الرهان المفروض - واقتحام المغامرة المصيرية الكبرى.

يحي فوزي نشاشبي في السبت ٢١ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم  الله  الرحمن  الرحيم

*******

الرهان  المفروض

  واقتحام  المغامرة  المصيرية  الكبرى

=====================

من بين الظواهر التي رضت  نسها  منذ  أواخر  القرن العشرين وبداية  الواحد  والعرين الميلادي، ظاهرتان  اثنتان - على الأقل -  معبرتان عن دين واحد ، وهو الإسلام، لكن،  بطريقتين اثنتين تبدوان متوازيتين لا تلتقيان، وقد يراها آخرون متقابلتين أو متقاطعتين، أو حتى متصارعتين،  بحيث أن كل واحدة تعتقد  في قرارة نفسها أنها - هي وحدها ولا غير- على صواب وعلى الصراط  المستقيم ، وأن الأخرى - هي وحدها ولا غير- على  ضلال، وتحسب كل  واحدة أنها هي  التي تحسن  صنعا  في  ما  ذهبت  إليه. (... قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا .  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)

الكهف 103-105-

فإن المتبادر إلى الذهن حتما هو أن الذين يتراءى لهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا لا يمكن أن يلاموا في الأخير !وكيف يمكن أن يلاموا  إذا كانوا لايضمرون أية نية سيئة وأي عصيان لله  الرحمن الرحيم الذي لا يكلف نسها إلا وسعها؟ ( الآية ........

ولكـن: الواقع  يقول :

إن الطائفة  الأولى،  أي أولئك الذين يعتقدون وبكل اطمئنان أنهم هم المسلمون وحدهم، لأن صرحهم ورثوه مشيداً وقائما من أسلافهم، وأن ذلك ما وجدوا عليه آباءهم  الأولين، وبدون انقطاع منذ أربعة عشر قرنا، ويعتقدون - جازمين -  أنه  صرح متين مدعم ومعزز بمختلف التعزيزات من: قرآن وحديث وأقوال وتواتر وتصريحات  وتصرفات  ومواقف  وأوامر ونواه، يزعم أنها كلها وبدون أدنى  استثناء أو  شك  وحيٌ من الله ، تضاف أو يضاف بالضرورة إلى القرآن المنزل من العلي العظيم، وهم غير منتبهين ولا آبهين بتلك " الأنقاض " الهائلة التي تقف في وجه أحسن الحديث المنزل ، أو تتناقض معه، بل وتبطله وتجمـّــد وتسقط  منه أجزاء كثيرة،  بل وتحوّلها إلى أجزاء بائدة  بعد أن  كانت في يوم من الأيام سائدة  ذات روح ، بل ولا يتورعون أن يفعلوا كل ذلك تحت شتى الإدعاءات والمزاعم وحتى  الإفتراءات التي تفرزها  الأهواء  وبكل  شجاعة  أو  تهوّر أو جرأة  أو وقاحة، وهم  ماضون في  ذلك  النهج  وهم طبعا يحسبون أنهم يحسنون  صنعا، والظاهر  أنهم  يشكلون السواد الأعظم  في الوقت الراهن، بل ومنذ  قرون، وهذا واضح بالنسبة لأولئك المسلمين الذين يطلقون على أنفسهم اسم  أهل السنة - وما  إلى  ذلك من ألقاب - معتقدين أن الدين  الإسلامي  مبني -  لا محالة -  على مصدرين اثنين :  قرآن  وسنة ، وإلى درجة أنه  قد وصل  الأمر بمفكر إسلامي - يعتبر من المراجع -  قد قال عنه  أحد  المفكرين الناقدين ، بأنه يكاد في تعامله  مع  شخصية الرسول ( عليه الصلاة  والتسليم ) أن  ينفي عنه  صفة الإنسانية  فيجعل  من كل ألفاظ (هذا الإنسان الرسول) وحركاته وتصرفاته وحيا ويطلب من المؤمن العادي  تقليده  في  كل  شئ  حتى  ليحس القارئ أحيانا أن طريق  خلاص عوام المؤمنين لا يكون بفهم  القرآن بل  بتقليد  الرسول، وهذه  مقاربة خطيرة  لمفهوم  الخلاص  في  المسيحية.

أما الطائفة الثانية الأخرى: أي تلك التي عقدت النية  والعزم على اعتبار الحديث  المنزل - وحده ولا  شريك  له – أي اعتبار القرآن العظيم، وآلت على نفسها التمسك به، وأن لا  تتبع إلا  ما تعتبره البلاغ  المنزل وهو أحسن الحديث،  فإن هذه الطائفة بدورها  تعتقد في  قرارة  نفسها -  قريرة العين مثل الأخرى – أنها هي وحدها المصيبة في رأيها وهي  وحدها  على  الصراط  المستقيم،  وأنها  أولا  وأخيرا  تحسب  أنها تحسن صنعا.

