ج 2 ف1 : التثاقل الصوفى عن الصلاة

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٠ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الأول :أثر التصوف فى شعيرة الصلاة  فى مصر المملوكية

 السيد أحمد البدوى لا يصلى:

وقد حاز السيد البدوى على شهرة وتقديس أكثر من السابقين ولم يكن يصلى ،وقد عصمته شهرته من محاولات التبريروالإدعاءات التى اضطر إليها الشعرانى والصوفية المتأخرون فى القرن العاشر.. ذلك أن البدوى اعتبروه إلاهاً، فالمنتظر منه ألا يصلى ،  وإن أنكروا عليه ذلك فى وقته فقد كان ـحينئذـ صوفياً عادياً إلا أن شهرته ازدادت بعد موته بكثرة أتباعه وتوزيعهم فى أرجاء الدولة فازداد تقديسه وشهرته بمرور الزمن ، حتى أصبح عادياً أن يذكر فى ترجمته أنه لم يكن من المصلين ..فقد ورد فى مناقب البدوى أن ابن دقيق العيد أنكر عليه عدم صلاته وقال( يا أحمد هذا الحال الذى انت فيه ما هو مشكور ، فإنه مخالف للشرع الشريف ، فإنك لاتصلى ولاتحضر الجماعة ،وما هذه طريقة الصالحين ,! فالتفت إليه الشيخ وقال :اسكت وإلا أطيّر دقيقك )[1]. وفى رواية أنه قال له (انت ما فيه ما هو مليح ، وأنت تارك الصلاة والجمعة والجماعة )[2].

وقال عبد الصمد  الأحمدى فى الجواهر السنية ( ومما وقع لسيدى أحمد البدوى من الكرامات أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد ، وكان قاضى القضاة بالديار المصرية ، سمع بالشيخ وأحواله ،  فنزل إليه واجتمع به بناحية طنطا ، وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور ، فإنه مخالف للشرع الشريف ، فإنك لا تصلى ولا تحضر الجماعة وما هذا طريق الصالحين .! فالتفت إليه الشيخ وقال : اسكت وإلا أطيّر دقيقك) [3]. ولشهرة البدوى فى هذا المجال فقد ذكرته المصادر التاريخية اللاحقة ، يقول ابن العماد الحنبلى أن ا بن دقيق العيد اجتمع بالبدوى فقال له ( إنك لا تصلى ،وما هذا سنن الصالحين ، فقال اسكت وإلا أغبّر دقيقك)[4].

وذكر ابو المحاسن رواية مثبتة تصف حال البدوي وموقفه من الصلاة والمصلين والمسجد والجماعة يقول (قال أحدهم بسنده : ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلى ابن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوى بناحية طنتدا ، فوافيناه يوم الجمعة : فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال ، وعمامته صوف رفيع، والناس تأتيه أفواجاً، منهم من يقول : يا سيدى خاطرك مع بقرى ، ومنهم من يقول: زرعى، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة فنزلنا معه إلى الجامع بطنتدا ،وجلسنا فى إنتظار الصلاة ، فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة واقيمت الصلاة ، وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ما قام قائماً ، وكشف عن عورته بحضرة الناس ، وبال ( أى تبوّل ) علي ثيابه وعلى حصير المسجد ، واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انفضت الصلاة ، ولم يصل .!)[5].

ومع كل تلك النصوص التاريخيه والصوفيه عن تركه للصلاة إلا أن أحدهم لم يحاول الدفاع عنه وتبرير تركه للصلاة ،لأنه عندهم أكبر من أن يحتاج إلى تبرير لأنه  ـ عندهم ـ إله ، فوق مستوى البشر .

