تعليم الطفل حقوق الإنسان

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٩ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

أقوم بعمل مأذون رسمى فى المقاطعة التى أعيش فيها ( فيرفاكس ـ فرجينيا ) ،  أتخصص فى تزويج الفتيات المسلمات من أزواج من أهل الكتاب ، وهذا مرفوض فى الدين السُّنى بالذات . هذا مع أنه مباح إسلاميا ، وكتبت فى هذا فتاوى كثيرة . كنت فى جلسة مع أسرة مصرية ، ووجهت بنفس السؤال فى موضوع زواج المسلمة من غير المسلم عموما ، وقلت نفس الآيات القرآنية ، وجاء السؤال المعتاد عن إنتماء الأطفال ، هل لدين الأم أو لدين الأب . ورددت بأن الواجب أن يتعلم الطفل الفطرة السليمة والقيم الاسلامية العليا من العدل والحرية والسلام والاحسان والرحمة وعمل الصالحات وحقوق الانسان ،  ثم هو بعدها يختار طريقه . وقلت إنه فى مجتمع أمريكى مفتوح مؤسس على الحرية الدينية سيختار عقيدته بنفسه الاسلام لأن الاسلام بإختصار هو حقوق الانسان فى التعامل بين الناس ، ولأن الطفل الذى ينشأ فى أسرة تعرف التعدد الدينى وفى مجتمع مؤسس على الحرية الدينية سيقارن بين الأديان والملل والنحل ، وستتكون له خلفية يناقش على أساسها ما تقوله المسيحية فى تأليه المسيح وما يقوله المحمديون فى تأليه محمد ، وما يقوله الاسلام الحقيقى فى إخلاص الدين لله جل وعلا وحده وفى الحرية الدينية المطلقة لكل إنسان فى حياته الدنيا، وما يرتكبه المحمديون من إنتهاك لحقوق الانسان ، وبالتالى فلو إهتم بإختيار دينه فسيختار الدين الذى ينحاز الى حقوق الانسان . وسئلت عن كيفية تعليم الطفل حقوق الانسان ، فتذكرت مقالا قديما لى ، وأنشره هنا ..  

أولا : الشُّـــحُّ  وطبيعة الطفولة

1 ـ  نكتفي من إشارات القرآن إلى مرحلة الطفولة بناحيتين ، الشُّح والفطرة..

2 ــ فالملاحظ أن الطفل يعبر في إدراكه المبكر عن انانية مفرطة بتصور كل شيء ملكاً له بدءاً من الاستحواذ  على امه الى الاستحوذ على الألعاب التي يرفض أن يشاركه فيها احد ، يلعب الكرة ويغضب إذا شاركه فيها أحد ، ثم يتعلم بالتدريج انه يحتاج لمن يلعب معه الكرة فيضطر للمشاركة او ان يشاركه طفل آخر في كرته . وبالتدريج يدرك أن من مصلحته وسعادته فى المشاركة ،  ليس حبا فى الآخرين ولكن حبا فى الذات وإسعادا لها . وعن غريزة الأنانية أو الشُّح المتأصّلة فى النفس البشرية  يقول جل وعلا : ( وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ) النساء:128 , وعليه فالشح غريزة فى داخل النفس البشرية ، فالشُّحُّ  بلا تهذيب هو دستور التعامل بين حيوانات الغابة ، وهو أساس البلاء في المجتمع البشرى وعلى مستوى العالم ، لذا كان هدى القرآن يقول (وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)( النساء ) أي على الإنسان أن يتعلم الإحسان والتقوى بديلاً عن الأنانية والشح إلى أن يصل إلى مرحلة الإيثار ، أي أن يؤثر الآخرين على نفسه وهو محتاج ، ولذلك ما وصل إليه بعض السابقين من الصحابة الأنصار ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) الحشر :9 )، ولكن بالتربية والتعليم يمكن ان تتحول بالإحسان والتقوى إلى إيثار ، وبذلك يتخلص الإنسان من ذلك المرض ويقى نفسه شر الشح. ومرض الشح ــ او الأثرة او الأنانية ــ سبب المشاكل بين الزوجين ، وبين الأخوة ، وبين الأقارب وبين أفراد المجتمع في الجيرة والعمل وشئون المال والاقتصاد والسياسة ، وبين الدول وبعضها البعض. ومرض الشح ــ في النهاية ــ هو أعدى أعداء حقوق الإنسان ، وهو أعدى أعداء التنمية الحقيقية...

