد عام 150هـ، قيل أنه كان فارسياً من كابول في أفغانستان وقيل أنه كان نبطياً ، روى له اثنان من أئمة الحديث الستة وهما الترمذي والنسائي، ولم يوثق في الصحاح لسبق رأيه في الحديث واجتهاده برأيه في الدين، وهو السبب في موقف البخاري وابن حنبل منه بعد ذلك.

لم يصلنا من تراث أبي حنيفة سوى ما روي عنه من تلاميذه وبالأخص الشيباني (ت189هـ) وأبو يوسف(ت182هـ) والأول روى كتاب الموطأ لمالك وعرض فيه رأي أبو حنيفة إضافة للآثار، أما الثاني فروى إبنه كتاب الآثار عن أبيه عن أبي حنيفة، أي لم يصلنا تراث أبي حنيفة سوى في القرن الثالث الهجري بعد موت أبي حنيفة بعشرات السنين.

والتدوين لم يكن معروفاً في عصر أبي حنيفة، حيث كانت العلوم تُنقل شفهياً حتى تعرض بعضها للتحريف..وهذا يعني صعوبة معرفة رأي الرجل واجتهاده بدقة .

لكن بنظرة دقيقة من كلام مؤيديه ومخالفيه يظهر أن الرجل كان يُكثر من رأيه ولا يعتمد على الحديث في بناءه الفقهي، أي كان مفكراً عقلانياً في عصر كان فيه الحديث مجرد صناعة روائية ولا يمثل عنصراً رئيسياً في الدين..وهذا هو السبب في طعن علماء الحديث في القرن الثالث فيه وتشنيعهم عليه بعد اعتبار الشافعي أن الحديث هو الأصل الثاني في الإسلام..

وقد جمع عبدالله بن أحمد بن حنبل (ت290هـ) أقوال هؤلاء (الطاعنين) في كتاب السنة ، وعبدالله هو الإبن الثاني للإمام أحمد ، وقد عمل بالحديث كوالده، خلافاً للإبن الثاني صالح الذي اشتغل بالفقه ونشر مذهب أبيه في بلاد فارس.

كان عبدالله ولا يزال رمزاً من رموز الحنابلة حيث كتب عن أبيه كتاب (المسند) وكذلك كتاب (السنة) وقد أكثر مادحوه ومقرّظوه حتى وصفه أبو الحسين ابن المنادي (ت336هـ) أنه لم يكن أروى للحديث عن أبيه منه، ويعني أن روايته عن أبيه حجة وأنه العمدة في النقل عن أبيه، ولذا فعبدالله هو أصل من أصول الحنابلة، وأضاف ابن المنادي في مدح عبدالله .." وما زلنا نرى أكابر شُيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال، وعلل الحديث، والأسماء والكُنى، والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك"..( طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (ج2 ص11)؛ تاريخ بغداد (ج11 ص13)

وقد وثقه النسائي والدارقطني والبغدادي والذهبي، والتوثيق في عُرف أهل الحديث أن روايته صادقة لا تُرد، بما يعني قبولهم بمحتوى كتابيه (السنة والمسند) وسنعتمد في هذا العرض على واحد منهم وهو (كتاب السنة) وسنرى في السطور القادمة كيف روى عبدالله كلام الفقهاء في عصره عن أبي حنيفة لنرى لمحة من لمحات العصر العباسي الثاني وربما الأول..

يقول عبدالله عن أبيه -ابن حنبل- أنه كان لا يثق في أصحابه إلا لو بغضوا أبي حنيفة ونظروا في كلامه بمعنى رفضوه.. يقول عبدالله:

1-سمعت أبي (ابن حنبل) يقول: عن عبد الرحمن بن مهدي، أنه قال: «من حسن علم الرجل أن ينظر في رأي أبي حنيفة»..(السنة 227) 

2-وأخبرت عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله..(السنة 228)

ويستمر عبدالله في اتهام أبي حنيفة بالتجهم والإرجاء، وهما تهمتان شاعتا في القرن الثالث بعد تمكن الخليفة العباسي المتوكل..يقول عبدالله:

1-حدثني محمود بن غيلان، ثنا محمد بن سعيد بن سلم، عن أبيه، قال سألت أبا يوسف وهو بجرجان عن أبي حنيفة، فقال: «وما تصنع به مات جهميا»..(السنة 231)

2- حدثني إسماعيل بن إسحاق الأزدي القاضي، حدثني نصر بن علي، ثنا الأصمعي، عن سعيد بن سلم قال: قلت لأبي يوسف أكان أبو حنيفة يقول بقول جهم؟ فقال: «نعم»..(السنة 232)