التثاقل عن الصلاة

بعضهم فى بداية طريقه الصوفى كان يخفف منصلاته - إذا صلى - إذ اعتبروا أن صلاة الإبدال خفيفة. والأبدال ( جمع بدل ) درجة فى المملكة الصوفية الهمية سبق التعرض لها . ومعنى ذلك أن البدل إذا ترقى فى المملكة الصوفية ووصل إلى القطبانية فقد سقط عنه التكليف . فأبو العباس المرسى كانت صلاته: ( موجزة فى تمام)[6]. ولا نعرف معنى أن تكون موجزة وتامة . وكان المرسى يقول (صلاة الإبدال خفيفة..)[7]. وعلى ذلك سار كمال الدين السيواسى (ت816) فقيل فى ترجمته أنه كان ( يخفف صلاته كما هو شأن الإبدال ، فقد نقلوا أن صلاة الإبدال خفيفة )[8]. وقيل فى الصوفى الشهير ــ وقتها ــ عبد الغفار بن نوح أنه( كان يخفف صلاته جداً مراعاة لحضوره فيها )[9]. أى يراعى الخشوع ، فكيف عرف الراوى بخشوعه . ورآه الأدفوى يصلى صلاة خفيفة جداً ويدعى أنه يراعى الحضور[10]. أى الخشوع، ولو صدق لأعطى الصلاة حقها ..

وفى القرن العاشر ـ عصر الشعرانى ـ  اصبحت الحاجه ماسة لتقعيد هذا التخفيف فى الصلاة .. وقام بذلك مشاهيرالصوفيه ممن ترك الصلاة أو تكاسل عنها فالدشطوطى يقول ( كل بلاء أهون على العارف من صلاة ركعتين مع هيبة)[11].أى مع خشوع ..

وانبرى الشعرانى يشرح ويفصل فى هذه الناحية فنقل عن المرصفى قوله (من خصائص تجليات الحق جل وعلا أنها - أى الصلاة - كلما طالت ثقلت على العبد عكس الوقوف بين يدى ملوك الدنيا ، وذلك لأن تجليات الحق متعددة مع  الأنفاس فما من تجلى إلا والذى بعده أعظم منه .  وأشد ما يكون على العبد التجلى الأخير .  ومن رحمة الله تعالى  بعبده المؤمن خطور الأكوان فى قلبه حال ركوعه وسجوده ، لأن تلك الحضرة كحضرة  قاب قوسين أوأدنى .. وما كل أحد يصلح للمكث فيها لثقل  التجلى الذى يهدم أركان العبد. فإذا أراد الله تعالى رحمة العبد فى تلك الحضرة أخطر فى قلبه شيئاً من الأكوان لما فى  الأكوان من رائحة الحجاب عن تلك العظمة ، ولولا ذلك لذاب عظمه ولحمه وتفصلت مفاصله ، كما وقع لبعضهم أنه سجد فصار يرتعد حتى صار قطرة ماء على الأرض فأخذوها بعظمة ودفنوها .  وقال آخر: طول القيام فى الصلاة على العارفين أشد من ضرب السيف ، وسمعت أخى العارف بالله تعالى أفضل الدين يقول : طول الإعتدال عذاب على العارفين) [12]. أى أن الصوفية جعلوا عذابهم فى القيام للصلاة والاعتدال فيها  ، وجعلوا من رحمة الله بالعبد أن يغفل أثناء صلاته ويتذكر الأكوان فى قلبه ، حتى لا يذوب ويتحول إلى قطرة ماء ،لأنهم نظروا للصلاة على أنها اتحاد بالله يجعل العبد ينصهر فى الألوهية. فالصوفية الذين اضطروا – مؤقتاً- للقيام بالصلاة أدوها خفيفة وخالية من الحضور والخشوع ، وربطوا ذلك بدينهم وجعلوها رحمة من الله أن ينشغلوا أثناء الصلاة بأى شىْ سوى الله تعالى مع ادعائهم الاتحاد بالله.