3 ــ ومن هنا تبدو الأهمية القصوى لوقاية النفس من داء الشح منذ الطفولة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى الدواء الناجح في قوله تعالى (وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي ان علاج الشح بتربية الإنسان على الإحسان والتقوى ، أو بتعبير آخر تنمية عوامل الخير او الفطرة النقية في داخل النفس لكي تتغلب على عوامل الشح والفجور .. وهذا يدخل بنا إلى الناحية الأخرى التي أشار إليها القرآن في مراحل الطفولة ، وهي ناحية الفطرة السليمة..

ثانيا : الفطرة وطبيعة الطفولة :ــ

1 ــ يؤكد رب العزة انه جل وعلا خلق النفس البشرية على أساس الفجور والتقوى أو الشُح والتقوى ، ثم تقوم التربية بتغليب احد العنصرين على الآخر ، والتربية هنا ليست مجرد تأثير المجتمع ، ولكن يتفاعل معها اختيار الفرد وإرادته ، يقول تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا   قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا   وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس:7 : 10 . فالفرد يفلح إذا زكى نفسه بالتقوى ، ويخيب إذا أضاع تقواه وفطرته ونمّى الشح والطمع ، وإذا سادت قيم التطاحن المادى والصراع حول حطام الدنيا تحول المجتمع إلى غابة يتصارع فيها الأقوياء وتضيع فيها حقوق الضعفاء ، أو بتعبير عصرنا الراهن تتسع فيها انتهاكات (خروقات) حقوق الإنسان ، والسبب هو غلبة الشح في النفس على الاحسان ، او غلبة الفجور على التقوى .. وكما تساعد التقوى والإحسان على الرقي بالإنسان وتقى المجتمع شر الأزمات فإن غياب الاحسان ينذر بانفجار المجتمع من الداخل ، ولعل ذلك ما أشار إليه قوله تعالى (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)البقرة:195 ..

2 ــ ذلك ان حقوق الإنسان ليست هي فقط تلك الحقوق التي تلهث ورائها نخبة المثقفين مثل حق المشاركة وحق التعبير ، وإنما تمتد إلى حقوق اجتماعية اقتصادية يتمتع بها الفقراء والجوعى بحقوقهم في ثروة المجتمع ،  وهنا نذكّر ما تكرر في القرآن من حديث عن "حق" السائل والمحروم و "حق" المسكين وابن السبيل ....الخ... والانسان لو تمتع بضمير نقى مُحب للخير فهو يدرك حقوق الآخرين عليه ، من المساكين والضعفاء والمحرومين . وهو بهذا يستجيب للفطرة النقية التي فطر الله تعالى الناس عليها .

3 ــ يولد الفرد على هذه الفطرة ، لا يعلم شيئا عن أديان مجتمعه الأرضية وآلهته المزيفة . ويبدأ الطفل ــ مدفوعا بفطرته ــ فى طرح الأسئلة الوجودية الكبرى التى شغلت ولا تزال تشغل الفلاسفة والحكماء عن ماهية الخلق وماهية الخالق ، ولماذا جئنا والى اين سنذهب . والاجابة هى نفسها الفطرة المودعة فى النفس البشرية ،والتى نزلت بها الرسالات السماوية ، وهي الإيمان بالله الذي لا شريك له ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد .. وذلك هو معنى الدين الحنيف (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...) الروم:30. والطفل يولد بفطرة نقية بيضاء لا تعرف تقديس البشر أو الحجر ، ثم يتعلم من المجتمع ذلك كله مرتبطا بالفكر الديني الشعبي المتوارث وبالقيم الاجتماعية السائدة ، وبغلبة غرائز الجسد تتأجّج فى النفس غريزة ( الشُّح ) فينطلق الفرد باحثا عن إشباع غرائزه وشهواته ، متصارعا مع غيره ، ويظل يدور فى هذا الصراع . وتحدث له كارثة وقد يتعرض للغرق ويُشرف على الموت ، ويكون جسده ـ مادة الشهوات وأساس الشح ـ على وشك الموت والتدمير ـ عندها فقط تصحو فى نفسه فطرته المنسية فيهتف مستغيثا بربه جل وعلا راجيا النجاة . وتكرر التذكير بهذا فى القرآن الكريم .  والعادة أن الانسان بعد ان ينجو من محنته يعود الى نفس الشح ودائرة الصراع ، ينغمس فيها الى أن يصحو عند الموت ، فيصرخ ــ حيث لا يسمعه أحد ـ يطلب فرصة أخرى ، بلا فائدة .