3- حدثني أبو الفضل الخراساني، حدثني إبراهيم بن شماس السمرقندي، قال قال رجل لابن المبارك ونحن عنده «إن أبا حنيفة كان مرجئا يرى السيف»، فلم ينكر عليه ذلك ابن المبارك..(السنة 233)

4- حدثني أحمد بن إبراهيم، ثنا خالد بن خداش، عن عبد الملك بن قريب الأصمعي، عن حازم الطفاوي قال وكان من أصحاب الحديث: «أبو حنيفة إنما كان يعمل بكتب جهم تأتيه من خراسان»..(السنة 237)

كذلك اتهموه بالاعتزال وهي تهمة كانت كافية في عصر المتوكل لقتله بعد تكفيره ،ونلاحظ أن رواية عبدالله فيها تكفير صريح لأبي حنيفة....يقول عبدالله:

1- حدثني إسحاق بن عبد الرحمن، عن حسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف، قال " أول من قال: القرآن مخلوق أبو حنيفة "..(السنة 236)

2- حدثني عبد الله بن عون بن الخراز أبو محمد، وكان، ثقة، ثنا شيخ، من أهل الكوفة: قيل لعبد الله بن عون: هو أبو الجهم فكأنه أقر أنه قال: سمعت سفيان الثوري يقول: قال لي حماد بن أبي سليمان " اذهب إلى الكافر يعني أبا حنيفة فقل له: إن كنت تقول: إن القرآن مخلوق فلا تقربنا "..(السنة 239)

3- حدثني إسحاق بن أبي يعقوب الطوسي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سليم المقرئ، عن سفيان الثوري، قال: سمعت حمادا، يقول: " ألا تعجب من أبي حنيفة يقول: القرآن مخلوق، قل له يا كافر يا زنديق "..(السنة 241)

ومن أشهر من طعن في أبي حنيفة في هذا الكتاب هم حماد بن سلمة حيث روى ابن حنبل أنه كان (يشتمه) وكذلك الأوزاعي الذي اتهم أبي حنيفة بالكفر ونقض عُرى الإسلام..حتى روى عن الأوزاعي أنه كان يتشائم منه وأنه ما ولد في الإسلام (أشرّ من أبي حنيفة) وفي رواية أخرى أن سفيان الثوري وابن عون كانا يتشائمان منه أيضا.

وكذلك أيوب السختياني الذي شتم أبي حنيفة وقال عنه أنه (أجرب) وهي تهمة تشي صاحبها بالقذارة، هكذا وصل حالهم مع أبي حنيفة ويبدو من طبيعة شتائمهم ومعاني ألفاظهم كم الكراهية التي في قلوبهم للرجل، ومن الذين طعنوا فيه الأعمش إمام أهل الحديث في بداية القرن الثاني، وكذلك أبو بكر بن عياش المعروف (بالمقرئ)، وعثمان البتي ، وروى عن سفيان الثوري أن أبي حنيفة (استتيب من الكفر مرتين) ومن المثير أن أكثر روايات ابن حنبل في تكفير أبي حنيفة واتهامه بالزندقة كانت عن سفيان الثوري، حتى بلغ مجموع رواياته عن سفيان العشرات من طرق مختلفة، وهي طرق قد تصل لحد التواتر ، أي أن سفيان الثوري لم يكن يرى أبي حنيفة مسلماً..!!

بمناسبة القول أن أبي حنيفة كان نبطياً فهو قول منسوب لسفيان الثوري إذ قال عبدالله بن حنبل: " عن سفيان الثوري، قال: «كان أبو حنيفة نبطيا استنبط الأمور برأيه»..(السنة 284)..وهي تعني أنه كان من أنباط العراق الذين تحدثوا الآرامية، والأنباط أقرب للسريان من العرب، وحسب هذه الرواية أن أبي حنيفة لم يكن عربياً بل كان سريانيا..وأيد هذا القول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والقول بنبطية أبي حنيفة هو تمييز عنصري وعرقي كان مشهوراً في العصر العباسي الثاني.

ومن الذي طعنوا في أبي حنيفة –في هذا الكتاب -الإمام (مالك بن أنس ت 179هـ) وهو الإمام الثاني في المذهب السني، وقد روى عبدالله بسنده عن مالك عدة أقوال منها:

1- حدثني منصور بن أبي مزاحم، سمعت مالك بن أنس، ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: " كاد الدين، وقال: من كاد الدين فليس من الدين "..(السنة 292)

2- حدثني أبو معمر، عن الوليد بن مسلم، قال: قال مالك بن أنس «أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟» قلت: نعم، قال: «ما ينبغي لبلدكم أن يسكن»..(السنة 294)

3- حدثني أبو الفضل الخراساني، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: قال لي خالي مالك بن أنس " أبو حنيفة من الداء العضال وقال مالك: أبو حنيفة ينقض السنن " ..(السنة 295)

