أثر التصوف في العادات الاجتماعية فى مصر المملوكية : الولائم

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٣ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : أثر التصوف  الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الرابع : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية

  أثر التصوف في العادات الاجتماعية فى مصر المملوكية : الولائم

الـــولائــــم

 الولائم للشيوخ الصوفية

1ــ عن إشتهار الصوفية بالأكل منذ القرن السادس يقول ابن الجوزي (بالغ إبليس في تلبيسه على قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم وخشونته ومنعهم شرب الماء البارد ، فلما بلغ المتأخرين استراح من التعب ، واشتغل بالتعجب من كثرة اكلهم ورفاهة عشيهم )[1]......

2ـ ويقول الشاذلي لأصحابه (كلوا من أطيب الطعام واشربوا من ألذ الشراب وناموا على أوطأ الفراش وألبسوا أحسن الثياب )[2] .. ويقول الخواص( الميل إلى مافي المال لا في المال نفسه )[3] .. وفي الحياة العملية عاش الولي المعتقد أبوعبد الله الكركي (وقد قارب المائة وهو متمتع حتى بالنساء )[4] . تلك مقدمة سريعة تظهر الفروق بين الزهد وبين التصوف  في العصر المملوكي ، ندخل بهل على الولائم في العصر كعادة اجتماعية نشرها المتصوفة وأضفى حضورهم عليها ــ كأساتذة العصر ــ مظهرا دينيا ...

3ــ ولأنهم (عارفون) في الولائم وأصولها فقد وضعوا لها الآداب، فيقول الشاذلي (إذا اكلتم الطعام عند إنسان فاشربوا عنده حتى ينال الأجر العظيم )[5] .. وكان محمد بن عنان  وعلى المرصفي والسروي إذا ذهبوا للطعام عند أحد يذهبون بجماعة قليلة، بشرط اعلام صاحب الطعام قبل الذهاب وانشراح خاطره. ( ولم يطبق الآخرون ذلك ) [6] .

4 ــ وواضح انهم يحثون الناس على دعوتهم للولائم بالتلويح لهم بالمقابل وهو البركة . وهذا التلويح بالبركة قد لا يأتي مباشرة للناس وإنما في معرض وصايا الصوفية لأنفسهم حتى يكون وقعه مؤثرا. يقول المتبولي : ( كل فقير لا يقدره الله على أن يمد صاحب الطعام بالبركة الخفية طول عامه فليس له أن يمد يده الى طعامه ). ويقول الخواص:( لا ينبغي  لفقير أن يمد يده لطعام إنسان إلا إن كان يشاركه في بلاء تلك السنة كلها ، او يحمله عنه كله) [7] . ويكمل الشعراني طقوس الوليمة فيجعل من آدابها إعطاء الخبز حقه من الإكرام والتعظيم ، وإذا فرغوا من الأكل  يقرءون سورة قريش وسورة الإخلاص. ويذكر بعض العبارات التي تقال عند الفراغ من الأكل.)[8]..

5ــ ولم يرحم الأشياخ مريديهم فكان الشيخ ــ على حد قول الشعراني ( يندلق على طعام المريد) . وعدّ الشعرانى من المنن تعففه من المبادرة إلى إجابة من دعاه[9]  ، أي أنه يجيب  ولكن بعد تمنع . ومعنى أنه يفخر بذلك دليل على ما وصل إليه حال معاصريه من الأشياخ ممن عدوا شراهتهم كرامة . يقول الدريني ( أما ما اتفق لبعض الأولياء من انه كان يأكل الطعام الكثير الذي يكفي الجماعة الكثيرة فإنما هو من باب التصريف وإظهار الكرامة )[10] .. أي أظهر شراهته في صورة كرامة . بل استأثر بعضهم بالولائم لنفسه دون المريدين فذكر الشعراني ان الشيخ دمرداش كان يأكل وحده أمام المريدين في الولائم ويمنعهم من الحضور )[11] . وكان المتبولي لا يصطحب معه أحدا منهم إذا دعي إلى وليمة عند احد الولاة.)[12]..

