بيوت العبادة / بيوت الانحلال
ج3 / ف 3 : المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف: بؤر الانحلال الدينية

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٩ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف

المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف : بؤر الانحلال الدينية / بيوت العبادة / بيوت الانحلال  

بؤر الانحلال الدينية  دور العبادة فى بؤر الانحلال الخلقى ، أماكن دينية للانحلال الخلقى: الزوايا ،الأضرحة ، الخوانق الصوفية، الجوامع المشهورة . تبادل الأدوار بين بيوت العبادة وأوكار الانحلال.)

بيوت العبادة  داخل مناطق الانحلال الخلقى :

 1 ــ  وقد يبدو غير واضح  أثر التصوف فى الانحلال الخلقى على النيل . هذا إذا تجاهلنا الصبغة الدينية فى الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف . إلا أن حركة الحياة على النيل فى العصر المملوكى عبرت عن جعل الانحلال طقسا دينيا ، ففى بؤر الانحلال على شاطىء النيل أقيمت دور العبادة كما أن مؤسسات التصوف من زوايا وأضرحة ومساجد مورس فيها الانحلال .

2 ــ وقد اشتهرت باب اللوق ببيع الحشيش وتعاطيه. وفى باب اللوق أقيمت زاوية اليونسية من الفقراء الأعاجم الذين نشروا الحشيش ، كما اشتهر فيها جامع الطباخ [1].

 3 ــ وحين انحسر النيل وأظهر ساحل بولاق وأصبح مسرحا للانحلال لايمكن وصفه ولا يتأتى شرحه كما يقول المقريزى فإن العمران اتسع للمساجد ودور العبادة ، كما اتسع للعصيان وعبادة الشيطان ، ففى بولاق جامع الخطيرى ، وكان مكانه قبل ذلك دارا للفسق عرفت ( بدار الفاسقين لكثرة مايجرى فيها من أنواع المحرمات ) ، ثم هدمت وأقيم مكانها جامع الخطيرى فلم ( يزل هذا الجامع مجمعا يقصده سائر الناس للتنزه فيه على الناس ويرغب كل أحد فى السكنى بجواره ) وسماه منشئه باسم( جامع التوبة) ثم هدم بعد ذلك المسجد . وأطلق اسم ( جامع التوبة) على مسجد آخر بجوار باب البرقية فى خط بين السورين ( كان موضعه مساكن أهل الفساد).

4 ــ  وفى بولاق المشهورة بالفسق تكاثرت فيها أيضا الجوامع وبيوت العبادة . منها جامع الأسيوطى ( بطرف جزيرة الفيل فى بولاق) وأنشىء حين عمرت بولاق ، وأنشأ ابن صارم شيخ بولاق جامع " ابن صارم"  ، وأنشأت الست مسكة جامعا لها على الخليج الكبير ، بالإضافة إلى جامع الباسطى ، ورباط داود بن إبراهيم ، وزاوية إبراهيم ابن الصائغ التى تطل على بركة الفيل وكان شيخها( عز الدين العجمى ت 723 يعرف بصناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد)

5 ــ  وعلى مقياس النيل أقيمت زوايا كزاوية ابن منظور وزاوية القصرى والأساسى والركراكى وجامع أحمد الزاهد الذى كان مشهورا بتخصصه فى وعظ النساء.

6 ــ وعلى الخليج الذى يصل مابين النيل ببولاق وأرض الطبالة أقيمت مؤسسات صوفية للعبادة ،  كان أشهرها زاوية أبى السعود بن أبى العشائر على حافة الخليج خارج القنطرة،  وإلى جانبها زاوية الحمصى ثم زاوية الجاكى وزاوية الظاهرى ثم خانقاه ابن غراب ..

