أثر التصوف فى الأدب المملوكي : فى النثر والقصّة

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٣ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

 أثر التصوف فى الأدب المملوكي : النثر والقصّة .

مدخل :ــ انعكس تأثير التصوف المملوكي على الحياة العلمية فأثر في المستوى العلمي ومسيرة بعض العلوم ، وأضعف التأثير الإيجابي لجهود الصوفية في مجال التعليم . ولكن يبدو ان تأثير الصوفية في الأدب يميل إلى نوع من التوازن ، فالنثر الصوفي أشاع دفئا وحرارة في نفس الوقت الذي تأثرت فيه الكتابة بالجمود العلمي والعقلي فقبعت تحت سلاسل المحسنات اللفظية دون معنى جليل أو فكرة هامة. وادعاء الكرامات أمر ممقوت دينيا إلا انه رب ضارة نافعة كما يقولون فمن هذا الطريق وجدت القصة الصوفية القصيرة والطويلة وأثر التصوف في الروايات ــ الشهيرة . والشعر المملوكي أثرى بالتصوف في اغراضه من حب الهى ومديح نبوى وابتدع أغراضا جديدة أهمها دخول الصراع الفقهي الصوفي إلى ميدان الشعر وما أثاره من فريحة وتجويد لدى الفقهاء ، فأشاع ذلك كله حرارة وصدقا شعريا بين الخصوم . يقابل ذلك انعكاس الحياة العقلية والثقافية الهابطة على بعض الشعراء خاصة في أواخر العصر وانتشار التصوف فقبعوا تحت التقليد وأثر فيهم الجهل ..والى بعض التفاصيل ، مع التذكير بأننا نتعرض لرءوس موضوعات تصلح لأبحاث متعمقة فى تحديد وتفصيل وتفريع أثر التصوف فى تلك النواحى ....

أثر التصوف في النـثــر : ...

 "السجع" أهم ميزة في الأسلوب النثري للعصر المملوكي ، والسجع يعبر عن ملمح أساس فى الدين الأرضى ، وهو التدين السطحى بدون إعتبار للتقوى القلبية . ساد هذا فى الأدب منذ سيطرة الحنابلة ودينهم السُّنى فى العصر العباسى الثانى ، فأضحى الأدب والشعر ضحية الاهتمام بالمظهر ( اى المحسنات اللفظية من سجع وتورية وجناس وطباق ومقابلة ) على حساب المضمون، أى إختنق المعنى بسلاسل السجع والمحسنات اللفظية، ولم يعد مُهمّا ما يقال ، بل المهم هو السجع والتورية و الطباق والمقابلة .

على أن السجع بالذات هو الذى تميّز وساد ، حتى فى عناوين معظم المؤلفات ، ومثلا : تاريخ ابن حجر الذى يؤرخ فيه من سنة مولده جعل عنوانه ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) وجاء تلميذه الصيرفى فكتب على منواله يؤرخ لعصره تحت عنوان ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) ، وليس لكلمة الهصر معنى محدد ، أى جاء بها لمجرد السجع . كان هذا ساريا فى العصر العباسى الثانى ، ثم ساد وسيطر فى العصر المملوكى ، وظل حتى مطلع العصر الحديث ، ونتذكر كتاب رفاعة الطهطاوى ( تخليص الابريز فى تلخيص باريز ) . وفى أواخر العصر المملوكى صار السجع مقياس الفصاحة ، يقول السخاوى عن احد الكتاب : ( أتى بما يٌستظرف من السجعات المتوالية والكلمات المنتظمة [1] . ويقول أبو المحاسن عن كتاب أرسله ابن عثمان : وأظن أن منشئه غير كاتبه لأنه ارتج في كثير من السجع فكتبه غير محرر فتعب واتعب )[2] . وقد عد بعض الباحثين من خصائص الرسائل والدواوين : الإكثار على قلة المعاني والتزام السجع الطويل الفواصل والاحتفال بأنواع البديع وكثرة الحشو اللفظي والبديعي وكثرة الألقاب والأدعية ) [3] .

