أثر التصوف فى شعيرة الصلاة فى مصر المملوكية
ج 2 ف1 أولا : إهمال الصلاة الإسلامية فى مصر المملوكية

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٧ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الأول :أثر التصوف فى شعيرة الصلاة  فى مصر المملوكية

أولا : أهمال الصلاة الإسلامية:

*  : إهمال الوضوء :

فريضة الوضوء تسبق الصلاة ،وإهمال الوضوء – والإستنجاء- تحت أى دعوى يحمل فى طياته إهمالاً للصلاة ،  إذ كيف تصح صلاة بلا طهارة..

 وقد كان من فضائل الصوفى وكراماته أنه يبقى بلا حاجة إلى وضوء مدة تطول حسب درجته فى الولاية أو على قدر كمية الكذب فى الرواية .. يقول ابن العماد فى ترجمته شمس الدين الكردى ت 811 نزيل القاهرة ( كان يذكر أنه يقيم أربعة أيام لا يحتاج إلى تجديد وضوء )[1]. وذكر اليافعى أن أحدهم ( صلَى بوضوء واحد اثنى عشر يوماً) ،وعد ذلك من كراماته [2]، وذكر الشعرانى أن أبا السعود الجارحى كان ينزل فى سرداب تحت الأرض ( من أول ليلة فى  رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام وذلك بوضوء واحد )[3]. ونحن مطالبون بتصديق الشعرانى والجارحى مهما طال مكثه فى ذلك السرداب ، مع أن السرداب يوحى بقضاء الحاجة ويشجع عليها..

وأشهر الصوفية فى هذا المجال العفن هو تاج الدين الذاكر وقد تناقلت المصادر حكايته نقلاً عن الشعرانى ..وفيه يقول الغزى ( كان تاج الدين الذاكر يمكث إثنى عشر يوماً لا يتوضأ عن حدث ،(أى بول وبراز) ولم يعرف ذلك لأحد فى عصره إلا للشيخ أبى  السعود الجارحى)  [4]. أى أنها مباراة عقدها العصر العثمانى وفاز فيها الإثنان معاً،كل منهما يظل بدون بول وبراز طيلة هذه المدة ،وبالتالى لا يتوضأ. ومطلوب منا أن نصدق ذلك .

ويقول فيه ابن العماد الحنبلى ( كان لا يتوضأ عن حدث إلا كل سبعة أيام ،وسائر طهارته تجديد ،وانتهى أمره أنه إلى أنه كان يمكث اثنى عشر يوماً لا يتوضأ عن حدث ،ولم يعرف ذلك لأحد فى عصره إلا للشيخ أبى السعود الجارحى ، وقال عند موته إن له أربعين سنة يصلى الصبح بوضوء العشاء)[5].

   وقد نقل الغزى هذه المعلومات عن الشعرانى الذى عرض لذلك فى ( تنبيه المغترين)[6]،وقال عنه فى ( لواقح الأنوار)[7]،( كلما يصلي .. مايجدد الوضوء ، وكان لا يدخل الخلاء إلا من الجمعة إلى الجمعة ،وبقية الأُسبوع كله على طهارة ليلاً ونهاراً مع أكله وشربه على حكم عادة الناس ، وكل شيء نزل جوفه إحترق من شدة الحال ). والجملة الأخيرة هى مربط الفرس فمن كرامات صاحبنا أن شدة الحال عنده تحرق فضلاته وهو على أى حال تجديد فى الفكر الصوفى فيما يخص موضوع الإستنجاء والخلاء كمجالات إقتحمتها الكرامات الصوفية ..

   إذ يقول الشعرانى فى معرض حديثه عن كراماته ( .. وعزم عليه جماعة فى جامع ابن طولون فدعوه إلى ناحية الجيزة فى الربيع ، وصاروا يعملون له الخراف والدجاج واللبن بالأرز وغير ذلك وهو يأكل معهم من ذلك كله ، ثم لايرونه يتوضأ لا ليلاً ولا نهاراً مدة تسعة أيام [8].. اى أن شهرة تاج الدين الذاكر فى هذا المجال تطلبت إجراء تجربة فاز فيها بلا شك بألوان من الأطعمة المسهلة وخرج منها ناجحاً إذ لم يتوضأ وكان يصلى بالوضوء الوحيد الذى حافظ عليه طوال المدة .. واعتقدوا فى صدقه ، إذ كيف يكذب الولى؟. وما سأل  أحدهم عن جدوى ذلك كله والماء قريب ووفير؟؟. ولكنها الرغبة الصوفية فى الإستهزاء بالصلاة والطهارة فرائض الله تعالى ،فالصوفى يدعى كرامة له فى أنه لا يتبول ولا يتبرز ،ثم يصلى بلا وضوء ، ويصدقه الناس ، بل يقيمون له الولائم ليشاهدوا كراماته.

