ج1 ب1 ف 5 : دعوات متطرفة فى القرن التاسع

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٣٠ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

    كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

 الباب الأول :مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى      

الفصل الخامس :المرحلة الثالثة للعقيدة الصوفية : رفض الإسلام صراحة

دعوات متطرفة فى القرن التاسع

ادعاء الصعود للسماء :

1 ــ يقول ابن إياس في حوادث 819 ( ظهر في القاهرة شخص أعجمي يدعي أنه يصعد إلى السماء ويكلم الباري عز وجل  في كل يوم مرة ، وأنه صرفه في الكون ، فاعتقده جماعة كثيرة من أهل مصر ، فلما شاع أمره بين الناس رسم السلطان " شيخ " أن يعقد له مجلس بالمدرسة الصالحية ، فاجتمع بها القضاة الأربعة ، فأراد المالكي أن يضرب عنقه.. فشهد جماعة من الأطباء بأن في عقله خللا فسجنوه ، ولم يثبت عليه الكفر،وصار مع المجانين ...) [1]. وتمتع ذلك المدعي  - كسابقه – بتصديق العامة حتى أهتم السلطان بأمره وتطلب الأمر عقد جلسة للتحقيق في صدق دعواه وانتهت قصته النهاية المعروفة وهي تخليصه من القتل بحجة الجنون .. فكان الادعاء سهلا في بدايته وعاقبته .

وقد حضر ابن حجر محاكمة ذلك الصوفي الأعجمي ، يقول أنه في مجلس سماع الحديث بالقلعة مع السلطان سئل عن الحكم في شخص بزعم أنه يصعد إلى السماء ويشاهد الله تعالى ويتكلم معه، فاستعظموا ذلك ، فأمر السلطان بإحضاره – ووصف ابن حجر الرجل – وقال أن السلطان (سأله عن أمره فأعاد ذلك ، وزاد بأنه كان في اليقظة ، وأن الذي رآه على هيئة السلطان في الجلوس ،وأن رؤيته تتكرر مراراً كثيرة ، فاستفسره عن أمور تتعلق بالأحكام الشرعية فظهر أنه جاهل بأمور الديانة  ، ثم سئل عنه فقيل أنه يسكن خارج باب القرافة في تربة خربة ، وأن لبعض الناس فيه اعتقاد كدأبهم في أمثاله ) فاستفتى السلطان العلماء ( فاتفق رأيهم على أنه إن كان عاقلاً يستتاب فإن تاب وإلا قتل فاستتيب فامتنع ، فعلق المالكي الحكم بقتله على شاهدين يشهدان أن عقله حاضر ، فشهد جماعة من أهل الطب بأنه مختل العقل ، فأمر السلطان به بأن يقيد في المارستان فاستمر به ، ثم أطلق بعد موت السلطان )[2]. وحدث أن كان السلطان في عام 821 يتفقد أحوال المجانين في المارستان المنصوري ، فقام إليه ذلك المدعي فكلم السلطان أن يفرج عنه فلم يجبه [3]. ونستعيد قول المؤرخ ابن حجر العسقلانى : (وأن لبعض الناس فيه اعتقاد كدأبهم في أمثاله ) أى من السهل وجود أتباع يؤمنون بهذه المزاعم وأصحابها . 

2 ــ وسهولة الادعاء بهذه المزاعم والتهاون في العقاب شجعت البعض على إعلان التحلل من التكاليف الشرعية بدعوى المنامات ، كما حدث من الشيخ شمس الدين الميموني حين قال "  قد أباح لي سيدي اللواط والخمر والحشيش والفطر في رمضان". وشهد عليه جماعة وثبت ذلك عليه ، فاعتقل وأحضر إلى مجلس السلطان وفيه ابن حجر فأفتى بأن في عقله خللاً ، وأعلن الميموني توبته من رؤيا المنامات [4].

3 ــ وامتد الأمر للماليك فقيل في أزدمر الطويل أنه ( كان يخوض فيما لا يعنيه من سوء عقيدة ، واستخفاف بأمور الدين ، ويميل للمتصوفة )[5].

 في الريف

 وإذا كان هذا الحال في القاهرة – حيث السلطان والقضاة والعلماء وإهتمام المؤرخين ـــ فالحال في الريف أشد ، ومع الأسف فإن جل اهتمام المؤرخين انصب على تتبع أخبار القاهرة دون غيرها من المدن الهامة ، ولا نقول الأرياف حيث الجهل أشد إظلاماً وسيطرة التصوف أعتى استحكاماً .

