كم من مفكر وعالم وفقيه معاصر قد ذاق الأمرين من التكفير والتفسيق والمهانة، لمجرد أنه خالف الموروث
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ

محمد صادق في الأحد ١٢ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ

كم من مفكر وعالم وفقيه معاصر قد ذاق الأمرين من التكفير والتفسيق والمهانة، لمجرد أنه خالف الموروث، كم من رجال عصرنا ممن ووجهوا بتهم والخيانة والضلالة، لمجرد أنهم فكروا خارج الصندوق، وأطلوا إلى خارج الكهف، فهل حرمة الأحياء في ديننا ساقطة أمام حرمة الأموات؟ وهل هو من الدين أن تداس حرمة مؤمن حي، لأنه خالف ر أي مؤمن ميت؟ أوليس الحي هو أدرى بزمانه من الميت؟

إننا ندين للأحياء بالاحترام، فهذه هي سنة الخلق، أن يتعايش الناس بينهم بالاحترام والتقدير وحفظ الكرامة، ومع الأحياء من أمثالنا، ستكتب سيئات أعمالنا وصوالحها، ومعهم وفيهم تتحرك صحائف أعمالنا بالحسن والقبيح، فهذه هي سنة الحياة، كل جيل يعيش زمانه ويفكر بآليات وقته، ويواجه قضاياه التي يعايشها ويعاينها، ولم يكلف العقل ولا الرب عبداً بقضايا زمان سابق عليه، فاحترام الآخر الحي المشترك معي في زماني هو فرض إلهي،حيث أوجب علىَّ التعارف معه والتواصل حين قال سبحانه :

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  (سورة الحجرات 13

فمن حقي الطبيعي ومن واجبي الإلهي أن أتواصل مع أحياء زماني، بما نراه ونفهمه ونقدر على انجازه، ولست مكلفاً أمام الماضين من الأموات الصالحين بغير الإقرار لهم بالأسبقية علينا في الحياة والدين، وأنهم قد سبقونا بالإيمان، وأنهم السلف ( الصالح) يستحقون حقيقة التكريم، والتي ليس منها أن أستلب حياتي وعصري وزماني وفكري وثقافتي وحضارتي لصالح حياتهم وعصرهم وزمانهم وفكرهم وثقافتهم وحضارتهم، فتلك كما قال الله : " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (سورة البقرة 134

إن التمسك بقداسة الماضين، واعتبارهم قمماً لا يمكن الارتقاء لها، وأنه ليس بعد علمهم قد جمَّدَ حركة الإبداع فى الأمةوحاصر المفكرين بأسوار من المخاوف، فصار فكر الماضين أشبه بالحصن أو بالذات الملكية وشخصية الرئيس في عالمنا العربي المعاصر، فذاته لا تمس، ومن أراد انتقاده ومخالفته فعليه أن يسلك ألف سبيل من مقدمات البراءة عن المعارضة، وأن يطرح رأيه على استحياء أو استخذاء، وأن يهين نفسه أولاً وكأنه في محراب العبادة مفتتحا بالقول: وما أنا وما قدري لأجعل في مقام الكلام إلى جنب أولئك العظام، كل ذلك خوفاً من سطوة الأتباع وجموع المذهبيين والطائفيين.

نحن لا ندعو للتنكر لفضل السلف ( الصالح)، ولا لهدر كرامتهم ومقامهم، ولكننا نقول إن قوام حياة الأموات هو بقاؤها على هامش حياة الأحياء، ليتمكن الأحياء من صناعة سعادتهم الحقيقية وفق واقعهم، لا أن يستندوا على الوهم في طلب السعادة من واقع الأموات الذي انقضى ولن يعود، وهيهات أن يعود، فعجلة الزمان تدور لتصنع الجديد وتطور الواقع، وإذا لم يعمل الأحياء على خلق هذا الواقع الذي يعيشونه سعيدّا، بالانسجام مع زمانهم وظروفهم ومشاكلهم، وما بلغوه من تمدن وتحضر وثقافة، ويسهموا في عملية التجديد والتطوير، وظلوا يحلمون بأيام عز الآباء، ناحلين ذلك الزمان حسنات لم تكن فيه، ونازعين عنه سيئات كانت منه، محاولين إعادة حياة السلف، متناسين دورهم كخلف ينبغي أن يكون أكثر تجديداً وإبداعاً من آبائهم، فإنهم لن يدركوا ما أدرك آباؤهم، ولن ينجحوا في العيش مع مقتضيات زمانهم، وهل التخلف إلا ثمرة مثل هذا الوضع المتعصب.

