الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام
ج2 / ف 3 / التواكل والتبطل فى عقيدة الدين الصوفى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٠ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

أولاً : التواكل والتبطل عند الصوفية

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام

أولاً : التواكل والتبطل عند  الصوفية

  مدخل الفصل الثالث : الزكاة في الإسلام نظير التسول عند الصوفية :

1- ارتبط الأمر بالصلاة مع الأمر بإيتاء الزكاة في  الإسلام حتى قبل  البعثة المحمدية ، وإيتاء الزكاء يعنى تعليم النفس التزكية والطهارة من الذنوب والمعاصى ، فهى بمعنى إقامة الصلاة ، أى إقامتها خشوعا أثناء تأديتها وتقوى وترفعا عن المعاصى بين أوقات الصلوات . وهذا هو موجز الاسلام الذى نزلت به الرسالات السماوية ، كما جاء فى كلامه جل وعلا عن الأنبياء السابقين(  الأنبياء 73). وكانت إقامة الصلاة مع إيتاء الزكاة أهم بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني اسرائيل ( البقرة 83).( المائدة 12). وكان اسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة( مريم 55) وبهما أُوصى عيسى عليهم السلام (مريم31)

والزكاة بمعنى الطهارة تشمل تزكية المال وتطهيره بتقديم الزكاة المالية أى الصدقة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا .

 2- وجعل الله من صفات الأولياء الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون _ أنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله بلا منة ولا أذى( البقرة 262). بينما جعل من سمات الأولياء المعبودة و المقدسة من دون الله – أنها عالة على معتقديها الذين يقومون بإطعامها (  الأنعام14).. فالمشركون يقدمون لأوليائهم الطعام إما في صورة ذبائح ينحرونها على القبور المقدسة ( الأنصاب )، وقد حرم تعالى الأكل مما ذبح على النصب :(  المائدة3)، وأما أن يقدم حياً باسم الإله أو الولي  حيث يوهب له أو يهلل باسمه ، وهو محرم أكله أيضا ( المائدة3). فقد اعتاد المشركون في العصر الجاهلى أن يجعلوا لأوليائهم نصيبا من الأنعام ويجعلوا لله تعالى نصيبا آخر، ثم يفضلون الأولياء على الله في الاستحقاق فيهبون نصيب الله إليهم على اعتبار أنهم واسطة لهم عند الله ، وقد سجل القرآن الكريم ذلك ( الأنعام 136).. وقد اعتبر الله جل وعلا هذا الفعل منهم افتراءاً على الله ، إذ يتوجهون لآلهتهم المزعزمة بنصيب مفروض من رزق الله الذي يهبه لهم ( النحل 56) . ومعلوم أن سدنة الأنصاب والأضرحة هم المستفيدون من تلك النذور والقرابين..

والعادة أن النُّصّب ( القبر المقدس ) يكون مبنيا على أكاذيب ، تنسب المعجزات والمناقب لصاحب القبر ، وربما لا يكون هناك مقبور اصلا تحت التراب ، وظاهرة الأضرحة المزورة منتشرة لدى المحمديين. وفى كل الأحوال تجد العجب : فأولئك الذى لا يعلمون بالقطع ماهية وكينونة الموجود أسفل التراب تحت القبر يأتون اليه سعيا و ( حجّا ) ليقدموا له ( النذور ) من المال الذى جاءهم رزقا من الرحمن جل وعلا . وهذه حالة من البلاهة والافتراء لا يقع فيها سوى المشركين الذين لا يعقلون . وما أروع قوله جل وعلا فى هذا المعنى : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) النحل ) . ويتفوق الصوفية فى إفتراء أكبر . فقد حولوا ( زكاة المال ) الفريضة الاسلامية ( الصدقة ) الى إحتراف للتسول . هم لم يؤدوا الزكاة فقط وإنما عاشوا حياتهم عالة على مريديهم ، وبعد موتهم تقام لهم الأضرحة وتنتشر أساطير الكرامات فتنهمر على الأضرحة القرابين والنذور يتعيش منها سدنة الضريح وورثة الولي . ولتبرير التسول كان لا بد من جعل التبطل والتواكل دينا وتشريعا ، ثم يتسولون من الناس .

ونتتبع القصة من جذورها من التواكل والتبطل إلى التسول.