7 ــ  ثم إذا اقتربنا من أرض الطبالة وجدنا جامع الكيمختى المعروف بجامع الجنينة (على شاطىء الخليج من جملة أرض الطبالة ) ثم إذا توقفنا عند بركة الرطلى عاصمة الانحلال الخلقى رأينا المقريزى يقول عنها : ( وفيها عدة أسواق وحمام وجوامع تقام بها الجمعة . وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع ، وكثرت الرغبات فيها. ) ، ويتحدث ضمن الجوامع عن جامع بركة الرطلى ويربط بين بداية تعميرها وإنشاء جامعها الصوفى بضريح الشيخ ابن عبد ربه المقصود بالزيارة يقول ( لما عمرت بركة الرطلى أنشىء هذا الجامع ،  وفيه قبة تحتها قبر يزار ، وهو قبر الشيخ خليل بن عبد ربه.) . وكان الذى تولى عمارة هذا الجامع أحد الوزراء الظلمة الذى (أخذ الأموال بأنواع الظلم ) على حد قول المقريزى.            أى اقترن الانحلال الخلقى بالظلم وتقديس الأولياء ، ثم يقول المقريزى عن جامع بركة الرطلى ( وهذا الجامع عامر بعمارة ماحوله) وهى إشارة لطيفة تربط عمران الجامع باستمرار تواجد الناس فى بركة الرطلى وما حولها من انحلال خلقى .  وذكر المقريزى جامعا آخر فى بركة الرطلى هو جامع صاروخا[2].

8 ــ وبعد عصر المقريزى يذكر ابن إياس أن الولى الصوفى المشهور الدشطوطى أنشأ له جامعا فى أرض الطبالة ، وأن السلطة المملوكية عملت بإشارته وفتحت الخليج ليصل بالبركة وتسير فيها المراكب[3].

9 ــ لقد كان انشاء المؤسسات الدينية الصوفية أكبر دليل على الأنغماس فى الانحلال الخلقى ليس فقط للتكفير عن الذنوب والتماس شفاعات الأولياء ولكن لأسباب صوفية أخرى يعبر عنها المقريزى حين يذكر ضمن حوادث سنة 735 : ( وفيها كثر شغف السلطان ( الناصر محمد) بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفا زائدا فأحب أن ينشىء له جامعا)[4]. فبالتصوف لم يعد الشذوذ الجنسى معصية بل أصبحت المكافأة عليه إقامة مسجد باسم المفعول فيه .!!

وهى حادثة تاريخية تدفع الباحث الوقور المكتئب الى الضحك الى درجة الصراخ ..!!.

أماكن دينية للانحلال الخلقى :

  وكما انتقل التصوف بمؤسساته إلى أماكن اللهو على النيل تركز  الانحلال داخل مؤسساته التى انتشرت فى ربوع العمران المصرى .ونعطى عنها فكرة سريعة :

الزوايا :

1 ــ وقد تجمع الصوفية فى الزوايا التى أقامتها لهم الدولة أوتلك التى أنشأوها بأنفسهم ليتمتعوا بحريتهم فى ممارسة عقائدهم ، ومنهم من جعل تلك الزوايا مستعمرات للانحلال الخلقى كعبادة دينية صوفية ، كما كان المطاوعة يفعلون فى زواياهم . وقد عرضنا لهم . وحاول الصوفية الآخرون الدفاع عنهم والتخويف من الاعتراض عليهم كما يحكى الشعرانى حين أنكر بقلبه ( على مايفعله القلندرية فى زاويتهم) ، فيزعم " فإذا بشخص متربع فى الهواء يقول لى تنكر على القلندرية وأنا منهم"[5].

 2 ــ  وحتى فى الزوايا التى أقامها لهم رجال الدولة فإن رجال الدولة أنفسهم كانوا يعرفون مايجرى فى تلك الزوايا، وسبق أن ذكرنا أن الوزير توبة بن على غضب على أحد مشايخ الخوانق حين رفض إلحاق أعرابى بالخانقاه برغم توسط الوزير فسأل الوزير الأعرابى بضع أسئلة أمام الشيخ كان من بينها ( ماتعرف تلوط بالمردان؟) فقال العرابى : بلى فقال له الوزير: صوفى أنت طول عمرك)[6]. أى أن شهرة الزوايا الصوفية فى اللواط كانت ذائعة مسموعة .

