ج1 ب1 ف 3 : أثر ابن تيمية العكسي في ازدهار عقيدة وحدة الوجود الصوفية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٥ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية  من خلال الصراع السنى الصوفى                  

 الفصل الثالث: (وحدة الوجود وصراع الفقهاء مع الصوفية من أتباع ابن عربي  في القرنين السابع والثامن الهجريين)

:  أثر ابن تيمية العكسي في ازدهار عقيدة وحدة الوجود الصوفية

 أولا :  آثار حركة ابن تيمية على بعض خصومه من الصوفية

هجوم بعض الصوفية على ابن عربي

( علاء الدين البخارى )

بعض دهاة الصوفية بادر بالهجوم على ابن عربي وابن تيمية في نفس الوقت مخافة أن يتطرق الإنكار إلى هدم مبدأ التصوف .ومن أولئك علاء الدين البخاري ، وقد كان يبالغ في الحط على ابن تيمية وتكفيره حتى ثارت فتنة بسبب ذلك في الشام [1]..

وقد صنف علاء الدين البخاري رسالة في نقص مذهب الاتحاد سماها ( فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين ) ، قال في آخرها ( أنهم يسمون كفرة وملاحدة وزنادقة ) ووصف ابن عربي بأنه ( كان كذاباً حشاشاً كأوغاد الأوباش ) ، وقال عن الفصوص ( أفتطمعون من مغربي يابس المزاج يأكل الحشيش شيئاً غير ذلك ) [2].. وحاول البخاري أن يخرج ابن عربي وأصحابه من دائرة التصوف والأولياء ، يقول ( إن الملاحدة عبروا عن ضلالهم بعبارات العارفين بالله يتسترون بها في زندقتهم ، فينبغي الحذر من ذلك ، فأراد بالفناء نفي حقائق الأشياء .. وذلك غير ما أراد العارفون فإنهم أرادوا بها معاني يصدقها الشرع ) [3] .وواضح خوفه من وصول الإنكار إلى ابن عربي إلى درجة اتهام التصوف نفسه ..

القاضى البساطى

والطريف أن قاضياً للقضاة متعاوناً مع الصوفية ويدين بالتصوف – وهو البساطي- قد فوجئ بموقف علاء الدين البخاري ، فقد قال في مجلس عقد في القرن التاسع – أن كلام ابن عربي يمكن تأويله – وقصد بذلك نفاق علاء الدين البخاري وكان حاضراً المجلس ومعه ابن حجر وعبد الرحمن التفهني والعيني والسيرامي وابن نصر البغدادي وأبو بكر القمني وابن الأمانة وابن تقي الدين المالكي ، فقال له البخاري على رءوس الأشهاد : كفرت .. وسلم له من في المجلس بتكفيره ، وما خلص البساطي إلا بالبراءة من اعتقاده أمامهم [4]..

ثم تشجع البساطي فاعتبر الاتحاديين وابن عربي ضمن القائلين بقدم العالم مع ابن سينا والفارابي ، وقال ( وأعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في  جماعة من المسلمين ، نشأوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة ، فلما حصلوا من ذلك على شيء صفت أرواحهم وتجردت نفوسهم وتقدست أسرارهم ، وانكشف لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه ) [5].

أي أنه يسلم لابن عربي بصفاء الروح وقدسية السر وقيام الكشف أو العلم اللدني ، ويجعل ذلك كله مؤدياً للقول بالاتحاد والوحدة مع أنه وصفها بالضلالة المستحيلة .. فهو يقترب بذلك من رأي العلاء البخاري وإن كان أقل منه مهارة في التلفيق ..

وقد قام البساطي سالف الذكر بشرح تائية ابن الفارض بنفس المنهج الرامي إلى التوفيق بين عقيدة ابن الفارض فيها والإسلام ، وذلك لصالح الاتحادية ، وقد تكلم على الأبيات على وجه يظهر منها حملها على موافقة الشرع فإن عجز صرح باعتذارات الصوفية [6].

والبساطي معذور ، فللبخاري نفوذ في الدولة ، وكان قد تعصب ضد البساطي في المجلس وأقسم بالله إن لم يعزل السلطان القاضي البساطي ليخرجن من مصر ، وأمر السلطان بإحضار القضاة عنده فتبرأ البساطي من مقالة ابن عربي وكفّر من يعتقدها ( وذلك حتى لا يُعزل ، واسترضى السلطان علاء الدين وسأله ألا يسافر ) [7] . وفي ذلك يقول أبو المحاسن عن البخاري ( أنه عزل قاضي القضاة المالكي محمد البساطي وتشاجر معه لأنه حاول أن يؤول كلام ابن عربي ويدافع عنه ) [8]  . وكان البخاري ينهى الناس عن مطالعة كتب ابن عربي ، ومثله في ذلك كان الصوفي الإتكاوي 834 في القرن التاسع ، مع اعتقاده بعرفان ابن عربي وكماله [9] .