6 ــ وآتت الولائم ثمارها، فوصف بعض الأولياء السمنة ، حتى أن المرسي يقول (إياكم والاعتراض على من رايته سمينا ، فإن الحب إذا تمكن من العبد سمن )[13] . وشهرة بعض الصوفية بالسمنة جعلت أبا المواهب الشاذلي يصحح المفهوم الصوفي التقليدي للولي في عصره فيقول : ( قد غلط أكثر الناس في وصف اهل الصلاح بالنحول والتقشف فقط ، وليس الأمر كما ظنوا ، بل فيهم السمين والهزيل والمترفه) . وقد وصف البدوي بأنه ( كان غليظ الساقين عظيم البطن .)[14]..

أنواع أخرى من الولائم :

  كان الصوفية نجوم العصر ، وإزدهرت بحضورهم الولائم الاجتماعية ، واهمها:

 ولائم العرس

1 ـ وحضورهم فيها كان يعنى أن يتكلف صاحب العرس أو الختان فوق طاقته ، كما يقول الشعرانى ( فيطبخ ما ليس بقدرته أن يطبخه مما هو فوق طاقته ، فترى أبا العرس أو أم العروس يبيع احدهم ثيابه في عمل الطعام أو يقترض غير ذلك ولو بالربا.). [15]، . ويقول الشعراني ( دخل كثير من إخواننا الحبوس بسبب التزويج وعمل العرس والعزومات وهم عليهم دين )[16] . والداعي لذلك هو حضور الأولياء وأتباعهم لهذه المناسبة ، وتبرك الناس  بهم وافتخارا بعدد الحاضرين : ( حتى صار الناس يتخاصمون في أن زفة فلان أكبر من زفة فلان ) . ولم يتحرج الأولياء الصوفية من حضور تلك الولائم حتى لو حضرها العوام والماجنون والعابثون . ويقول الشعرانى مستنكرا : ( ويقبح على من شابت لحيته من العلماء والصالحين وصار قدوة للناس أن يحضر مع الأطفال والفساق في مواضع لهوهم) [17] .. وامتد الحال إلى ..

طعام العزاء والجمع :

1 ــ (أي الخميس للمتوفي) و ( تمام الشهر ) (الأربعين) فيتكلف الناس فى إعداد تلك الولائم من تركة المتوفى ، وقد يكون له ورثة أيتام ، ولكن يتكلفون ما لا يطيقون ، يقول الشعرانى : (خوفا من عتب الناس الذين يعزون ويطلعون له التربة . وربما كان ذلك من مال الأيتام أو بعضهم ... وقد يحدث خناق بين المقرئين على الفلوس وانتهاب بعض الطعام ، وأهل الميت يسمعون ذلك) [18].. والظاهر ان ذلك دفعهم إلى اختراع المثل الظريف (موت وخراب ديار )

2 ـ  وحضور الصوفية هذه المناسبات بالذات وضع وظيفي ، فهم ( أهل البركة ) و( اهل الشفاعة ) ومنهم المقرئون والوعاظ والمنشدون . وهنا لا فرق بين جنازة مملوكية أو جنازة شعبية . ويذكر المقريزى وابن الفرات أنه قد ( عُمل عزاء الملك الظاهر بيبرس عند تمام سنة من وفاته بالقرافة، ومدت الأسمطة للقراء والفقهاء ، وفرقت الأطعمة على أهل الزوايا ... وعُمل مجمع أخر بجامع ابن طولون والجامع الظاهري والمدرسة الصالحية ودار الحديث الكاملية والخانقاه الصلاحية والجامع الحاكمي وعمل للتكاررة والفقراء خوان ( مائدة كبيرة ) حضره كثير من أهل الخير )[19] . وكانت الولائم العادية تمتد ثلاث ليالي يجتمع فيها الناس على الطعام )[20]  ( والغالب ان تقام في القرافتين .)[21]

3 ـ هذا ، ويحدث ان تقام الأسمطة بمناسبة الشفاء، يقول المقريزى عن مناسبة شفاء الأمير يلبغا اليحياوى فى عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون  : (فعُمل سماط  لعافية الامير يلبغا اليحياوى ، فيه من الأطعمة والأشربة ما يجل وصفه ، واستدعى السلطان الناصر لحضوره جميع صوفية الخوانق والزوايا ) [22]...