أولاً : التواكل والتبطل عند  الصوفية

التواكل والتبطل فى عقيدة الدين الصوفى

1- يقوم اقتصاد الصوفية على أساس التسول..

وأساس التسول عندهم هو عقيدتهم في التواكل وترك الحرفة .. فمنذ بداية التصوف كان الجنيد يقول (أحب للمريد المبتدىء ألا يشغل قلبه بثلاث وإلا يغير حاله : التكسب، وطلب الحديث، والتزويج)[1].

وكان أصحاب الجنيد وتلاميذه أسرع الناس في الطاعة ، فتركوا التكسب واعرضوا عن الحرف التي كانوا يمارسونها وإن ظلت ألقابهم تحمل حرفتهم القديمة ، فهناك أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد، وأبو بكر محمد الوراق، وأبو سعيد الخراز وأبو محمد بن الحسين الحريري ، وابراهيم الخواص، وعبد الله الخراز، وبنان الحمال ،وأبو حمزة البزاز، وأبو الحسن الصائغ ، وخير النساج، وأبو بكر الكتاني  وأبو الحسن المزين ، وأبو على بن الكاتب ، وأبو عمر الزجاجي، بالإضافة للحلاج.. وكلهم من أعيان الصوفية في القرنين الثالث والرابع، وكانوا من قبل أصحاب حرف ومهن تركوها وأصبحوا عاطلين ،أى تبطلوا ( من البطالة )..

وفي العصر المملوكي انتشرت الخوانق والربط الصوفية تكفل لهم سبل العيش الميسرة  وكانت تتمتع بكفالة الدولة وكبار الأغنياء، وكثيراً ما تنص على شرط أن يكون الصوفي في داخلها من المتبطلين العاطلين أو حسب تعبير الوثائق ( ويرتب بها مع عشرين من الفقراء المتصفين بالخير والديانة المتخلين عن الاكتساب)[2].

وخارج نطاق المؤسسات الصوفية وحيث التصوف في ازدهار مضطرد تكاثر الانخراط في التصوف من بين الطبقات الشعبية وأصحاب الحرف، كالحائكين مثل اسماعيل الباعوني [3]. ومكين الدين الأسمر [4]. ووضاح الخياط [5]. وبركات الخياط [6]. والغمري [7]. وعمر الوفائي الحائك [8]. والدميري [9]. وقارىء الهداية [10]. وعلى القطاناني[11]..وهذه مجرد أمثلة لحرفة واحدة ( الخياطة ) أصبح أصحابها من مشاهير الصوفية في المراجع الصوفية والتاريخية..

السعي في سبيل الرزق شرك بالله عند الصوفية :

1- وعلى عادة الصوفية قرنوا دعوتهم للتبطل وترك الحرفة بالدين الصوفى. ودين الإسلام من ذلك برىء فالإسلام دين السعي للرزق مع التوكل على الله تعالى خالق الأسباب يقول سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )(15) الملك  )..

إلا أن الصوفية في بداية نشر دينهم الجديد اعتبروا السعي في سبيل الرزق شركاً بالله تعالى، وفي إعلان هذه الحقيقة لجأ الجنيد إلى أسلوب التقية و التعمية مع الغرباء حين وفدوا عليه يسألونه الرأي فقد ورد في الاحياء (دخل جماعة على الجنيد وقالوا : نطلب الرزق،فقال: إن علمتم في أى موضع هو فاطلبوه ، قالوا: نسأل الله. قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا :ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون فقال : التوكل على التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة)[12].

2- ثم جاء الغزالي ياسلوبه الصوفى يجعل السعى للرزق إشراكا بالله جل وعلا ، يقول : ( ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد) [13]. وهو قول يخدع ظاهره الفقيه السّنى غير المتمكن من إشارات ومصطلحات الصوفية . فالفقيه لا يوافق على أن يعتمد المتوكل على غير الله ويعتبر اعتماده على أسباب الرزق وحدها نقيصة يضطر معها  لاعتباره ناقص الإيمان، وذلك حد أدنى من الإتفاق بينه وبين الغزالي الذي بالغ فاعتبر الساعى فى الرزق مشركاً ، وفي نفس الوقت فإن الغزالي قرر عقيدة الصوفية في اعتبار السعى للرزق اشراكا في دينهم، وإن حاول أن يخفف من هذا القول بإلقاء مزيد من التحير والضبابية متابعة منه للجنيد في النص السابق فيقول: (ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد. والتثاقل عنها بالكلية طعن فى السنة وقدح فى الشرع . والإعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل . وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر . ولا يقوى على كشف هذا الغطاء من شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا .).