على أن بعض حوادث الزندقة –  حين زادت وفاضت – وصل أمرها إلى علم المسئولين بالقاهرة ، يقول أبو المحاسن في حوادث سنة 866 ( ورد الخبر من كاشف الغربية وغيره ، بأن في قرية ططية بالوجه الغربي من أعمال القاهرة جماعة زنادقة ، وفيهم من ادعى الألوهية ، ومنهم من ادعى النبوة ، وانضم عليهم جماعة كثيرة من أوباش الناس ، ومالوا إلى معتقدهم ، ووقعت منهم أمور شنيعة ، وإن الكاشف أمسك منهم نحو أربعة عشر نفراً ، فأرسل السلطان إليهم القاضي ابن الوارث أحد نواب الحكم المالكية والناصر محمد الخازندار لينظروا في حقيقة أمرهم ويفعل فيهم مقتضى الشرع .. وأحضر الزنادقة فأنكروا أمام السلطان فحكم القاضي بتعزيرهم .. )[6]. فأولئك كثرة ادعى بعضهم الألوهية وآخرون النبوة .. وبعث بأمرهم (كاشف الغربية وغيره ) . وذلك لأن أتباعهم كثروا هنا وهناك ، ولنهم صاروا كثرة ولهم قوة  فقد :( وقعت منهم أمور شنيعة ) ووصل أمرهم للكاشف ، أى الأمير المملوكى ( كاشف التراب ) اى ( المحافظ ) بتعبير عصرنا . ولعل مصادمات حدثت بينهم وبين الكاشف إذ أنه( أمسك منهم نحو أربعة عشر نفراً ) فقط .. أي لولا تجاوز حركة أولئك الزنادقة دور الدعوة القولية إلى الدور الحركي ومناوأة السلطة الحاكمة ـــ  لولا ذلك لما عرفت القاهرة بأمرهم ولما سجلت ذلك حوليات التاريخ . ومعنى ذلك أن مدعي الألوهية والنبوة في الريف في مأمن من السلطان ومن الرصد التاريخي طالما اقتصروا على الدعوة  لأنفسهم ( بالحكمة والموعظة الحسنة .. ) .ثم إن الزندقة تحولت بعد القرن التاسع إلى شطحات يقولها المجذوب  كيفما شاء في أي وقت بدعوى غيابه عن الوعي فتكاثر المجاذيب في ذلك الوقت .. وأرخ لهم الشعراني [7].

إلى ذلك الحد بلغ اضطراب العقيدة الدينية في العصر المملوكي بأثر التصوف ، ولنضرب بعض الأمثلة :-

يا رب سلم الحيطة بتتكلم سنة 781:

ففي هذا الجو المقفر من عقيدة صحيحة حيث الناس على استعداد للاعتقاد في أي شئ ولو كان- حجراً صلداً – أُتيح لبعض الصوفية أن يعبث بعقول الناس ومعتقداتهم ويتجلى ذلك في واقعة (الحائط الذي يتكلم )، وبطلها شيخ صوفي كان يتمتع بتقديس برقوق هو الشيخ عمر ركن الدين ( وقد كان الناس يتبركون به ويزورونه لمدة ثلاثين عاماً ) ..وموجز الحكاية أن امرأة اشتكت لذلك الصوفي سوء معاملة زوجها لها ، فكان الصوفي يعظه ويوصيه بزوجته من خلف الحائط بحيث لا يدري من المتكلم، واشتهرت الإشاعة بأن حائطاً يتكلم ، وسار الصوفي في الطريق إلى نهايته ، فافتتن الناس بالحائط الذي يتكلم وتوافدوا عليه يسمعونه، يقول ابن حجر ( افتتن الناس به شهرين واعتقدوا أن المتكلم من الجن أو الملائكة ،وقال قائلهم ( يا رب سلم الحيطة بتتكلم ) وقال الشاعر ابن العطار :     يا ناطقا من جدار وهو ليس يُرى           اظهر وإلا فهذا الفعل فتان .

ويقول ابن إياس ( اشتدت فتنة الناس بالحائط حتى كادوا أن يعبدوه من عظم ما افتتنوا به ويتخذوه معبداً لهم ..) وكانوا يقدمون للحائط النذور والقرابين .. ثم اظهر المحتسب الحيلة وعوقب الفاعلون [8]..



[1]
تاريخ ابن إياس جـ 2 / 28 : 29   . 2 – جـ 2 / 4 .

 

[2] إنباء الغمر جـ 3 / 99 .

[3] إنباء الغمر جـ 3 / 163 .

[4] إنباء الغمر جـ 3 /249 .

[5] الضوء اللامع جـ2 / 273 : 274 .

[6] حوادث الدهور جـ3/ 419 : 420 .

[7]  ترجم الشعراني للأكثرية منهم في الطبقات الكبرى في نهاية الجزء الثاني ، وهى (ظاهرة ) أن يكون أكثر الصوفية المعتقدين المقدسين في القرن العاشر من المجاذيب .

[8] إنباء الغمر جـ 1 / 198 : 199 ، السلوك جـ 3 / 1 / 361 : 364 . النجوم الزاهرة جـ 11 / 172 : 173 ، ابن إياس جـ / 1 / 2 / 246 : 247 .

اجمالي القراءات 6986