4 ــ ومن هنا تبدو أهمية التأكيد على تنمية الوعي الديني والثقافي ، وأن يبدأ ذلك الوعي بتربية الطفل على أساسي الفطرة السليمة والإحسان في العمل والتعامل ، وبقدر ما تزداد الفطرة السليمة وملامحها من التقوى والإحسان بقدر ما تتزكى النفس وتتخلص من الفجور والشح والأثرة والأنانية ، وبقدر ما تسود قيم المجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان ، وفي هذا المناخ تزدهر التنمية ويزداد الدخل القومي والفردي..

ثالثا : الأسس القرآنية في تعليم الطفل حقوق الإنسان :ـــ

1 ــ يمكن إيجاز هذه الأسس في كلمة واحدة هي القسط أو تمام العدل . والقسط هو الهدف من ارسال الأنبياء وانزال الكتب السماوية ، يقول جل وعلا :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...) الحديد :25 ) أي أن إقامة الناس في أي مجتمع للقسط والعدل هي إقامة لشريعة الله في أي زمان وأي مكان، وبذلك يكون هذا المجتمع ودولته الحقوقية دولة مسلمة فى مجتمع مسلم .

2 ــ وللقسط ثلاث درجات حسب التعامل مع الله تعالى ومع الناس ومع البيئة..

2 / 1 : فالقسط مع الله يكون بالإيمان به وحده إلاها لا شريك له ولم يلد ولم يولد .. ومن هنا فإن الاشراك بالله تعالى هو ظلم عظيم لله تعالى ، أن يخلقك ويملكك وتعبد معه إلاها آخر ، يقول تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان :13 ، وهذه القضية يختلف فيها البشر ، ومرجعها على الله تعالى يوم القيامة ليحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون..

2 / 2 : والقسط مع البشر يكون بالتعامل معهم جميعا بالعدل ، سواء كانوا من الأصدقاء والأقارب أم من الخصوم والأعداء ، وهذا ما تردد في القرآن الكريم (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)الأنعام :152 ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) النساء: 135 ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة :8 ، وفي التعامل التجاري (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) الأنعام :152 ، وفي كتابة الديون ( ... وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ .......  فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ....) البقرة:282  ، وفي التعامل الدولي مع الخصوم (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة :8 ، والقسط في الحكم بين الأقوام الآخرين (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ) الشورى :15 ، والقسط في الحكم بين دولتين متصارعتين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ) الحجرات:9 ..

 وإذا روعي القسط في التعامل مع الله تعالى فلا نخشى سواه ولا نقدس غيره قلت مساحة الظلم والشُّح وتضاءلت انتهاكات حقوق الإنسان وانصرف الإنسان إلى العمل والإنتاج واثقاً من حصوله على استحقاقاته على قدر اجتهاده وإخلاصه . وإذا روعي القسط في التعامل الاجتماعي على كل المستويات السياسية والاجتماعية والرسمية والاقتصادية عاش المجتمع في مأمن من الثورات والخروقات والانتهاكات ، وتضاءلت المشاكل ، وأيقن كل من تسول له نفسه بأن ينتهك حقوق الاخرين أن الدوائر ستدور عليه مهما تحصّن بأسباب السلطة والنفوذ.

2 / 3 : وبعد القسط مع الله تعالى ومع الناس نأتي لمراعاة القسط مع البيئة . وهنا نتوقف مع إحدى اعجازات القرآن الكريم  ، وهي كلمة " الميزان " التي تعنى في ثقافتنا المعاصرة (التوازن) والميزان الدقيق هو مقياس العدل والقسط ، والميزان أو التوازن هو أساس خلق الكون وأساس الرسالات السماوية وهو أيضا أساس الحساب يوم القيمة ..

3 ــ وإليكم بعض التفصيل :ــ

 3 / 1 ــ عن خلق السماوات والأرض وفق ميزان دقيق يقول تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ   أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ  وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)الرحمن : 7 : 9 ،  فالسماء وهي كل ما يعلونا ويحيط بكرتنا الأرضية تقوم على أساس دقيق من التوازن ، وعلينا ألا نطغى على ذلك التوازن ، سواء في الغلاف الجوي او في الذرات الكيميائية للمواد والعناصر أو في هندسة الجينات الحية ، وإلا فإن هذا الطغيان على ذلك التوازن الطبيعي يفتح الباب للفساد ، كما أن الخروج على ميزان الشرع الإلهي في التعامل مع الله تعالى او في التعامل بين الناس يوقع الفساد في الأرض ، فالفساد هو قرين الخروج على القسط والميزان في التعامل مع البيئة أو مع الناس أو مع رب الناس...