وبالسجع نشر التصوف نوعا جديدا من النثر ، هو تلك الأوراد الصوفية التي تفيض بالتضرعات الحارة والابتهالات  [4] . كما يبدو أثر التصوف في افتتاح المكاتبات والمحاضر بقول الكاتب عن نفسه ( الفقير إلى الله فلان ) [5] ويقول ابن حجر (فسأل السلطان عن الفقير الى الله تعالى كاتبه القاضي المالكي عن حقيقة ذلك ) [6] . وتردد ذلك في كتب التاريخ الأخرى ، يقول القاضى المؤرخ العينى عن نفسه : (  والعبد الضعيف كان يتيما في تلك الأيام بمدينة عين تاب ) وكرر هذا الوصف.  [7]  . وقال آخر  عن نفسه  فى مقدمة كتابه : ( قال العبد الفقير إلى الله تعالى مؤلف هذا التاريخ وجامعه )[8] وفي كتب التاريخ المتأخرة في العصر كان المؤرخ يقول ــ ( أو كما قال) تعقيبا على لفظ البركة او ذكر الكرامة [9]. كما أن الانحلال الخلقى الذى اشاعه التصوف وجعله دينا إنعكس على الأدب المملوكى شعرا ونثرا ، بألفاظ خارجة بذيئة تعود الناس على قولها وسماعها بحيث لم تعد عيبا ، بل ووصلت الى تأليف مؤلفات خاصة بها ، وجعل عنوانينها بألفاظ خارجة . وسبقت الاشارة لذلك .

هذا .. وهناك مؤلفات وأبحاث فى الأدب المملوكى تخصّص بعضها فى النثر . ولذا نُعرض عن هذا الموضوع لنلتفت الى ناحية جديدة فى النثر لم تتوجّه اليها إهتمامات الباحثين ، وهى القصّة فى العصر المملوكى ، وتأثير التصوف فيها .

أثر التصوف في القصة في العصر المملوكي : ..

1ــ وظهرت "القصة " فى أقاصيص تسرد الكرامات الصوفية ، وكانت هذه الأقاصيص إحدى وسائل الصوفية في خدمة اغراضهم ، لذا كانت تحتشد بالحوار العاطفي الملتهب عن الوجد والأشواق ، وتتخلله الاغماءات وربما موت البطل وجدا وعشقا ، فيتأثرالقاريء وجدانيا وقد تنهمر دموعه ويتشرب أراءهم في الاتحاد أو يعطف على متصوفة أخرون من أصحاب الشطح ، ويصدق أن شطحهم كان بقوة الحب المتمكن في نفوسهم  [10]  ، على أن الاهتمام الأكبر للقصة الصوفية كان إرهاب المنكرين بشتى الوسائل  [11] . هذا فى القصة القصيرة التى تكتمل فيها عناصر القصة بالمفهوم الحديث .

ونفس الحال مع القصة الطويلة، أو الرواية فى عصرنا ، مثل رواية فاطمة بنت برى مع البدوى،والتى أُستكملت فيها شخصية البدري فيها كفارس تشتهيه النساء خاصة وان البدوي لم يتزوج ولم ( يتسر ) أى لم تكن له جوارى وسرارى ملك اليمين كالشائع فى عصره. ويرى بعضهم أن تلك القصة قد وضعت لتغطية فشل البدري في رحلته للعراق  [12]...

2ــ ومن عوامل اجادة القصة الصوفية الفراغ والخيال وحديث النفس والوجدان بالإضافة للحرمان، فأبدع اليافعي في كتابه ( روض الرياحين ) قصصا زعم حدوثها ، وهى من وحى خياله ، يصف فيها مدن الأولياء ( السحرية ) ، و يقول عن إحداها "فأقمنا بها أربعين يوما ليس لنا فيها من عمل إلا الصلاة والأكل " ) [13] . ولقد كان للقصة في العصر المملوكي خصائصها الفريدة  [14]  وشخصيتها التي أثرت على مجرى القصص في ذلك العصر ، الذي كان فيه للقصّاص أو الراوى الشعبى شعبية واسعة بين الناس في مجتمع سادت فيه البطالة . وكان القصّاص المصري أبرع صناعة وأرفع مكانة وأتسع خياله بعد نكبة بغداد والحروب الصليبية بقدر ما ضاق عقله وضاع علمه وأصبح أسيرا للتصوف ــ فاعتمد في السرد على الخوارق وحكاية الكرامات ومناقب الأشياخ والغيبيات والخرافات التى تشُدُّ إهتمام السامع والقارىء . لذا قيل أنه لم يتقيد بقواعد المنطق او الخُلق او الوقائع التاريخية الثانية فاصطنع اللهجة الصريحة والألفاظ القبيحة ، [15] وكان القصص من عمل الوعاظ الصوفية يمارس في المؤسسات الصوفية ولدى الأولياء منهم كما في كتب المناقب عادة .وما وصلنا من قصص ترجع للعصر المملوكي يبدو أثر التصوف فيها ، فقصة بيبرس فيها إضافات غريبة وخرافات خارقة للعادة، [16] .