 3 ــ وقد حاولت الكرامات الصوفية أن تستر ماكان يحدث فى الزوايا الصوفية من شذوذ جنسى ،من ذلك ماترويه أسطورة كرامة طويلة عن أحدهم أنه دخل دارا صوفية فيها أربعمائة شاب كلهم من سن خمس عشرة سنة ثم صاروا يجتمعون فى السماعات ، ثم بعد تفصيلات طويلة ومعجزات تنتهى القصة بقوله

( فإذا البلد قد أرجف بأخذ الفقراء وكان السبب فى ذلك أن الشيخ قد نهى أصحابه أن يجتمعوا على تلك الصورة ، وكان ذلك بسبب مخالفتهم الشيخ )[7].

4 ــ   وفى القرن التاسع اشتهرت زاوية الشيخ المتبولى بأنها وكر للشذوذ ، خصوصا وأن المتبولى كان مبتلى بالإنكار عليه فى هذه الناحية كما يذكر الشعرانى فى ترجمته ، وقد ترجم المؤرخ السخاوى للمتبولى وقال عنه:( أكثر ماأنكر عليه اختلاط المردان من أتباعهم بغيرهم ، سيما وكان البرهان العجلونى يتوجه للإقامة هناك برسم إقراء الطلبة ( أى بحجة تعليم الطلبة) .. والله أعلم بهذا كله )[8]. وكان البرهان العجلونى متهما بالشذوذ. وحاول الشعرانى ــ بتأليف الكرامات ــ الدفاع عن شيخه المتبولى حين يذكر أن جماعة من فقهاء الأزهر أقاموا عنده فى الزاوية فوجدوا عند الشيخ مملوكين من المردان ينامان مع الشيخ فى الخلوة ، وأن رجلا عشق أمرد فهرب الأمرد إلى إبراهيم المتبولى فوضعه فى خلوته فبلغ ذلك الرجل فغير هيئته وادعى التصوف والتحق بالزاوية عند المتبولى فأدخله  مع ذلك الأمرد[9].

 5 ــ   وكان من عادة المخنثين من الصوفية المقيمين فى الزوايا أن يتزينوا كالنساء مما دعا بعض الأشياخ من غير المدمنين لهذا اللون من الانحلال أن ينكر ذلك ، فكان أبو الحسن بن الصايغ يقول( لاينبغى للمريد إذا كان جميل الوجه لا لحية له أن يجلس قط مع الرجال إلا فى حلقة الشيخ ، ولايكتحل بالكحل الأسود ولا يتطيب ولا يلبس اللباس الفاخرة ، وإنما الأدب أن يلبس الثياب الخشنة والمرقعات لاسيما إن أقام فى الزاوية ) وفى نفس الوقت كان يحذر الآخرين فيقول ( إياكم والتساهل بالنظر لشىء من الصور الجميلة فإن كل نظرة تورث فى القلب حسرة وظلمة )[10].

6 ــ  وضاعت نصائح ابن الصايغ ، فبعده بثلاثة قرون كان محمد الشناوى يقول : ( لاينبغى للمريد أن يجالس الأمرد الجميل ولايسكن هو وإياه فى خلوة واحدة ما أمكن ، فليحذر العاقل من مجالسة الأحداث إلا فى حلقة الذكر أو الدرس بحضرة الشيخ أو الأخوان الصالحين مثلا ، لكن مع غض البصر )[11].

ومعناه أنهم كانوا يعايشون المردان صباح مساء فى الخلاوى ، وأنهم كانوا يعاملونهم كالنساء بحيث يعتبرون النظر إليهم شهوة جنسية ينبغى التحرز منها ، حتى أن ابن عنان حين أراد أن يمدح شيخه مازن قال كلاما عجبا:  ( خدمت الشيخ نحو عشر سنين فطلعت لحيتى وكملت،  ولم يشعر بذلك ، حتى أخبره الناس بذلك فنظر إلى وجهى من ذلك الوقت )[12]. ولايمكن أن نصدق أن الشيخ مازن وضع وجهه فى الأرض عشر سنين حتى لايرى وجه خادمه ابن عنان ، ولكن المبالغة فى مدح عفة الشيخ بهذا الأسلوب فيه اتهام واضح للأشياخ الآخرين الذين تنظر أعينهم إلى المريدين المردان ، ولايعقل أن يكتفوا بمجرد النظر إليهم بشهوة وهم يساكنونهم فى الزوايا وطوع أمرهم ويعتبرهم الأشياخ " شواهد" على الإله عندهم .