 ولائم النفاس والختان وغير ذلك :

1 ــ عندما ولد الشيخ المعتقد أبو الفتح السكندري (810 ــ 906) صنع والده وليمة بعد تمام أربعين يوما من ولادته ودعا جماعة من الأولياء الصالحين )[23] ..

2 ــ وكانت النساء يحضرن هذه الحفلات وولائمها فتتحول الى مناسبات للرقص واللهو ، وقد وصف الفقيه ابن الحاج ما يقع بهذه الولائم من رقص ولهو وطعام مدة سبعة أيام ، يقول : ( فكل من جاءت تهنى جددن لها اللهو واللعب والرقص والاستهتار ، حتى صار الأمر بينهم كأنه شعيرة من شعاير الدين) [24]  وذلك لأنه مرتبط بالتصوف ،

3 ــ والأولياء الصوفية كانوا الأئمة فى ولائم النفاس والختان ، يقول ابن الحاج : ( وبعض من ينتسب للخرقة ( أى الطريقة الصوفية )  أو المشيخة يفعلون ذلك في بيوتهم ، ويستحسنونه ممن يفعله، بل يجمعون الناس عليه ، ويدعونهم إليه، ويذمون من  يفعل ذلك ولا يدعوهم إليه) [25] .

4 ــ ويقول أيضا : (وليس ما يتعاطون من هذه الأشياء خاصا ما بأمر النفاس ، بل هو عندهم عام في كل امر حدث به سرور ، حتى في الحاج اذا قدم ، فعلوا مثلما تقدم ذكره )

5 ــ وشأن ما سبقها من ولائم فقد كانت هذه الحفلات والولائم مرهقة ماليا بسبب حضور ( الأكابر)  لها ،. فاضطر بعضهم الى الامتناع عن عمل وليمة كختم لولده ، مع ان أصحابه واخواته يطلبونه بالختم ، وذلك يحتاج لنفقة كثيرة )[26] . وعدّ الشعراني من المنن انه لا يدعو أحدا من أكابر العلماء والأولياء في زفة ختان ، إعظاما لهم ، ويقول إنه شعر بالخجل الشديد من رؤيته أحدهم يمشي في الزفة )[27] ــ

6 ــ وعلاوة على الغناء واللهو كان البعض يعتمد على القراء المؤذنين والفقراء الذاكرين والمداحين...)[28] فى هذه الحفلات .

النقوط

وكالموالد إرتبطت الولائم بالنقوط ( أو الهدايا المالية والعينية ) ، فكانوا يتبادلون النقوط فى مناسبات العرس والختان والشفاء من المرض وغير ذلك . والشعراني يفخر بأنه يترفق بأصحابه فلا يعلمهم بما يريد ان يصنعه من وليمة عرس ونحوها خشية ان يكلفهم النقوط ، ويقول إن هذا  خلق غريب في عصره،  لأن بعض الفقراء قد يغضب على كل من لم يساعده في وليمته [29] .. ويفخر الشعراني أيضا بأنه يعطي النقوط لمن رزق بمولود على يد عياله سواء كان عليه دين النقوط أم لا،  ولا يشح على عياله بفلوس النقوط (لأن كله سلف ودين )[30].....