  . وهى غاية فى البساطة : السعى للرزق فى الاسلام موضوع غاية فى البساطة . هو اتخاذ أسباب الرزق العملية من تجارة وزراعة وصيد وحرف ومهن وصناعة ، مع التوكل على الله جل وعلا . ولكن الغزالى جعل أنها منتهية في نظر الإسلام بالسعي في طلب الرزق ( بأتّخاذ الأسباب ) متوكلا على الله ــ إلا أن الغزالي جعلها مشكلة عويصة، لا يعرفها إلا العارفون المكشوف عنهم الحجاب ، أصحاب العلم اللدنى بزعمه . وهو قد اعتبر الأسباب أولاً شركاً في التوحيد، ويقصد بالتوحيد عقيدة الإتحاد الصوفية التي تجعل الله تعالى الروح المسيطر على الصوفي، وبذلك تنمحي إرادة  العبد في السعي حتى إذا سعى فقد اشرك بالتوحيد أو الاتحاد الصوفي، ثم هاجم التثاقل عن الأسباب بالكلية – وهجومه لا يشمل الصوفية المتبطلين إذ أنهم يعتبرون التصوف والقعود للعبادة في الربط سبباً للرزق ، ثم اعتبر الاعتماد على الأسباب (من غير أن ترى أسباباً) تغييراً في وجه العقل. وكنا ننتظر رأيه في هذه المشكلة التى جعلها أخطر المشاكل وربطها بالتوحيد إلا أنه ضنً علينا بالحل في نفس الوقت الذى أرجع العلم به إلى العلماء الصوفية الذين اختصوا من دون الناس بعلم الله اللدني . وكان الأولى به كأحد مدعي العلم اللدني أن  يعرفنا بالرأى الصحيح في هذه المشكلة التي تمس عقيدة التصوف من أساسها إلا أنه طبقاً لقاعدة (إفشاء سر الربوبية كفر) فقد توقف وتركنا حيارى .!!. وهذا الموقف يتمشى مع أسلوب الغزالي الذي اعتاده في التوفيق بين التصوف والإسلام مع تقرير عقائد التصوف في صورة لا تستوجب إنكاراً عنيفا من حيث الظاهر اللفظي .. ونشهد له بالبراعة في هذا..

على أن للغزالي أساليبه الأخرى في الإفصاح عن غرضه كالاستشهاد بأحاديث موضوعة يؤلفها بنفسه مثل قوله :( أن العبد ليهُمّ من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه، فينظر الله تعالى من فوق عرشه فيصرفه فيصبح كئيباً حزيناً.. وما هي إلا رحمة رحمه الله بها)[14].  أو يأتي بالأقاصيص الصوفية التي تحقق نفس الغرض، ومن ذلك أن ( بشر ) الصوفي كان يعمل المغازل فتركها لأن كاتبه قال (بلغني أنك استغنيت على رزقك بالمغازل ،أرأيت أن أخذ الله سمعك وبصرك، فالرزق على من ؟ فوقع ذلك في قلبه، فأخرج آلة المغازل وتركها )[15]. ، أو أن فقيها سُنيا قال لأحدالصوفية القاعدين في المسجد بلا عمل (من أين تأكل؟ فقال يا شيخ: اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليتها خلفك ثم أجيبك)[16]. ، أى أن الصوفى القاعد العاطل إعتبر الفقيه السّنى كافرا ، وأن الصلاة خلفه باطلة لمجرد هذا السؤال ، لأن السؤال خارج عن التوحيد(الصوفي) لأنه سأله عن حرفته ، وذلك يناقض التوكل الصوفي..