7 ــ  ورأى شمس الدين الحنفى ــ كما يروى الشعرانى ــ ( شابين أمردين ينامان فى خلوة فلم يفش عليهما أمرا ، وصار يحكى الحكايات المناسبة للتنفير عن مثل ذلك)[13]. وكان شمس الدين الحنفى مشهورا بعلاقاته النسائية ، ولم تكن له ولزاويته شهرة فى عالم الشذوذ السلبى . مع أن ذلك وصل لزاويته .

 8 ــ واشتهر أبو العباس الغمرى ـ 905 بأنه ( لايمكن أحدا صغيرا يمزح مع كبير، ورأى مرة صبيا يغمز رجلا كبيرا  فأخرجهما من الجامع ورمى حوائجهما، وكان لايمكّن أمرد يؤذن فى جامعه أبدا حتى يلتحى ) [14]. وكان صعود الشاب الأمرد للمأذنة ليؤذن مثار شهوة للسامعين المرضى بالشذوذ . وواضح أن الغمرى كان ينكر هذا ، وينكر مااعتاده الناس فى مؤسسات التصوف من تحرش جنسى بين الفاعل والمفعول به ، بدليل أنه تشدد فى منع مااعتاده الناس حتى الصبيان الذين تجرأوا على الشيوخ بمثل ماحكاه الشعرانى .

 9 ــ  والشعرانى يفتخر بما فعله أبو العباس الغمرى ويفلسف الموضوع من وجهة نظره فيقول( كان محمد الغمرى من أشد الفقراء فى عصره غيرة على جناب الفقراء ، وكان قد جعل للأطفال الذين هم دون البلوغ مقصورة يقرءون فيها، لايدخل عليهم فيها غير الفقيه والعريف ، وجعل للرجال رباطا لايدخله غيرهم ، وجعل الشبان البالغين مكانا لايدخله غيرهم ، وكان لايمكن أحدا منهم ينام مع أخيه فى خلوة ، ويقول احفظوا قلوب العامة عن اللوث فى عرض الفقراء قياسا على حالهم)[15] . إذن قام الغمرى بعملية " فصل عنصرى "بين المريدين فى زاويته ، فجعل الصبيان فى مستعمرة والشباب فى أخرى والرجال فى ثالثة ، ولم يمكن أحدا من اقتحام خلوة الآخرين وذلك حتى يواجه الفضائح الصوفية التى انتشرت عن أفاعيل الصوفية فى الزوايا ، ولسان حاله كما يفلسف الشعرانى يقول: ( احفظوا قلوب العامة عن اللوث فى عرض الفقراء قياسا على حالهم ) وكلمة ( قياسا على حالهم ) فيها الاعتراف الكامل بأن حال الفقراء الصوفية فى عصر الشعرانى كان الشذوذ فى الزوايا.

10 ــ  والشعرانى يفتخر على صوفية عصره بأنه لم يقع فى اللواط ، ويفتخر بأنه صحب جماعة من الأشياخ ممن لايشك أحد فيهم من جهة المال أو العيال ، ومع ذلك كان لا يسمح لهم بالخلوة بأولاده خوفا على سُمعة أولاده وسُمعة هؤلاء الشيوخ . الى هذا الحد ساءت سُمعة الشيوخ الصوفية ـ شيوخ الشذوذ الجنسى . يقول: ( فلو ترك أحدهم عند عياله فى محل خلوة لايخطر بباله قط أنه يراودهم عن أنفسهم ، ومع ذلك فلا يمكنهم قط من الجلوس مع عياله إلا بحضرته ، صيانة لهم عن التهمة وصيانة لعياله عن لوث أهل الفساد بهم ، قياسا على أنفسهم)[16] .الشعرانى مع اعتقاده فى عفة أشياخه إلا أنه لايوافق على ترك عياله عند واحد منهم ، ويحتج بأن ذلك صيانة للأشياخ وللأولاد معا، ونحن لانوافق الشعرانى فى هذا التعليل ، ونتفهم رفضه لترك أطفاله مع أشياخه خصوصا من كان منهم على طريقة شيخه إبراهيم المتبولى .