وبالتـــالي: فإن المرء، أمام  هذا الخضم من التيارات  والآراء  المتباينة  يستنتج  أول  ما يستنتجه  أن القاسم المشترك  بينهما  هو ( براءة  كل طائفة  ما  دامت  تحسب  أنها  تحسن  صنعا )، - ما  دام  الله  لا  يكلف  نفسها  إلا  وسعها -  ولكنه، أي المرء، سرعان ما  يتراجع  ويُــصاب بشبه دوار عندما يسمع  ويشاهد  عبر  شتى  الوسائل  السمعية  البصرية  تلك المقابلات المحمومة  التي  لا  يخلو  معظمها من التنافر والغل وتبادل الإتهامات  وتزكية  النفس  والغرور المبطن  بالتهديدات، والإنزلاق إلى اعتبار نفسها هي وحدها الداعية، وتنصيب نفسها هي وحدها القاضية الحاكمة على الغير والمصدرة حكمها عليه ، بل  والتلميح  وحتى  التصريح بوجوب ترشح  من  يشرع  في  تنفيذ  أحكامها تلك، على  الطائفة  المحكوم  عليها .

عندما يسمع المسلم  ويشاهد  ذلك، ألا يصاب بدوار حقيقي - هذه المرة -  وغثيان  وارتباك ؟  ألا  يغرق ؟  ألا  يفرض عليه  أن يتنفس  تحت  الماء ؟ ويختنق في  حيرة ؟  ألا  تتزاحم  في رأسه  تلك  التساؤلات  القاسية ؟ أيعقل أن يكون المسلمون وبعد  أربعة عشر قرنا بعيدين عن الصراط  المستقيم ؟ أم  هناك أكثر من صراط  مستقيم واحد ؟  فما بال القرون المنصرمة ؟ وما  بال أولئك  المفكرين والمجتهدين؟ وفيم فكروا  فيه ؟ وفيم  اجتهدوا ؟ وأولئك  الذين  ضربوا  أكباد الإبل وألهبوها وفيم فعلوا ذلك  وفي سبيل ماذا ؟  وتلك المذاهب والطوائف؟  وهل يعقل أن يفهم أن يحدث كل ذلك  لأن الملمين لم يكونوا وفقوا في تدبر  الحديث  المنزل ؟ وماذا فعلوا- مثلا -  بذلك  التصريح  وذلك  الإقرار من  لدن  رسول الله (عليه الصلاة والتسليم) عندما تلا عليهم : ( ... إن  أتبع  إلا ما يوحى  إلـيّ  وما  أنا  إلا  نذير  مبين ) الأحقاف 9.  ولماذا لم  يحدقوا وبتدبروا مليا  ولم يهتدوا  إلى  إجراء  المقارنة -  مثلا -  بين  تلك البينات  التي  أتى  بها  عيسى (عليه السلام) في الآية 63 – الزخرف – ( ولما جاء عيسى بالبينات قال قد  جئتكم بالحكمة ولأبيّـن لكم  بعض  الذي  تختلفون  فيه  فاتقوا  الله وأطيعــون )

يعني يطيعون عيسى الذي يدعوهم إلى تقوى الله المتمثل في أن  يهتموا بكل جدية بالبينات التي  جاء  بها لا  أقل ولا  أكثر. ثم  لماذا لم  تتدبروا  مليا  في الآية  الأخرى : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)32- آل عمران .   (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ( 31 ) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين( 32 ) 

وهناك  مأزققائم ،  ولعله  مربط  الفرس ؟

وهو: كيف يمكن لكل طائفة أن تخرج منه  وتنجو ؟ ما دامت  كل  واحدة  تحسب  - عن  حسن نية -   أنها  تحسن  صنعا  في ما  ذهبت إليه ؟

فأما التي تعتقد أن لإسلامها الذي تمارس مصدرين اثنين: هما القرآن وغيره  مما  يحلو لها أن تسميه كيفما تشاء، غير آبهة بأن ما ابتدعته يقضي على القرآن نفسه   إن هذه الطائفة - في الحقيقة - لا يمكن أن  يحسدها  حاسد ،  لأنها تكون  صاحبة  رهان مشحون بكل ما في صفات التهور والجهل من معنى، ولأنه  بكل  اختصار  رهان واه  خال من أية  قيمة.

وأما تلك الطائفة  التي اقتحمت  المغامرة  الكبرى برهانها القرآني ، فحقيق لها أن تطمع  وتطمح  وتتفاءل بالخير ويحق لها أن تحسب أنها  تحسن  صنعا  لأنها  فعلا كذلك .  والله  أعلم .

 

اجمالي القراءات 7390