 3 / 2  ـ ان الميزان الإلهي في خلق المادة تجده في أوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيميائية بنفس ما تجده ف حسابات الفلك والكواكب والنجوم ، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل انيشتين إلى نظرية النسبية قبل أن تتحقق القنبلة الذرية .. وعن طريق الحسابات الرياضية يتوصل علماء الفلك إلى اكتشاف بعض الكواكب والأقمار والمجرات قبل أن تصل إليها المراصد ..والله تعالى أشار قيام النظام الكوني الموزون على أساس الحسابات ، فقال ( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يونس:25 ، وقال عن التقويم القمري والتقويم الشمسي (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) الأنعام :96 ، وقال عن الميزان المحسوب في العناصر والمواد (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحجر 19 ، 21 ..

 3 / 3  ــ وهذا الميزان الدقيق في المخلوقات الحية وغير الحية يستلزم عدم المساس به حتى لا يفسد الميزان او التوازن او النظام في الذرة والخلية والغلاف الجوي ، ومن أجل هذا فإن الله تعالى خالق هذا الكون المتوازن أنزل أيضا كتبا سماوية فيها الميزان ليهتدي بها الناس في تعاملهم مع الله تعالى ومع انفسهم ومع البيئة (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد :25 ، فعن طريق الكتاب وهو ميزان التعامل يعتمد الناس القسط في التعامل مع الله تعالى ومع انفسهم ومع ما يحيط بهم من خلق الله تعالى ، وكان القرآن آخر الرسالات السماوية ، ونزل أيضا ميزانا ، قال تعالى عنه (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)الشورى :17 ..

 3 / 4  ــ ثم عندما تقوم الساعة يتم وزن الأعمال البشرية بالقسط وعلى أساس الذرة او أقل منها يقول تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء: 47 ..

 3 / 5  ــ وتوزن الأعمال او كتب الأعمال لكل إنسان في مقابل الكتاب السماوي الذي كان هو الميزان في الدنيا الذي ينبغي ان يحتكم إليه الإنسان في حياته الدنيوية ويزن به أموره ، يقول تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ  وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) الأعراف 8 : 9 . فآيات الكتاب الحكيم هي الميزان في الدنيا وهي الكفة في ميزان الحساب الأخروي في مقابل كتاب الأعمال في مقابل كتاب الأعمال ، وكل ذلك بالقسط ، في الدنيا وفي الحساب الأخروي.

 3 / 6  ــ الفساد هو عكس القسط ..وإذا تحكم الفساد فى علاقات البشر وانتشر الظلم وضاعت حقوق الإنسان نشبت الثورات والفتن والقلاقل ، ولابد من ان تتأثر  البيئة بذلك ، فالذي يسرق يسعى إلى حرق المكان ليعمى آثار جريمته ،  والحريق يؤذي البيئة ،  ولذلك يرتبط موسم الجرد والمراجعة الحكومية للمخازن بشيوع الحرائق التي تنشر بدورها التلوث ، كما ترتبط الثورات والفتن والحروب بتدمير الأخضر واليابس خصوصا مع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ، وحدث ذلك في فيتنام والبلقان وحرب الكويت والخليج وسوريا والعراق وليبيا والسودان ..الخ .. كما ان الأثرة والأنانية والجشع لدى الرأسمالية الحديثة يدفعها الى تعضيد الحكام المستبدين واثارة الحروب لكي تجرب الجديد من اختراعاتها في الأسلحة ، ويضاف إلى ذلك ما حدث من ثقب الأوزون بسبب الجموح العلمي والصناعي ، وما يخشى عليه من التلاعب في الهندسة الوراثية وعمليات الاستنساخ ،  وهو فضاء مجهول لا ندري عنه شيئاً ... وفي النهاية يدفع البشر فاتورة هذا الفساد تلوثاً في البيئة وفي الأخلاق وفي العلاقات، وكل ما أسلفناه عن أثر الفساد جاء في القرآن الكريم في آية معجزة كأنها نزلت اليوم ، يقول جل وعلا : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم :41..