11 ــ وبعض الصوفية الذين تحرزوا على أطفالهم كالشعرانى لم يكتفوا بالتحرز من الأشياخ الآخرين وإنما فتشوا الحمامات التى كانت تطفح بالشذوذ الجنسى ، فيقول الشعرانى عن الشيخ أبى الفضل بن أبى الوفا أنه كان إذا طلب عياله الحمام ينزلهم بالليل فى زورق من الروضة إلى مصر العتيقة ، ويجدف بهم وحده ، ثم يطلع بهم إلى الحمام ، فيدخله قبلهم ويفتش جميع أركانه من المستوقد إلى السطوح ثم يخرج من يكون هناك ، ويغلق باب الحمام ويجلس على بابه[17].  

وهذه الحمامات كانت معدة للرجال فحسب ، أى كانت مرتعا للشذوذ ، مما جعل الأشياخ الصوفية الذين ينكرون هذا اللون يتخوفون على أولادهم إلى هذا الحد.

الأضرحة:

1 ــ  وكان غالبا مايدفن الشيخ فى زاويته ، وسرعان ما يصبح ضريح الشيخ وكرا للانحلال ، وتنبه بعض الصوفية إلى أن تعود الناس على الفسق فى أركان الأضرحة مما يُذهب بقدسيتها ، ولذا اخترعوا أساطير تحذر من يرتكب ذلك الفعل من غضب الولى المدفون ، فالشعرانى يحكى أن شخصا أراد أن يفعل الفاحشة فى أمرد فى مقبرة الشيخ أبى الحسن بن أبى الصائغ فصاح الشيخ من داخل القبر : أما تستحى من الله يافقير [18]. أى أنهم اعترفوا من خلال هذه الأسطورة أن الواقع فى الفاحشة فقير صوفى .

 2 ــ  ويقول الشعرانى عن عبدالعال تلميذ البدوى " وماشهدته من كراماته رضى الله تعالى عنه فى سنة سبع وأربعين وتسعمائة أن شخصا راود امرأة عن نفسها فى قبة سيدى عبدالمتعال فسمّره ويّبس أعضاءه فصاح حتى كاد يموت ، فأخبرونى به ، فمضيت إلى ضريحه وأمرت بعض الفقراء أن يسأل سيدى عبدالمتعال فى الصفح عنه ، فقرأ الفاتحة ودعا الله تعالى فانتشرت أعضاؤه وتاب إلى الله تعالى من ذلك ، وصارمن الفقراء الملاح )[19]. أى أصبح من ( الفقراء الملاح) بعد أن تاب عنه عبدالمتعال فانتشرت أعضاؤه ، أما حين راود المرأة فلم يكن وقتها من ( الفقراء الملاح).

  3 ــ  ويروى السبكى عن بعضهم أنه زار وهو صبى أمرد قبر أحد الأشياخ فوجد هناك فقيرا قلندريا فتوارى خوفا منه .[20] أى كان وجود صبى أمرد فى تربة مما يشجع على الانحراف ومما يدفع الصبى للفرار إذا رأى صوفيا هناك ، فالصوفى كانت هوايته معروفة وهويته معروفة .

4 ــ  وهناك وثائق تدل على إتخاذ الأضرحة وكرا للانحلال ، حيث ينصّ الواقف على حفظ الضريح من من ممارسة الانحلال فيها . ففى وثيقة وقف السلطان حسن جاء مايلى:  ( يرتب عشرة من الخدم الأدب الثقات الأمنا، يقيمون بالقبة المذكورة لحفظها وصيانتها ممن يتطرق إليها من أهل التهم والفساد ، على جارى عادة أمثالهم فى مثل ذلك)[21].  أى أن أهل التهم والفساد اعتادوا إتخاذ القباب والأضرحة أوكارا للانحلال الخلقى مما  اضطر أصحاب الأوقاف إلى تعيين حراس لمنع ذلك.