3ـ وقصص (ألف ليلة وليلة ) تحتاج إلى وقفة لتبين أثر التصوف فيها. ورغم أنها كتبت بعد انتهاء العصر المملوكي أي في سنة 933 إلا أنها ذخيرة حية لحياة المجتمع المصري الذي استمر تأثيره بالتصوف على ما بعد العصر المملوكي ــ وقد تداولتها الألسن عهدا طويلا ، ومن الواضح ان جامعها مصري أخذ صيغتها النهائية من مجتمع القاهرة [17] ، الذي صار أسير التصوف. ففي الليالي فصل كامل بعنوان حكايات تتضمن عدم الاغترار بالدنيا والوثوق بها وما شابه ذلك ، [18] وفي باقي الحكايات يمثل الخضر دورا هاما في انقاذ المؤمنين ويدعو غيرهم للإسلام ، وإبراهيم الخواص ـ وهو  اسم ولى صوفي ــ انقذ ابنة ملك كافر وحُجب عن العيون بالكرامة ، والحاكم يخبر وردان الجزار بالكشف الصوفي بما فعله في الغيب . هذا عدا زيارة قبور المشايخ تبركا كما فى قصة دليلة المحتالة . وظهر عبد القادر الجيلاني وبركة السيدة نفيسة في قصة علاء الدين الشامات والذي انجته تلك البركة من عدو كاد يقتله ، وفتن قاصّ الليالي بما يحض على الزهد بنوع خاص ، فأنشأ على منواله قصة طويلة تتضمن الكلام عن قماقم سيدنا سليمان ،وأضاف اليها قصة مدينة النحاس التي تتلخص في انها مواعظ سردت تقريريا في فناء الحياة الدنيا وان الزهد خير زاد في الحياة.....

4ــ وكتاب اليافعى ( روض الرياحين فى حكايات الصالحين ) هو المصدر الصوفي الذى استوحى منه مؤلف ( الف ليلة وليلة ) ، ومنه مثلا حكايات عن الجان وعلاقة الأولياء بهم ومدن الأولياء وأسفارهم وقبر سليمان وجنوده من الجن والطير وذخائره وخاتمه وبساط بلقيس وعرشها وسجن إبليس بل ووردت قصص عن هارون الرشيد وعلاقته بابنه الزاهد وعلاقته بمجذوب يسمى بهلول ) [19].  ويذكر ان اليافعي صاحب روض الرياض قد جمعه من كتب صوفية سابقة  وأضاف الى ما جمعه وتوفي 768  [20] ، أي قبل كتابة الليالي بأكثر من قرن ونصف، فأخذ عنه وعن غيره كاتب الليالي وقلده حتى في ايراد الاشعار في غضون حوادث القصص. تلك الأشعار التي يبدو التشابه واضحا بينهما .وندخل على الشعر .



[1]
ــ  الضوء اللامع 4 ــ 79

[2]ــ حوادث الدهور 2 ــ 263

[3]ــ حمودة : صفحات من عصر السيوطى 120

[4]ــ محمد فهمى عبد اللطيف : البدوى 14

[5]ــ قوات الوفيات 1 ــ 453

[6]ــ أبناء الغمر 3 ــ 166

[7]ــ عقد الجان حوادث سنة 792 لوحات 398 ، 372 ، 407 ، 408 ، 470 ، 441

[8]ــ تاريخ سلاطين المماليك نشر زيزسين 122

[9]ــالتبر المسبوك 271 ، وغيرها ..

[10]ــ راجع نماذج في روض الرياحين 21 ، 22 ، 36 ، 37

[11]ــ راجع نماذج قصصية من مناقب الحنفى 403 : 408 مناقب الرفاعى 17 : 19 ، الجواهر الأحمدية 72 : 75  ، لواقح الأنوار 99 : 101

[12]ــ عاشور: البدوى 68

[13]ــ روض الرياض 410  وانظر أيضا 185 ، 186

[14]ــ للباحث بحث في خصائص القصة الصوفية في العصر المملوكي رأينا إهماله اختصارا ولأنه لا يدخل في صلب الموضوع ..

[15]ــ الزيات : دائرة المعارف 2 ــ 545 ــ 546

[16]ــ دائرة المعارف 4 ــ 376

[17]ــ أحمد أمين : ضُحي : الإسلام 4 ــ 205 ــ  سيرة القاهرة لين بول 219 ــ دائرة المعارف 2 ــ 547 : 548

[18]ــ  ــ ألف ليلة وليلة طــ بولاق 2 ــ 388

[19]ــ راجع كمتال : صفحاته : 29 ، 30 ، 204 : 207

[20]ــ راجع 3 ، 4  من روض الرياحين 

اجمالي القراءات 11471