 3 / 7 : والقرآن الكريم يجعل ميزان  القسط متناهي الحساسية ، بمعنى ان القسط المطلوب هو بنسبة 100% فإن تراجعت النسبة إلى 99,99% أصبح الحكم ظلما .. نفهم هذا من التفرقة اللغوية الدقيقة بين كلمتي "قاسط"  و "مقسط"  فالقاسط هو الذي يحكم بالعدل معظم احكامه ، ولكنه يحكم بهواه ولو بنسبة ,5% والله تعالى يقول عن القاسطين ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) الجن : 15 ، اما المقسط فهو صيقة مبالغة من الذي يقوم بالقسط ، أي الذي يراعي القسط دائما أي بنسبة 100% ، وقد تكرر في القرآن ثلاث مرات قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) المائدة 45 ، الحجرات 9 ، الممتحنة 8 ..

3 / 8 : وإذا كان القسط هو أساس حقوق الإنسان ، فإنه على قدر مراعاة حقوق الإنسان يكون القسط ويكون الالتزام بشرع الله تعالى ، ويكون أيضا مستوى السلام الاجتماعي والازدهار الاقتصادي..

رابعا : رؤية قرآنية في طرق التربية للنشء :ــ

1 ــ الطفل يعرف بنفسه انه محتاج للأطفال الآخرين كي يشاركهم اللعب ، وهو يتعلم منهم أكثر مما يتعلم من غيرهم ، وهو احرص على مشاركة أقرانه في اللعب ومن اللعب يتعلم الكثير ، وأهم ما يتعلمه ضرورة التخلي عن الشح والأثرة حتى يتكاثر أصدقاؤه ، إلا ان تأصيل غريزة الشح لديه قد يرجع في الأغلب ــ إلى سوء التربية او التدليل الزائد بحيث يتعود على الأخذ دون العطاء ، وعلى اية حال فإن الأسرة هي المعلم الحقيقي للطفل في موضوع التخلص من الشح والبخل او الكرم والإحسان ..

2 ــويبقى الجانب  الآخر وهو التقوى والقسط ، وهنا يدخل دور المدرسة والمسجد والأسرة معاً. ويتحدد الدور هنا إما بإضافة المؤثرات الاجتماعية والدينية ، ومنها: إمّا  يتعلم الطفل تقديس غير الله وما يتبع ذلك من عدم القسط في التعامل مع الله ومع المجتمع ومع البيئة ، واما ان يتعلم القسط منذ البداية ويتحرى العدل في أقواله وأفعاله ، وهنا يكون من السهل تعليم الطفل ، فالطفل هنا له فطرته النقية البيضاء ، وله أسئلته الفلسفية الباحثة عن ماهية الوجود والخالق جل وعلا ، وعلاقة المخلوق بالخالق جل وعلا ... وهنا يمكن تنوير الطفل بالحقائق القرآنية ، وهو سيحسن استقبالها ويسهل على عقله البسيط أن يستوعبها لانها بسيطة في حد ذاتها ، فالخالق هو وحده المستحق للتقديس لأنه وحده الخالق ، وما عداه من المخلوقات كلها تحتاج للخالق ، لذا يجب ان نعبده وحده ونقدسه وحده، وليس القسط في أن نعطى التقديس الواجب لله وحده إلى غيره من المخلوقات ، كما انه ليس من القسط أن تعطي لنفسك حقوقا تزيد على الأخرين او أن تسلب حقوق الاخرين ، بل إن القسط أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وأن تعامل الناس بما تحب ان يعاملوك به ... وكل هذه بديهيات بسيطة يرتاح إليها عقل الطفل ... وهذا هو معنى ومبنى القسط في القرآن ..

3 ــ إلا ان للقرآن وسائله في التعليم يستفاد بها في تربية الطفل وتعليمه ..

3 / 1ــ منها التعليم الحسي :ــ أي بالتجربة العملية ، بشرح قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ  أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ) الأعراف 194 : 195) أي فالذين يعبدون القبور المقدسة ويعتقدون فيها النفع والضرر يوجه إليهم هذا الخطاب بطلب العون من تلك العظام الميتة ... وهذا هو الأسلوب الحسي التجريبي في التعامل بالقسط مع الله تعالى بعبادته وتقديسه وحده ..

 3 / 2 ــ ومنها الأسلوب العقلي البسيط :ــ  بشرح قوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) الأنبياء:22 )، وعقل الطفل يستوعب ذلك ، ويستوعب بالتالي طاعة أوامر الله تعالى بالقسط ومنع الظلم ..

3 / 3 ــ ومنها الأسلوب القصصي الوعظي :ــ بشرح قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) النحل : 66ــ) ، وأمثله أخرى كثيرة في القصص القرآني تحض على الخير وتنهى عن الشر ويمكن استعمالها في ثقافة حقوق الإنسان والدعوة للعمل الصالح النافع للمجتمع والناس..

اجمالي القراءات 8841