5 ــ  والشعرانى هو الذى حكى الأساطير التى تجعل الولى المدفون فى الضريح يستيقظ فجأة صارخا فيمن يفسق فى الضريح ، هذا الشعرانى هو الذى حكى عن نفسه فقال ( ولما دخلت بزوجتى فاطمة أم عبدالرحمن وهى بكر مكثت خمسة شهور لم اقرب منها، فجاءنى ــ أى البدوى فى المنام ــ وأخذنى وهى معى وفرش لى فرشا فوق ركن القبة على يسار الداخل وطبخ لى حلوى ودعا الأحياء والأموات إليه وقال: أزل بكارتها هنا ، فكان الأمر تلك الليلة)[22].

وواضح أن الشعرانى كأى رجل يواجه عجزه الجنسى خمسة شهور قد جرب كل الوسائل ليثبت رجولته أمام زوجته البكر ، فكان أنجح وسيلة أن يتم ( الفتح عليه)  فى قبة البدوى أشهر الأولياء الصوفية ، وبما لمولده وضريحه من ايحاء جنسى وتاريخ طويل فى تلاقى العشاق ، ونجحت هذه الطريقة فصاغها الشعرانى كرامة للبدوى ، ودليلا لنا على أن الموالد والأضرحة فى التفكير الصوفى لها مدلولها الجنسى الذى يجعل الشعرانى ( الكهف الصمدانى) يلجأ إليه فى حل مشكلته الجنسية مع زوجته البكر.

6 ــ  وأسلفنا أن النساء كن يذهبن لزيارة المقابر والمشاهد أغلب أيام الأسبوع فى عصر ابن الحاج[23]. وأن الرجل كان يصطحب زوجته وأولاده فى زيارةالقرافة حيث يبيتون . وشهد الرحالة ابن بطوطة هذه العادة وسجلها فى رحلته ، يقول ابن بطوطة ( يخرج الناس للمبيت فى القرافة بأولادهم ونسائهم ويطوفون على المزارات الشهيرة ، ويخرجون أيضا للمبيت بها ليلة النصف من شعبان )[24]

وارتبط هذا المبيت بقصص شنيعة من الانحلال الخلقى فى طرقات القرافة وانحناءاتها ، وظل ذلك الانحلال مرتبطا بالقرافة وزيارتها حتى عصرنا الحديث حتى ألغتها الحكومة ، يقول أحمد أمين عن القرافة ( وكان الناس عادة يبيتون فيها ، وكانت تحدث فظائع من هذا المبيت ، ولذلك منعته الحكومة )[25].

الخوانق :

وبعض الخوانق الصوفية تغير فيها شرط الواقف لما لبث أن لحقها الانحلال ، يقول المقريزى عن خانقاه بيبرس الجاشنكير ــ أروع الخوانق فى عصره ــ ( وقد أدركتها ولا يمكّن بوابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها ، لما لها فى النفوس من المهابة ، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد ، وكان لاينزل بها أمرد ، وفيها جماعة من أهل العلم والخير . وقد ذهب ماهنالك ، فنزل بها اليوم عدة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامة ، إلا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارة بحسب نقود مصر)[26]. أى كان شرط الوقف ألا يدخلها الغرباء والمردان ، فتغير ذلك ، والسبب مفهوم.    

المساجد:      

1 ــ  إذن حوَل التصوف بيوته الدينية إلى أوكار للانحراف ، ولم يكتف بذلك بل وصل الانحلال للمساجد المشهورة المنشأة قبل العصر المملوكى ، فالتصوف قد أرهق الناس فى العصر بإنحرافه ، والناس هم رواد المساجد وبيوت العبادة سواء أنشئت فى العصر المملوكى أم قبله ، والنسوة بما تمتعن به من حرية الخروج كن يغشين الجوامع كلها حتى فى صلاة الجمعة ، وكان وجودهن داعيا للعصيان ، وفى حوادث سنة 863 فى يوم الجمعة ثانى عشر رمضان نهبت العبيد والمماليك الأجلاب النسوة اللآئى حضرن صلاة الجمعة بجامع عمرو ( الجامع العتيق ): ( وأفحشوا فى ذلك إلى الغاية ، وكل مفعول جائز) حسبما يقول أبوالمحاسن[27].