 وإذا كان ترك الوضوء فضيلة صوفية تستحق أن يقول تاج الدين الذاكر ليلة وفاته أنه حافظ عليها أربعين سنة ، فإن صوفياً آخر هو يوسف الحريثى اعترف بذلك للشعرانى ليلة أن توفى فقال له (خرجت من الدنيا وما عرفت أن أتوضأ )[9]. وهو بلا شك أفضل من تاج الدين الذاكر فلم يصبغ ذلك بكرامة أوافتراء، وإنما صدق مع نفسه فقال الحقيقة مجردة ،أنه أمضى حياته دون أن يتوضأ ،وبالتالى دون أن يصلى .

* صوفية لا يعرفون الوضوء ولا الصلاة :

  وقد سأل الشعرانى أحد الأشياخ المعتقدين فى عصره عن شروط الوضوء والصلاة فلم يعرفها، وكانت النتيجة أن غضب منه الشيخ الصوفى وقاطعه [10]، وأجبر بعضهم الشيخ بركات الخياط على أن يؤدى صلاة الجمعة فقال (مالى عادة بذلك ولكن لأجلكم أصلى اليوم) وتعلم على أيديهم كيفية الوضوء[11].

   وقيل فى ترجمة أبى بكر البجائى المجذوب المعتقد (كان يفطرفى نهار رمضان ولا يتوضأ ولا يصلى)[12]. أما الشيخ ابن عصيفير فى عهد الشعرانى فقد (ترك الصلاة حتى صلاة الجمعة والجماعة وصار لايستنجى قط)[13]

* صوفية لا يصلون  :

هناك أسطورة صوفية مشهورة عن رجل انقطع فى جزيرة ، وحدث أن وصل إليها بعض الناس ،وحزنوا حين وجدوا ذلك الرجل الطيب لا يعلم الصلاة فعلموها له وتركه فى الجزيرة ، وأبحر بهم مركبهم ، ففوجئوا بالرجل يلحقهم يمشى على الماء يطلب منهم أن يعيدوا تعليمه لأنه نسى الصلاة،فعجبوا منه وتركوه، لأنه ـ وقد عرفوا درجته وكرامته ـ  ليس فى حاجة إلى صلاة[14]..وهذه الأسطورة التى تقرب لأذهان العوام مبدأ إسقاط التكليف كانت عاملاً  ساعد على تحلل الكثيرين من الصوفية من فريضة الصلاة ما داموا قد وصلوا وتحلوا بالكرامات وشهد لهم عصرهم بذلك .. حتى أن اليافعى روى مفتخراً أنه قيل لأحدهم : لم لا تصلى ؟(فتكلم بكلام عجيب وأنشد شعراً)[15]  أى أن كلامه العجيب وشعره يكفيانه حجة له على تركه الصلاة ..

  2- ولم يعدم الصوفية وسيلة يبررون بها تركهم للصلاة ويرفعون بها من شأنهم فى الطريق الصوفي فى نفس الوقت ،فالفرغل ذلك الأمى الذى لا يحفظ القرآن كان لا يصلى محتجاً بأن له فى كل إقليم بدناً أى جسداً(فواحد من الأبدان يصلى والباقى ليس عليهم ذلك)[16]

  3- والمجذوب مقامه كبير عند الصوفية وهو بالطبع لا يكلف فقلبه جذبه الرحمن (تعالى عن ذلك علواً كبيراً) يقول الدسوقى (من غاب بقلبه فى حضرة ربه لا يكلف فى غيبته)[17]والمجذوب مستمر فى غيبته لذا ارتفع عنه التكليف .لذا كان أداء المجذوب للصلاة ظاهرة تسترعى النظر من المؤرخين المعاصرين له ،يقول ابن الصيرفى فى ترجمة الشيخ صالح المجذوب 876(كان يصلى ويتعبد مع جذبته)[18]

  4- وترتب على إهمالهم للصلاة أن أهملوا القرآن الكريم فلم يحفظوا منه ما يستعين  به المسلم على صلاته وقد قلنا أن الفرغل كان لا يحفظ القرآن[19]، وتفوق عليه آخرون فكانوا لا يحفظون الفاتحة نفسها ،فقد ورد فى التبر المسبوك أن بعض كبار الصوفية عقد لهم السلطان مجلساً للتحقيق فى بعض إنحرافاتهم وسأل المشايخ عن قراءة الفاتحة فلم يحسنوا قراءاتها[20].