فى الريف

1 ــ وامتدت الولائم للصوفية إلى الأرياف ،وعرف الفلاح المصرى فى الريف بكثرة الكرم وقرى الضيوف، ويقول الشعرانى أنه  ( ربما عجنت المرأة وخبزت وطحنت في اليوم مرتين) . وإعتاد الصوفية القيام بحملات ( سلمية ) تغزو القرى طلبا للولائم ، ويقول الشعرانى أن  مشايخ القاهرة كانوا يذهبون للريف بأتباعهم دون إعلام صاحب البيت ، بل ربما يكون الأخير مستندا إلى شيخ صوفي آخر غير الشيخ الذى جاء لزيارته فيقع الفلاح فى مشكلة : ( فيصير في غلبة بين مراعاة خاطر شيخه وبين القيام بواجب وحق الشيخ الآخر )[31] ..   ..

2 ـ وتعكس الامثلة الشعبية فى العصر المملوكي رائحة الطعام فى الولائم ، فتقول : (كل من دعوته بأكلك كلما نظرك جاع) )[32] .. وبعد العصر قيل : ( غدوة في الصعيد ماهياش بعيد) (العيش من العيش والدناوة ليش ) [33]..

هذا ..والعادة أن الناس هى التى تُطعم الأولياء المقدسين وتنفق عليهم ، والله جل وعلا وحده هو الولى الذى يُطعم ولا يطعم : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) الانعام ). وكل الطعام المقدم للاولياء إعتقادا فيهم وتبركا بهم يحرم أكله لأنه مما أُهلّ لغير الله به ، وخصوصا إذا كان هذا الطعام من حيوان تم تقديمه نذرا وقربانا لقبر مقدس ، أو ضريح ، أو نُصُب ، يقول جل وعلا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ  ) (3)  المائدة )

 



[1]
ــ تلبيس إبليس 206

[2]ــ الوصية المتبولية  10

[3]ــ الجواهر والدرر 44 2

[4]ــ المقريزي  السلوك 3 / 2 / 779

[5]ــ ابن عطاء ، لطائف المنن 124 ، 125

[6]ــ لطائف المنن للشعرانى 196

[7]ــ لطائف المنن للشعراني 195

[8]ــ الشعرانى صحبة الأخيار 119 : 121 ، 138

[9]ــ لطائف المنن 282 ، 332 وتناقض بين الدعوة لإجابة الوليمة أو رفضها : المنن الصغرى مخطوط 37 ، 41 لطائف المنن 192 ، 224 ، البحر المورود 104 ، 115 ، 248 لواقح الأنوار 3 7 ، 374

[10]ــ هز القحوف 250

[11]ــ لطائف المنن 196

[12]ــ الشعرانى قواعد الصوفية 1 / 79 ، الطبقات الكبرى 2 / 76 ، لطائف المن 490 ، آداب العبودية 38

[13]ــ قواعد الصوفية 1 / 128

[14]ــ الطبقات الكبرى للعشرانى 2 / 68 : 69

[15]ــ لطائف المنن للشعرانى 224

[16]ــ لواقح الأنوار 134 : 135

[17]ــ البحر المورود 104 : 105

[18]ــ لطائف المنن 225 ، البحر المورود 115 ، 116

[19]ــ السلوك 1 / 2 / 648 : 649 ، تاريخ ابن الفرات 7 / 115

[20]ــ المدخل 1 / 26

[21]ــ البحر المورود 105 : 106

[22]ــ السلوك 2 / 2 / 491

[23]ــ الكواكب السائرة 1 / 14 : 15

[24]ــ المدخل 1 / 32

[25]ــ المدخل 1 /   91

[26]ــ المدخل 1 / 91

[27]ــ لطائف المنن 326

[28]ــ المدخل 1 / 90 ، لطائف المنن 480

[29]ــ لطائف المنن 251

[30]ــ لطائف المنن 273

[31]ــ لطائف المنن 195 : 196

[32]ــ المستظرف 36

[33]ــ تيمور 368 ، 361 

اجمالي القراءات 7828