 2 ــ أما جامع الحاكم قد حوله النساء والصبيان إلى مباءة للانحلال ، فإهتم السلطان جقمق بعمارته يقول المقريزى ( وكانت أحوال الجامع ـــ بمرور النساء والصبيان وغيرهم ــ ملعبة ، فمنع من دخول النساء الجامع ، وألزم بوابيه ألا يمكنوا امرأة ولا صغيرا من الجلوس فيه ولا المرور منه ، وكان هذا الجامع قد فسدت أحواله ). أى منعوا النساء والصبيان من دخوله تحاشيا من إتخاذه مسرحا للزنا والشذوذ .!

وقبل ذلك بإثنين وعشرين عاما يقول المقريزى فى حوادث سنة 822 أن محتسب القاهرة صدر الدين العجمى منع النساء من عبور الجامع الحاكمى والمرور فيه وتطهير المسجد من قبائح كانت به بين النساء والرجال ومن لعب الصبيان فيه[28]. ويقول ابن حجر فى نفس الموضوع أن المحتسب ( طهر جامع الحاكم من قبائح كانت تقع من النساء والرجال والشباب والصبيان[29]. أى كان هناك إصرار على إتخاذ جامع الحاكم مباءة للانحلال مهما تدخلت السُّلطة المملوكية .

الجامع الأزهر

 1 ــ  وبالتصوف تحولت مؤسسات العبادة إلى أماكن للمبيت والنوم بمثل ماتعوده الصوفية فى الخوانق والربط والزوايا ، فاعتاد الناس النوم فى الجوامع المشهورة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر . وكان ذلك مدعاة للانحراف كما سبق.

2 ــ ويقول المقريزى عن الأزهر ( وكانت العادة أيضا قد جرت بمبيت كثير من الناس فى هذا الجامع ما بين تاجر وفقيه وجندى وغيرهم ، ومنهم من يقصد بمبيته البركة ، ومن الناس من لايجد مكانا يأويه ، ومنهم من يستروح بالمبيت فيه خصوصا فى زمن الصيف وأيام المواسم فإنه يمتلىء صحنه وأكثر رواقاته)[30].  

ويقول المقريزى فى حوادث سنة 818 ( طرق الأمير سودون القاضى الجامع الأزهر بعد الفراغ من صلاة عشاء الآخرة ومعه كثير من مماليكه وأعوانه ، فنهبوا شيئا كثيرا من ثياب الناس وفرشهم ، ومنع الناس من المبيت به ، وكان قد وشى إليه بأن كثيرا ممن ينام به تصدر منه منكرات قبيحة) ولم يعجب المقريزى ماحدث فقال( فكان أمرا من الشناعة لم يسمع بأقبح منه ، سيما والناس يتظاهرون بأنواع المحرمات القبيحة تظاهر من يتبجح بما يعمل ويفتخر بما يبدى )[31]. ولكن المنكر فى الشارع لايبرر حدوث منكر آخر فى المساجد ، ويبدو أن العلاقة لم تكن على مايرام بين المقريزى والأمير سودون.

  أما ابن حجر فيقول عن نفس الموضوع بأن سودون القاضى بلغه أنه حدث بالجامع الأزهر فساد بمبيت الناس فيه فأمر بعدم مبيت الناس  فيه ، فلم يرتدعوا فطرقهم ونهب أعوانه الموجودين فامتنعوا بعد ذلك من المبيت فيه[32].

 أما أبوالمحاسن فكان أصرح فى التعبير فيقول عن طلبة الرواق فى الأزهر( وتغيرت خواطر الخاص والعام عليهم وانطلقت الألسن بسبهم وذكر مساوئهم ومايفعلونه من القبائح[33].