  5- وبعضهم لم يكتف بترك الصلاة وإنما كان يعاقب من له عليه سلطان إذا صلى ، مثل الشيخ شهاب الدين النشيلى وقد ترجم له الشعرانى فقال فيه (وكان الشيخ شهاب الدين الطويل النشيلى   ينادى خادمه وهو فى الصلاة فإن لم يجئه مشى إليه وصكه ومشى به ، وقال كم أقول لك لا تعد تصلى هذه الصلاة المشئومة ،فلا يستطيع أحد أن يخلصه منه)[21]. ونفهم من النص أن ذلك كان يحدث مراراً وتكراراً ، والشعرانى يكتب هذه الحادثة عن شيخه النشيلى فى معرض الفخر به ومدحه .

 * ترك صلاة الجمعة و الجماعة :

  وهى صلاة طابعها الظهور ،وإهمالها يعنى إهمال الصلاة الأخرى التى تؤدى بإنفراد ،وقد يتدرج الصوفى من ترك الصلاة المنفرة الى ترك صلاة الجمعة والجماعة كما قيل عن ابن عصيفير سالف الذكر (ترك الصلاة حتى صلاة الجمعة والجماعة )[22]. ، وقد توحى بعض الروايات الصوفية أن بعضهم كان يهمل فى صلاة الجماعة والجمعة فحسب فقد سئل أبو العباس المرسى عن صوفى شهير لا يحضر صلاة الجمعة [23]، ويقول الشعرانى محتجاً على صوفية عصره (كثير من سكان المساجد يفرطون فى الوضوء أول الوقت حتى تفوتهم صلاة الجماعة بحجة أن الوقت متسع ، وكثير من لا يواظب على صلاة الجماعة)[24]، وإذا كان أولئك وهم سكان المساجد يتباطئون عن صلا ة الجماعة فيها – وأنظار المصلين الوافدين للمساجد تتجه إليهم ، فكيف بالآخرين فى حرصهم على الصلاة ؟ .أو كيف بهم فى تأدية الصلاة على إنفراد ؟ وهم وإن أعرضوا عن الإنكارعليهم بترك الصلاة فى جماعة فهم فى ترك الصلاة المنفردة أولى بالإنكار عليهم .

  ويقول الصفدى عن الصوفى الشهير فى عصره ابن عبد الله المرشدى 737 (أقام مسجداً ومنبراً للخطيب يوم الجمعة ، وكان يأمر الناس بالصلاة ولم يصل مع أحد ، وصلاة الجماعة لا يعدلها شيء ، وأمره غريب والسلام)[25]، فالصفدى يتعجب من شأن المرشدى المشهور بالكرامات والضيافات ، كيف أنه يأمر بالصلاة ولا يُرى مصلياً ، ويبدو أن الصفدى لم يعرف بالقاعدة الصوفية التى تقول بإسقاط التكليف على الصوفى الواصل .

 



[1]
شذرات الذهب جـ7/093

[2] روض الرياحين 179

[3]الطبقات الكبرى جـ2 /01

[4]الغزى الكواكب السائرة ج1ـ/258

[5]شذرات الذهب ج8ـ / 110 : 111.

[6]89 .   

[7]17 .

[8]الطبقات الكبرى جـ2 / 117 .

[9]الطبقات الكبرى جـ2/132

[10]تنبيه المغترين 13، لطائف المنن516 الطبقة   

القديمة .                                              

[11]أخبار القرن العاشر مخطوط 199

[12]عقد الجمان مخطوط لوحة 419سنة 797

[13]الطبقات الكبرى للشعرانى ج2ـ/127.

[14]الكواكب السيارة 270 .

[15]روض الرياحين36 .

[16]مناقب الفرغل 19مخطوط.

[17]الطبقات الكبرى جـ1/143.

[18]إنباء الهصر 458 .

[19]مناقب الفرغل 17 .

[20]السخاوى :التبر المسبوك 105 .

[21]الطبقات الكبرى جـ2/127.

[22]الطبقات الكبرى جـ2/127.

[23]لطائف المنن لابن عطاء 103 .

[24]لواقح الأنوار30 :31 .

[25]أعيان العصر مخطوط جـ6، 1 /47.

 

اجمالي القراءات 9626