3- وجاء العصر المملوكي فتبلورت عقيدة التصوف في التواكل والتبطل على يد ابن عطاء الله السكندري في كتابه ( التنوير في اسقاط التدبير) الذي قصره على هذا الموضوع.. ونحلل أقواله بإختصار :

أ ) فابن عطاء يقرر قاعدة الجبرية من واقع عقيدة الا تحاد الصوفية ، فالصوفي الذى يسعى للاتحاد بالله لابد أن يتخلى عن دوافعه البشرية وإرادته واختياره ليفنى في الإرادة الإلهية فتتصرف له ، ويسعى ويتحرك طبقاً للروح الإلهية التي حلت فيه – طبقاً لعقيدتهم .!. يقول ابن عطاء في وصف الصوفية  ( تجري عليهم أحكامه وهم لجلاله خامدون ولحكمه مستسلمون)[17].  ، وذلك وصف خادع يحتمل الوجهين. ولا يرى المسلم الساذج فيه بأساً، إلا أن الهدف الصوفي من ذلك الكلام البراق يتضح من الشرح . فابن عطاء يشرح عقيدة الجبرية الإتحادية مفسراً بها تلك العبارة السابقة بقوله: ( أعلم أن الحق سبحانه إذا أراد أن يقوى عبداًعلى ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار، وقد سبقت إليه الأنوار، فكان بربه لا بنفسه)[18]. أى أن الإرادة الإلهية اصطفت واختارت الشخص الصوفى فألبسته الأنوار الإلهية وكسته النعوت الربانية فأصبح الصوفى متحداً بربه غير ناظر إلى نفسه، ومن الطبيعى ألا يختار لنفسه، فالقوة الالهية الجديدة التى اتحدت به واتحد بها هى التى تختار له وتتصرف . وعلى ذلك فالصوفى ينصح أتباعه بعدم التدبير فى شئون المعاش . يقول الشاذلى( إن كان ولابد التدبير فدبروا ألا تدبروا)[19]. ، ويقول( لا تختر من أمرك شيئاً واختر فى ألا تختار، وفرّ من ذلك المختار، ومن فرارك ، ومن كل شئ إلى الله تعالى .)، ويقول: ( لن يصل الولى إلى الله ومعه تدبير من تدبيراته واختيار من اختياراته )[20]..

هنا ( جبرية ) إختيارية ، يزعم بها الصوفى أنه إختار أن يكون مجبورا تحت القوة الالهية ، ثم إن هذا الصوفى لايتبرع بالتخلى عن إرادته البشرية عبثاً، إنه يطمح في اكتساب الإرادة الإلهية الأسمى، وبهذا يزعم أن فى داخله قوة إلاهية وإرادة الاهية يبرر بها تكاسله وقعوده عن طلب الرزق ، ويبرر بها أيضا إنحرافاته و ضلاله وعصيانه طبقا لعقيدة ( وحدة الفاعل ) التى أسهب الغزالى فى شرحها وجعلها ضمن درجات العقيدة الصوفية . وهذا هو الفارق بين الجبرية العادية والجبرية الصوفية. فالجبرية العادية ترى أن الإنسان في حقيقته مسيَر مجْبر كالريشة في الهواء ولا اختيار له في الحقيقة، أم الجبرية الصوفية فهى تخلي عن الإرادة البشرية طوعا لتكتسب الإرادة الإلهية الباقية بزعمهم ، ثم تبرير ما يرتكبون بزعم أنها إرادة الله جل وعلا وفعله ، وليس لهم إرادة فيما تفعله أجسادهم . وقد سئل أبو يزيد البسطامي : ما تريد فقال ( أريد أن لا أريد) .! . وعقّب ابن عطاء على مقالته بقوله: ( وأعلم أنه قد قال بعضهم :إن أبا يزيد رحمه الله لما أراد  أن لا يريد فقد أراد )[21]. ، ففي داخل الجبرية الصوفية إرادة كامنة قاهرة تطمح للألوهية واكتساب الإرادة الإلهية التي لا معقب عليها ، ثم يفعل ما يريد على أنه إله قاهر.

ب) وتأسيساً على الجبرية الصوفية فإن السعي للرزق والتدبير من أجل المعاش ـ شرك ـ في عقيدة الصوفية . وقد أتاحت السيطرة الصوفية في العصر المملوكي لابن عطاء أن يعلن ذلك بوضوح وتفصيل في كتاب خاص ، وهو ما ألمح إليه الغزالي من قبل ، ودار حوله بالرمز والأقاصيص. يقول ابن عطاء عن التدبير من أجل الرزق ( إن من ادعى الاختيار مع الله تعالى فهو مشرك مدع للربوبية بلسان حاله )[22].. وهذه العبارة تمشي على طريقة الغزالي في إيراد الكلمات التي تحتمل الوجهين، ولا تخلو من مغالطة وتناقض. فمن يدبر للمعاش لا يدعي بأى حال أنه بذلك يتدخل في اختيار الله بل يمتثل لأمره في السعي للرزق بالتفكير والعمل. فالمغالطة تتمثل في اعتباره مشركا مدعيا للربوبية، والتناقض في أن ذلك الوصف ينطبق على الصوفية ومن ادعى الاتحاد بالله صراحة أو ضمنا ، لا على المطيعين لأمر الله تعالى في شأن السعي للمعاش وتعمير الأرض .