*المتثاقلون ينكرون على التاركين :

بعض من أدى الصلاة بالكيفية السابقة اعتقد أنه بلغ بها درجة تمكنه من الإنكار على غيره من تاركى الصلاة من الصوفية ، فالمرسى سئل عن صوفى كبير لا يحضر صلاة الجمعة فغضب وقال ( لوأعلم أنك تذكره لى ما طلعت عندك، تذكرون بين يدى الإبدال والأولياء أهل البدع ؟)[13]. وقد سبق أن المرسى اعتبر نفسه من الإبدال لمجرد أنه يصلى صلاة خفيفة .

وذكر الشعرانى أن الصوفى (محمد العدل ظل سنة كاملة لا يحضر جمعة ولا جماعة وذلك بأمر شيخه على الدويب ، فأرسل محمد بن عنان يقول له : إن لم تخرج للجمعة والجماعة وإلا فأنت مهجور حتى تموت ، فخرج من الخلوة ، وهجر شيخه الدويب لأنه كان من أرباب الأحوال الذين لايقتدى بهم )، فعصر المرسى اعتبر تاركى الصلاة من أهل البدع ،وبزيادة التصوف فى القرن العاشر أعتبروهم من أرباب الأحوال الذين لايقتدى بهم . ومحمد بن عنان الذى احتج على محمد العدل – هو نفسه الذى برر للصوفية الآخرين ــ كالمتبولى والدشطوطى ــ تركهم للصلاة ، بدعوى أنهم يصلون فى رملة لد فى الأردن.

والشعرانى الذى أرخ لأولئك جميعاَ ووضع لهم القواعد.  يقول لتاركى الصلاة من صوفية الزوايا والمساجد ( ينبغى للشيخ أن يأمر الفقراء القاطنين بالزاوية بالوضوء قبل أوقات الصلاة ليدركوا صلاة الجماعه ولاسيما صلاة الجمعة ، بل ينبغى لهم المبادرة إليها أشد من غيرها ، وأن يجتمعوا قبل الناس تقوية لقلوبهم ، فإن الإنسان إذا جاء ورأى أهل الزاوية نائمين أو يلعبون ويمزحون فترت همته عن الحضور..ولا ينبغى للشيخ المسامحة قط بتأخير المجاورين الوضوء حتى يؤذن فتفوتهم صلاة الجماعة ، وليس للمقيم الصحيح فى الزاوية عذر فى التأخير إلاالكسل ، وينبغى له معاتبة كل من غاب من الفقراء عن صلاة الجماعة أو عن مجلس الذكر ولو بالنوم )[14].

ويعنى ذلك أن الكيل قد طفح فهب الشعرانى ينبه الأشياخ المعاصرين للحزم فى معاملة تاركى الصلاة من ساكنى الزوايا والذين لا عمل لهم إلا العبادة والتصوف ، فإذا بهم يتكاسلون عنها بالنوم واللغو والمزاح .. حتى أن المصلين الآخرين يتأثرون بهم وهم دائماً يتخذون من الصوفية القدوه والمثل ..

وكل المطلوب من أولئك هو بعض الركعات الخفيفة التى لا حضور فيها. لكى تحفظ صورتهم نقية أمام الوافدين على الزوايا من المعتقدين فى الصوفية ..هذا هو هدف الشعرانى .



[1]
النفحات الأحمدية 234.

[2]النصيحة العلوية 280.

[3]الجواهر السنية 39.

[4]شذرات الذهب جـ5/364.

[5]المنهل الصافى . مخطوط جـ5/191.

[6]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/14.

[7]لطائف المنن لابن عطاء 146.

[8]شذرات الذهب جـ 7/ 299.

[9]الدرر الكامنة جـ2/495.

[10]الطالع السعيد171.

[11]الجواهر والدرر176 .

[12]الشعرانى .الميزان الخضرية 165 :166: 167 :169.

[13]تعطير الأنفاس 228، لطائف المنن لابن عطاء 103.

[14]البحر المورود 331: 332.

اجمالي القراءات 13166