4- حدثني الحسن بن الصباح البزار، حدثني الحنيني، عن مالك بن أنس، قال: «ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة»، وكان يعيب الرأي..(السنة 296)

5- أخبرت عن مطرف اليساري الأصم، عن مالك بن أنس، قال «الداء العضال الهلاك في الدين أبو حنيفة الداء العضال»..(السنة 387)

6- حدثني أبو الفضل الخراساني، ثنا مسعود بن خلف، قال: ثنا وليد بن مسلم، قال قال لي مالك بن أنس " يظهر ببلدكم كلام أبي حنيفة؟ قلت: نعم قال: ما ينبغي لبلدكم أن يسكن "..(السنة 389)

ومن الذين طعنوا كذلك في أبي حنيفة- في هذا الكتاب- حماد بن زيد وشريك بن عبدالله ووكيع بن الجراح وأبو إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وأبي عوانة وسلام ابن أبي مطيع وأبو جعفر بن سليمان الذي كان يرى أبي حنيفة زنديقا وحسن بن صالح والأصمعي وحماد بن سلمة الذي أكثر الفُحش في أبي حنيفة حتى وصلت شتائمه للرجل حد التواتر من طرق كثيرة، وكذلك إمام التصوف عبدالله بن المبارك وسفيان بن عيينة وأبو خالد الأحمر وحفص بن غياث وأبي حمزة السكري وأسود بن سالم وأبي زائدة وعبدالرزاق الصنعاني ومحمد بن جابر وهوذة بن خليفة وعبدالله بن يزيد وأبو سلمة الجهني وقتادة بن دعامة.. 

لقد جمع عبدالله في أبي حنيفة أقوال تضعه ضمن قائمة المرتدين والزنادقة، وبكثرة الطاعنين وقيمتهم العلمية نرى أن أبي حنيفة لم يكن مقبولاً حتى انقضاء القرن الثالث الهجري على الأقل، أي بعد وفاة عبدالله بن حنبل ، فحسب حركة التاريخ لم يظهر مؤيدوه قبل هذا الزمن، وكما ثبت في دراسة سابقة أن كل المدائح في حق أبي حنيفة ظهرت بدايةً من القرن الخامس ، وقد ظهرت هذه الأقوال على أيدي اثنين من كبار المؤرخين والفقهاء في هذا القرن وهما...

1-الخطيب البغدادي الشافعي المتوفي عام 463هـ في كتابه.."تاريخ بغداد"

2-ابن عبدالبر المالكي المتوفي عام 463 هـ في كتابه .."بيان العلم وفضله .

3-أبو إسحاق الشيرازي المتوفي عام 476هـ في كتابه.."طبقات الفقهاء"

وعنهم نقل ابن عساكر المتوفي عام 571 هجرية في كتابه.."تاريخ دمشق "..وعنهم جميعاً نقل ابن خلكان المتوفي عام681 هجرية في كتابه.."وفيات الأعيان.

كانت دوافع هذه المدائح طيبة بغرض التوفيق بين المذاهب، على ما يبدو أن التعصب المذهبي انتشر في هذا القرن فاضطر بعض الفقهاء لاختراع هذه المدائح ونسب بعضها للأئمة الأربعة ومنهم مالك وابن حنبل، ونسبوا لهم أكاذيب كثيرة ومنها :

1-من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة.
2- من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة.
3-سئل مالك بن أنس هل رأيت أبا حنيفة وناظرته ؟ فقال: نعم رأيت رجلا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته.

لاحظوا الفارق بين هذا الكلام وكلام عبدالله بن حنبل الذي كان أقرب –تاريخياً- للأئمة الأربعة وروى كلاماً مختلفاً بشكل كلي، فمن (أبي حنيفة الداء العضال والكافر الزنديق) إلى ( من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة) والسؤال لو كانت هذه المدائح صحيحة لماذا لم ينقلها عبدالله؟..وهل لو كان موقف عبدالله من أبي حنيفة حال دون ذلك فلماذا لم تظهر هذه المدائح قبل القرن الخامس؟

الغرض من هذا العرض ليس الطعن في من طعنوا في أبي حنيفة ولكنه استعراض (تاريخي علمي وموثق) لفترة زمنية غامضة وكشف أوجه غابت عن البعض بفعل فاعل، فمع انتشار الكذب والوضع على الرسول لا نستبعد الكذب والوضع على الأئمة الأربعة، وعليه يصعب تحديد موقف كلٍ منهم بشكل دقيق حتى نصدق كلام الشيوخ أن المذاهب الأربعة واضحة وجلية وهي بانتظار من يطبقها لينال حظه من السنة..!

اجمالي القراءات 66648