ويقول ابن عطاء : ( أن التدبير والاختيار من كبائر القلوب والأسرار، والتوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه لك، لأنه شرك بالربوبية وكفر لنعمة العقل، ولا يرضى لعباده الكفر)[23].

وقد صدق ابن عطاء حين اعتبر التدبير(من كبائر القلوب والأسرار) أى أنها كبائر عند أصحاب القلوب والأسرار. أى الصوفية.. فذلك شرع الصوفية لا شرع الله تعالى، والمؤمن ليس مطالباً إلا بشرع الله تعالى.

إلا أن ابن عطاء افترى على الله كذباً إذ اعتبر التدبير للرزق- المأمور به شرعاً فى الإسلام- شيئاً لا يرضى به الله تعالى وأن التوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه.  ويحتمل أنه ألمح إلى الإتحاد بقوله( والتوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه لك).. ذلك أن الصوفية يفسرون الرجوع إلى الله بالعودة إلى الأصل الإلهى وفق عقيدة الإتحاد ونفخ الروح الإلهية عندهم فى الإنسان (ونفخت فيه من روحى..) وعلى ذلك فالقراءة الصوفية لعبارة ابن عطاء تعنى أن التوبة عن لوازم البشرية معناها أن نرجع إلى الأصل الإلهى الذى لا يرضى لأوليائه المتحدين به أن يختاروا معه غيره من المخلوقين فى شأن الرزق أو غيره. فالصوفى لا يرى الأسباب إذ لا يرى غيره. وإذا فعل كان مشركاً..

وقد كرر ابن عطاء هذا المعنى فى أكثر من موضع. يقول إن التدبير والإختيار من أشد الذنوب والأوزار)[24] . ويقول شعراً[25]:

اتحكم تدبيراً وغيرك حاكماً    أأنت لأحكام الإله تنازع

ويقول( اعلم إن التدبيرمع الله عز وجل عند أولى البصائر إنما هو مخاصمة للربوبية )[26]. ويفصح عن هدف ذلك بقوله: ( واعلم أن التدبير من أشد حجب القلوب عن مطالعة الغيوب)[27]. فالغيب لا يعلمه إلا الله، وأولئك طمحوا للغيب وادعوه افتراءاً على الله تعالى، وفى سبيل ذلك نادوا بالتخلى عن الإرادة البشرية ليكتسبوا الإرادة الإلهية، وينعموا بمعرفة الغيب وسائر ما اختص الله تعالى به نفسه من تصرف فى الكون .

ج) وابن عطاء ينهج نهج الغزالى فى ربط التصوف بالإسلام. ودفعه ذلك للوقوع فى المغالطة والتناقض والتجاهل. ففى شرحه للآيات التى تدل فى ظاهرها على الجبرية يتناسى الآيات القرآنية التى تصرح بمسئولية البشر على ما يفعلون وينوون. ثم بالغ وغالط فاعتبر تدبير الرزق خروجاًعن إرادة الله تعالى ومنازعة له فى ملكه، مع أن الساعى فى أسباب الرزق مهما بلغ كفره – لا يتصور أن سعيه للرزق فيه خروج على إرادة الله ومنازعة للمالك تعالى. بل إن ذلك الساعي للرزق قد يكون مشركا  يتقرب إلى الله تعالى بعبادة الوسائط ظناً منه أنه  بذلك يحسن صنعاً وأنه بذلك يستجلب رضى الله ونعمائه وخيره.

  وذلك التغالي في التفسير والتأويل لا نجد فيها توسطاً أبداً . فإما تواكل وقعود وتبطل وإما إساءة الظن بالسعي والتسبب واعتباره شركاً أو على الأقل عملاً دنيوياً بلا دين.. وقد تناسوا أمر الإسلام لأتباعه بالتوكل على الله تعالى مع السعي في أرضه بالتعمير الحلال والرضى بما يقدره الله تعالى وما يتنزل من رزقه ونعمائه ..

