الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية
ج2 / ف 4 : تشريع الرقص دينا للتصوف

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف 

الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

 تشريع الرقص دينا للتصوف

   رفض الغناء العلمانى العادى وتأويله وتحويله الى سماع صوفى :

1 ــ   وحفلات الرقص الديني لا بد أن تحتاج إلى شعر وموسيقى حتى تتناسق حركات الرقص معهما .

   ويرى الغزالي أن العوام تستغرقهم الشهوات الحسية فلا يصلون إلى التجريد الصوفي ومحاولة الوصول للإتحاد بالله ، يقول : ( والمجلس لا يحوي إلا أجلاف العوام وبواطنهم مشحونة بالشهوات وقلوبهم غير منفكة عن الإلتفات إلى الصور المليحة ،فلا تحرك الأشعار من قلوبهم إلا ما مستكن فيها، فتشتعل فيها نيران الشهوات فيزعقون ويتواجدون. ). والغزالي لا يرضي عن ذلك التواجد العامي ( العلمانى ) لأنه يخلو من عقائد التصوف حين تتحول عبارات العشق البشري إلى اتحاد وحلول، يقول: (  ولو حوى المجلس الخواص الذين وقع الإطلاع على استغراق قلوبهم بحب الله تعالى ولم يكن معهم غيرهم فإن أولئك لا يضر معهم الشعر الذي يشير ظاهره إلى الخلق فإن المستمع ينزل كل ما يسمعه على ما يستوي على قلبه"[1]. أى أن الصوفية يؤولون كلمات العشق والحب لتنطبق عندهم على الله جل وعلا. العوام يفهمون عبارات الحب والعشق على أصلها وهى أنها عن المحبوب من البشر ، وهذا لا يُعجب الغزالى ، ولا يعتبره سماعا صوفيا إلا بحضور شيخ صوفة يقوم بتأويل المعانى والتفكر فيها لتنطبق على الخالق جل وعلا.!!.  وعلى ذلك تتحول عبارات العشق البشري للذات الإلهية على نحو ما صرح به ابن عربي وابن الفارض فيما بعد.

2 ــ وأسهب الغزالي في توضيح الصلة بين الذوق الصوفي والموسيقى في حفلات الرقص إلى أن يقول : (  وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها ، بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم ، وأما الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً ، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار ، وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوقه لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب ، والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار . ليس يدرى إلى ماذا يشتاق ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري ما هو حتى يقع ذلك للعوام.." [2].

تشريع الرقص الدينى فى السماع الصوفى

1 ــ  ويحاول الغزالي شرح فلسفة الرقص الصوفي المتأثر بالألحان فيقول: (  سئل بعضهم عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات ، فقال ذلك عشق عقلي ، والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي ( أى بالعضاء الجسدية ) ، بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة ، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية إلا أن العاشق البهيمي فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف" [3].  ومعناه أن الرقص الصوفي عند الغزالي لا يقتصر على حركة الأطراف من أيدي وأقدام وإنما يمتد إلى الحواجب والأجفان والفم والإبتسام ، ومعلوم أن هذه الحركات مرفوضة في البيئات الشرقية لأنها تعبر عن الخلاعة والإثارة الجنسية ، وقد أحس الغزالي بهذا فحاول ان يبرىء الرقص الصوفي من هذه الخلاعة وان يلصقها فقط بالعوام ، إلا أنه لم يضع في كتابه فاصلا يميز بين شخص عامي وآخر صوفي ، اللهم إلا أننا نعرف أن الغزالي يتهم معاصريه بالعامية ويصف أشياخه بالقدسية والخصوصية .

2 ـ وقد جعل الغزالي الأدبين الرابع والخامس من آداب الوجد مختصين بالرقص . فالأدب الرابع: (  ألا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ، ولكن إن رقص وتباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة ، لأن التباكي استجلاب الحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، فكل سرور مباح فيجوز تحريكه، والرقص يكون لفرح أو شوق فحكمه حكم مهيجه، إن كان مذموماً فهو مذموم. ) . والغزالي هنا يستعمل أسلوب الفقهاء في التشريع من المباح والمذموم والجائز،ويخشى أن يختلط الرياء بعبادة الرقص فيحبط ثمرة هذه العبادة. ثم يحاول أن يفرق بين رقص العوام العلمانى ورقص الصوفية الدينى فيقول عن الرقص العلمانى من العوام : (  نعم لا يليق اعتياد الرقص بمناصب الأكابر وأهل القدوة ،لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب ،وما له صورة اللهو واللعب في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الناس، فيترك الإقتداء به . ) .

3 ــ    وعن عادة الصوفية في الوجد بتمزيق الثياب عند الرقص يقول الغزالى : (  وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الإختيار ، ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سُكر الوجد عليه ، أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه،وتكون صورته صورة المكره ،إذ يكون له في الحركة والتمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين ، ولو كُلّف الصبر عنه لم يقدر. فإن قلت فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة؟ فاعلم أن ذلك مباح إذا قطع قطعاً مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات. ) . والغزالي هنا يحاول الدفاع بأسلوب الفقهاء عن تمزيق الثياب وتخريقها حين يتصنع الصوفية الوجد. ثم يقول عن الأدب الخامس: (  موافقة القوم قي القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد، وقامت له الجماعة فلابد من الموافقة . فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد،إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا اسقط عنه ثوبه بالتمزيق ، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذ المخالفة موحشة . ولكل قوم رسم ولابد من محالفة الناس بأخلاقهم. ) ،  أى إذا رمى الشيخ عمامته فلابد أن يرموا عمامتهم،وإذا خلع ثيابه فليخلعوا ثيابهم.