تبادل الأدوار بين بيوت العبادة وبيوت الفسق :

1 ــ وقد سبق أن الجامع الخطيرى فى بولاق كان قبلا دارا للفسق ومثله جامع التوبة فى خط بين السورين ، ومعناه أن المساجد كانت تتبادل الأدوار مع بيوت الفسق.

2 ــ وتردد فى المصادر التاريخية حالات أخرى ، فالمارستان المؤيدى فى القلعة : ( حوّلوه إلى جامع ، وقد تحول المارستان قبل أن يتحول إلى جامع ــ ثم إلى حانة خمارة برسم شرب المسكرات وضرب الطنابير وعمل الفواحش ومع ذلك تربط به الخيول .. فطهره الله من تلك الأرجاس وجعله محل عبادة)[34].

 3 ــ  وبعدها بنحو نصف قرن تحولت زاوية التاج إلى موضع (سماه العوام المخلوعة فصار مأوى للحشاشين والفسقه)[35].

4 ــ ويقول الشعرانى فى ترجمة عثمان الحطاب أنه حاول توسيع زاويته، ( وهناك ربع  فيه بنات الخطأ فطلع للسلطان وقال يامولانا هذا الربع كان مسجدا وهدموه وجعلوه ربعا ، فصدق قوله ورسم بهدم الربع وتمكين الشيخ من جعله فى الزاوية ، فأرشوا بعض القضاة فطلع للسلطان فقال السلطان له ثبت عندى قول الشيخ ، فهدمه فظهر المحراب والعمودان ونزل السلطان فرآه بعينيه)[36].

أى كان مسجدا فتحول إلى " ربع لبنات الخطا" ثم رجع إلى زاوية صوفية مرة أخرى .

وقديما قال أبو الطيب المتنبى :

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا ..



[1]
ـ خطط المقريزى جـ3/230، 430، 224 :251، 423: 434، 516.

[2]ـ خطط المقريزى جـ3/230ـ 430، 224: 251، 423: 434، 516.

[3]ـ تاريخ ابن اياس جـ4/97.

[4]ـ السلوك جـ2/835

[5]ـ. لطائف المنن 192، 315 ط قديمة

[6]ـ الصفدى . فوات الوفيات جـ 1/285، 296.

[7]ـ الكواكب السيارة 152.

[8]ـ الضوء اللامع جـ1/85 : 86 .

[9]ـ الطبقات الكبرى جـ2/77 : 80.

[10]ـ الطبقات الكبرى للشعرانى جـ1/137، قواعد الصوفية جـ1/146، 147.

[11]ـ قواعد الصوفية جـ1/75.

[12]ـ قواعد الصوفيةجـ1/75.

[13]ـ الطبقات الكبرى جـ2/91

[14]ـ الطبقات الكبرى جـ2/110

[15]ـ.لطائف المنن 427، 415، 416 ط قديمة.

[16]ـ لطائف المنن 427، 415، 416 ط قديمة.

[17]ـ لواقح الأنوار 259.

[18]ـ. الطبقات الكبرى جـ2/140

[19]ـ. الجواهر السنية . عبدالصمد الأحمدى 224.

[20]ـ السبكى . طبقات الشافعية جـ5/63.

[21]ـ وثيقة وقف السلطان حسن : الأوقاف 881 نقلا عن محمد أمين الأوقاف

[22]ـ الطبقات الكبرى جـ1/161

[23]ـ المدخل جـ1/151، 160، 161.

[24]ـ. رحلة ابن بطوطة جـ1/21.

[25]ـ قاموس العادات والتقاليد 322.

[26]. الخطط جـ3/406

[27]ـ النجوم الزاهرة جـ16/132

[28]ـ. السلوك جـ4/1223  / ، جـ 4/1/511

[29]ـ.إنباء الغمر جـ3/202

[30]ـ السلوك جـ 4/1/320، 324.

[31]ـ السلوك جـ 4/1/320، 324

[32]ـ إنباء الغمر جـ1/74.

[33]ـ حوادث الدهور جـ2/193.

[34]ـ السلوك جـ 4 /2/ 610

[35]ـ حوادث الدهور جـ 2/217.

[36]ـ الطبقات الكبرى جـ2/97

اجمالي القراءات 6315