  يقول ابن عطاء داعياً للتواكل متناسياً لأمر الله تعالى بالسعي في تحصيل الرزق ( شيء ضمنه الله لك فلا تتبعه، وشيء طلب منك فلا تهمله، فمن اشتغل بما ضمن له عما طلب منه فقدم عظيم جهله واتسعت غفلته، وقل ما يتنبه لمن يوقظه، بل حقيق على العبد أن يشتغل بما طلب منه عما ضمن له)[28].  هنا يغالط ابن عطاء ، حين اعتبر أمر الرزق وضمان الله يعني القعود والانتظار حتي يدخل الرزق إلى فم الصوفي دون عناء.وغالط ابن عطاء حين فرق بين أمر الله تعالى بالعبادة وأمره  بطلب الرزق. فالمسلم مأمور بالإثنين معاً ، وكما هو في انتظار ضمان الرزق في الدنيا نظير السعي لأجله فهو أيضاً ينتظر المثوبة في الآخرة على العبادة . فالله تعالى تفضل برزقه على الساعين في الدنيا كما تفضل بجنته على العباد المطيعين . وطاعة الله تعالى لا تتجزأ في رزق أو صلاة . وإذا كان ثمة تسامح مع المتبطلين والكسالى فقد لا يكون مجال للتسامح مع من يعتقد ان دينه في التبطل ويدعي ان الله تعالى لا يرضيه إلا ذلك ، لأن ذلك سبب تخلفنا وعجزنا ، هى ثقافة الفقر والخمول والتبلد التى نشرها التصوف.

د) وقد أتت دعوة ابن عطاء أكلها في المجتمع المصري ،وما أسرع الاستجابة  للتواكل والقعود إذا كان يعني  الإرتزاق الرغيد بلا تعب أو نصب. وساعد على نشر دعوته ما اتسمت به عباراته من بلاغة التعبير وموسيقى في اللفظ، فتناقل الناس عباراته وحفظوها خاصة الشاذلية، وهم يرددون حتى الآن أقواله في الحكم العطائية، ومنها : ( إرادتك التجريد مع إقامة الله تعالى إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية ، أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك لا تقم به لنفسك . اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك مما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك)..

  والشعراني بعد ابن عطاء بأكثر من قرنين ونصف القرن،يقول متأثراً به ( ومن آدابهم – يعني أشياخ التصوف – لا يعتمدون على كسبهم فإن الاعتماد على الكسب شرك بالله )[29]..

ويلفت النظر أن الجنبد والغزالي وابن عطاء والشعراني يمثلون مدرسة الاعتدال والتوسط في الطريق الصوفي.. فما بال الآخرين ممن تطرف؟؟

وبعد جعل التواكل والتبطل دينا فلا بد له من تشريع .!



[1]
إحياء جـ4/206.

[2]وثيقة مغلطاى الجمالى..

[3]إنباء الغمر 203.

[4]طبقات الشاذلية 88 .

[5]الدرر الكامنة جـ4/ 107.

[6]الطبقات الكبرى جـ2/12.

[7]التبر المسبوك 136.

[8]البدر الطالع جـ2/233.

[9]ذيل الدرر الكامنة مخطوط.

[10]تاريخ ابن كثير 14/22 .

[11]لطائف المنن للشعرانى 239 الطبعة القديمة.

[12]إحياء جـ4/236 ويقصد (بالأسباب) أى نواحى السعى للإرتزاق التى جعلها الله سعيا في الرزق كالتجارة والفلاحة.

[13]إحياء جـ4/310 .

[14]إحياء جـ4/232.

[15]إحياء جـ4/232.

[16]إحياء جـ4/232.

[17]التنوير في إسقاط التدبير: تحقيق موسى على،عبد العال العرابي.دار التراث ص23.

[18]التنوير في إسقاط التدبير ص28 .

[19]التنوير في إسقاط التدبير ص25 .

[20]التنوير في إسقاط التدبير ص88.

[21]التنوير في إسقاط التدبير ص85، 87.

[22]التنوير 43.

[23]التنوير 48.

[24]التنوير 85.

[25]التنوير 90.

[26]التنوير 164.

[27]التنوير 165.

[28]التنوير 216.

[29]آداب العبودية 34. صحبة الأخيار 97.

اجمالي القراءات 9012