4 ــ    ويقول عن الرقص الفاتر الذي لا حماس فيه والذى يخلو من ( الوجد ) : (  ومن الأدب ألا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم،إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد ( أى المتظاهر بالوجد ) هو الذى يلوح للجميع منه أثر التكلف.  سئل بعصهم عن الوجد الصحيح، فقال صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد " ، واستدل الغزالي على إباحة الرقص بما ورد في أن عائشة كانت تنظر للحبشة في لعبهم، وأن علياً حجل ومثله جعفر ويزيد بن حارثة، وقال أن الحجل هو الرقص [4]. ونسى أن الرقص الذي يدعو إليه رقص ديني يعتقد أصحابه أنه يقربهم لله زلفى. أى أنه عندهم ذكر الله واتحاد به في زعم عقائدهم .

السماع والرقص ودين التصوف وعلمه اللدنى :

1 ــ الرقص هو حركات الجسد  المتناسقة مع الأنغام والأشعار في حفلات السماع. وقد سبق الإشارة إلى أن هدف السماع الصوفي هو الإحساس بالإتحاد بالله ، والغزالي يجعل الحالة الرابعة من السماع : (  سماع من جاوز الأحوال والمقامات، فغرب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى غرب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها ، وكان كالمدهوش الغائب في بحر عين الشهود،الذي يضاهي حاله حال النسوة اللآتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف، وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فنى عن نفسه،ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى، فكأنه غنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود . ) .  ثم يقول مشيراً للحلاج الذي أعلن الإتحاد فكان سبب مقتله: (  وهذا مقام عن مقامات علوم المكاشفة، منه نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال أنا الحق . وحوله يدور كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها، أو حلولها فيها على ما اختلف فهم عباراتهم [5].) وهنا يربط الغزالي بين السماع والهدف منه ، وهو الحلول والإتحاد، والسماع عندهم مرتبط بالعشق الإلهي ، وقد حاول الغزالي أن يقرب هذه الفكرة فقال : (  ولعلك تقول كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له؟ فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة،ومتى تأكدت معرفته تأكدت محبته. والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً..) .

2 ــ  ثم يقول يصل العشق الصوفي بالجمال : ( واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ، والله تعالى جميل يحب الجمال ، ولكن الجمال إذا كان بتناسب الخلق وصفات اللون أُدرك بحاسة البصر ، وإذا كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أُدرك بحاسة القلب. ) . ثم يصل بعد هذه المقدمة إلى اعتبار كل جمال في الكون هو جمال الله ليؤكد فكرة وحدة الوجود[6]..ويزعم أن الصوفي يحس بهذه المعاني في غمرة  وجده وانفعاله الراقص في حفلة السماع ، لذا يقول الغزالي في مقدمة هذا الكلام: ( ولعلك تقول كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له؟".).

3 ــ  ومن أجل ذلك كان الرقص وسيلة صوفية لاستمداد الكشف والعلم اللدني ، يقول الغزالي (  والسماع سبب لصفاء القلب ، وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء ، وعلى هذا يدل ما روى عن أن ذا النون المصري دخل بغداد فاجتمع إليه القوم من الصوفية ، ومعهم قوَال ( مُغنّى ) فاستأذنوه في أن يقول شيئاً لهم، فأذن لهم ، فأنشأ يقول:

      صغير هواك عذبني    فكيف به إذا احتنكا

      وأنت جمعت في قلبي  هوى قد كان مشتركا

      أما ترثى لمكتئب؟  إذا ضحك الخلي بكى؟

فقام ذا النون وسقط على وجهه ثم قام رجل آخر،فقال له ذا النون : الذى يراك حين تقوم،فجلس ذلك الرجل،وكان ذلك إطلاعاً من ذى النون على قلبه أنه متكلف متواجد. فإذن قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات" [7]. . أى أن الوجد والرقص الصوفي يثمر العلم بالغيب لدى الصوفي الراقص .

 وفى العصر المملوكى

كان الاعتقاد سائداً بأن المغنى الصوفى فى السماع يأتيه الوحى، يقول ابن الحاج" وبعضهم يزعم أنه خوطب بأشياء فى سره"[8]،.  ويذكر الشعرانى أن للسماع أثراً كبيراً فى ورود الحقائق[9]، أى العلم اللدنى الغيبى .

كما ارتبط الرقص الصوفى بالكرامات فى العصر المملوكى، حيث شاع الاعتقاد فيها، ففى روض الرياحين أن بعض الأولياء أظهر كراماته أمام بعض السلاطين – الذي لا نعرف اسمه – وذلك بأن أقام السماع وأمر الفقراء بالدخول في النار ،وأقام سماعاً آخر وشرب فيه كأساً مسمومة[10]، وكان السمك في البحر يتراقص مع جماعة ابراهيم الدسوقي مما جعل بعض المنكرين يغمى عليه عندما شاهد ذلك [11]. وكان الرقص أحد الأسلحة السرية في أساطير الكرامات ففي مناقب الحنفي أنه عاقب أحد المنكرين عليه بأن مروا أمامه وهم يرقصون "فأخذ ذلك الفقير يتقايأ ، والناس ينظرون إلى ما يخرج من فمه قطعاً قطعاً وما زال على تلك الحالة حتى مات " [12].



[1]
الاحياء جـ 1 / 32 .

[2] الاحياء جـ2/259 : 260 ، 258 .

[3] الاحياء جـ 2/ 259 : 260 ،258 .

[4] الاحياء جـ 2 / 267 ،268 ، 269 .

[5] الاحياء جـ 256 : 257 .

[6] الإحياء جـ2/ 247 .

[7] إحياء جـ2/ 259 .

[8] المدخل جـ1/ 155 .

[9] لطائف المنن 430 .

[10] روض الرياحين 228 .

[11] لسان التعريف 63، 64

[12] مناقب الحنفى 424 :426 .

اجمالي القراءات 7679