إن نشطاء الحركات الإسلامية، يقدمون حياة الماضين للأجيال الحاضرة على أنها الحياة المثلى، وتقوم أطروحتهم على إذكاء المشاعر نحو العودة للزمن الماضي، وإلى التشبه بحياة خير القرون، نعم هناك عبرة نستطلعها من حياتهم الفاضلة، ألا وهي قوة إيمانهم، وشدة عزيمتهم، وجزيل تضحياتهم وتفانيهم في خدمة مجتمعهم وأمتهم، وحرصهم على خدمة الناس، وعملهم الدائب في نشر الهدى والدعوة إليه، فهذه مبادئ عامة في حياتهم وبها استحقوا تلك المنزلة، أما ما قالوه واقعاً، وما فعلوه ميداناً من حركات وسكنات، وأفعال وانفعالات، وأفكار وتدبيرات، ونظم وإدارات، وسياسات وإجراءات، وكل ما هو خارج القيم والمبادئ العامة، فلهم زمانهم الذي يجب أن لا يكون زماننا، لأنه يستحيل أن يكون كذلك.

إن تسويق حياة الماضين على أّنها سر السعادة للاحقين، أمر لا يؤدي إلى حياة سعيدة أبداً، بل هو تبضع لبضاعة باطنها الوهم، ولو حدثت فجئناها فلن نجدها إلا سراباً، إذ أننا أجيال زماننا ولن نكون إلا كذلك، نشترك مع صالح أسلافنا في القيم الإنسانية العامة، والمبادئ الإسلامية العامة، وأركان الإسلام العامة، وفي ما عدا ذلك فلنا حياتنا ولهم حياتهم، ولنا نظرتنا للأمور ولهم نظرتهم، ولنا فهمنا ولهم فهمهم، وإذا لم نعقل ذلك فسنظل نسمم عقولنا ومجتمعاتنا بسموم زمانهم وقضاياه، التي كان لها يومها مبرراتها الواقعية السليمة والسقيمة في حياتهم، فرضتها ظروفهم السياسية والاجتماعية، على عكس زماننا الذي يفرض علينا قضايا جديدة وأطروحات مغايرة في الدولة والمجتمع.

فعلى سبيل المثال، في زمانهم وإلى عهد قريب، لم يكن هناك وعي للدولة القومية ومفهوم الوطنية والمواطنة، ولم يكن هناك وعي للطبقية الاجتماعية وأثرها في نشأة التكتلات، ولم يكن هناك وعي لخصائص الجماعات، من الأحزاب والنقابات والجمعيات المحلية والدولية، ولم تكن هناك أمم متحدة ولا مجلس أمن، ولم تكن هناك بنوك تقرض للتجارة والصناعة، ولم تكن هناك فرق للرياضة، لم يكن ذلك العالم كعالمنا اليوم، ونحن نعد هذه من القضايا المؤثرة في حياتنا، ويستحيل علينا أن نكون واقعيين لمجرد إغماض أعيننا عن حقيقة تأثير الانتماء القومي والشعور الوطني والانتماء الطبقي وغير ذلك من أمور هي توجه سلوك الناس وعواطفهم، مُصِرِّين على أن الانتماء الحقيقي هو للدين وليس غير الدين، لمجرد أن مثل هذا الوعي لم يكن موجوداً عند أسلافنا الماضين .

إن مثل هذا الفهم لواقع القرن الواحد والعشرين من خلال القرن الثامن يقود إلى العمى عن فهم الواقع، والحياة ضمن واقع افتراضي لا وجود له.

ولقد نبه الدين منذ أوائله بأن لكلّ زمان دولة ورجالاً، ونهي كلّ جيل من الآباء عن إكراه الأبناء على إتباع آثار الآباء وآدابهم، وقال بوضوح أن مراد ذلك لتغير مقتضيات الزمان: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم" إن في هذه المقولة من العمق ما لا يفهم إلا بالتدبر، فكأن الله سبحانه، وهو يريد بالحياة أمراً، قد رزق كل جيل ما يقتضيه له، لتصل الدنيا لما أراد لها ربها من تدبير، وكأن إكراه الأجيال على إتباع آثار الآباء وآدابهم ونظرتهم للحياة يعيق هذه المسيرة، وينمي التخلف عنها، أي أن هذا التجمد يخالف ويعيق سنة إلهية يراد لها أن تمضي.

إن هذه المقولة تقرر أن الحياة فصولٌ، وان هذه هي إرادة السماء، وإذا أرادت السماء أمراً ورفضناه فإنها لا تتوقف بل تغير مسارها:

" ......  وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " (سورة محمد 38

فإذا ما سمح الأحياء للأموات بأن يحكموا حياتهم في الدين والدنيا، فإن ذلك ينم عن عجزهم على أن يحيوا حياة الخلف النافع، فهم كما قال رافضو كل تجديد " ..... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ "  (سورة الزخرف 23

إن الطائفية والمذهبيه ثمرة إتباع الماضين، فإذا ما أحسن الخلف حياته، وعاش زمانه،فسيكون لهم مذاهبهم الجديدة والتي قد تتحول إلى طوائف جديدة إذا ما جمد أخلافنا عليها كما جمدنا على ما أسس أسلافنا، فأس الطائفية متابعة الأموات الماضين، وأول مفتاح للخروج على عصبيتها هو التحرر من قيودهم وأغلالهم التي علقناها دون إرادة منهم في أعناقنا.

وصدق الله العظيم حين قال : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ

 

 

 

 

اجمالي القراءات 9417