ومعنى ذلك أن تأثير ابن تيمية استمر إلى نحو منتصف القرن التاسع في الصوفية الرامين لخدمة الطريق الصوفي وإنقاذه من خطر ابن تيمية ..

ومع ذلك فإن أولئك الصوفية المنكرين على ابن عربي كانوا تلاميذ لقطب الدين بن ميمون في القرن السابع ،وقد اشتهر بإنكاره على الاتحادية وكتب فيهم مبتدئاً بالحلاج ، وختم بالعفيف التلمساني ،إلا أنه يقول في شعره :

       لما رأيتك مشرقاً في ذاتي          بدلت من حالي ذميم صفاتي

وهي قصيدة طويلة علق عليها ابن الفرات المؤرخ بقوله (ما قال عفيف التلمساني في شعره إلا هذا أو ما يقاربه ، وهذا هو طريق القوم الذين أنكر عليهم [10] .أي ينكر على الصوفية الاتحادية ، ويقول مثلهم .

ولولا ابن تيمية ما وجد في القرن التاسع من ينهج منهج ابن ميمون المعاصر لابن عريي ،إذ أن المنطقي في حكم التاريخ أن يزدهر طريق التصوف باضطراد ، ويقل الإنكار عليه وتجتمع آراء الصوفية على عقيدة واحدة بلا نفاق .. إلا أن حركة ابن تيمية أجبرتهم على الهجوم على ابن عربي ، ولكن بهجوم صوفي يثبت العقائد الصوفية ولا ينفيها .

ثانيا : أثر ابن تيمية العكسي في ازدهار عقيدة الاتحاد الصوفية :

إلا أن لابن تيمية أثراً غير مباشر في ازدهار عقيدة الاتحاد الصوفية ،على غير قصد منه طبعاً .. وترجع هذه المفارقة إلى أن ابن تيمية – مع تفوقه على أقرانه من الفقهاء- فقد كان ابنا لعصره الذي دان بالتصوف ، وهذا التسليم من ابن تيمية للتصوف قضى على حركته المناوئة للصوفية المتطرفين بالفشل وحكم عليه بأن يعيش بين سجن ونفي ومعاناة .

وحتى لا تتشابك عناصر هذه القضية فإننا نبسطها في النقاط التالية :-

ا ) يرى ابن تيمية في التصوف رأيا حسناً ، ويقول عن الصوفية ( إن الصوفية مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، ففيهم السابق بحسب اجتهاده ،وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين .. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً ، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره ) [11] .

وواضح أن ابن تيمية مخدوع بالجنيد ومنافقي الصوفية الأوائل ، ويرى أن أصحاب الوحدة والاتحاد ليسوا من الصوفية ، وعلى ذلك تتضاءل المسافة بينه وبين خصمه الصوفي علاء الدين البخاري فكلاهما ينشد إصلاح الطريق الصوفي من شرور ( أصحاب البدع والزندقة ) .. بل إن ابن تيمية يقول في الجنيد مقالة الصوفية فيه يقول ( .. فإن الجنيد قدس الله روحه وكان من أئمة الهدى ، فسئل عن التوحيد فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم ) [12] .

ب ) ويعتقد ابن تيمية بكرامات الصوفية حتى ممن يعتبرهم أولياء للشيطان ، يقول عنهم ( وهؤلاء يأتيهم  أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة .. وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات ( يعني ابن عربي ) أنه ألقى إليه ذلك الكتاب .. وأعرف من هؤلاء عدداً ، ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود ، ومنهم من كان يؤتي بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به ، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس ) [13] .( ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما ، ومنهم من يحمله عشية عرفه ثم يعيده في ليلته .. ومن هؤلاء من إذا أحضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ..) [14] .وذلك التصديق بإدعاءات الصوفية وإمكانية حدوثها فعلاً : هو اعتقاد العصر المملوكي الذي لم يستطع ابن تيمية الخروج عنه ، وإن رده إلى فعل شيطاني يناسب رأيه فيهم باعتبارهم كفرة ..

ج) وابن تيمية حين ثار على صوفية عصره فإنما ثار على بيئته ، قد ترسبت معتقداتها في داخل نفسيته . ويتضح  ذلك في قراءتنا لهذا النص من مخطوطة ( تكسير الأحجار ) عن ابن تيمية وصحبه حين قام معهم لهدم وثن أى ضريح صوفي يقصده الناس بالعبادة والتقديس ( .. بلغه ما يفعله الناس عند العامود المخلق فشدّ عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره ) وبعد أن وصف الكاتب اجتماع الناس معهم ثم تراجعهم رويداً رويداً مخافة التعرض للغضب المزعوم للولي المدفون قال : ( وصحنا على الحجارين ( أي من يهدمون الحجارة ) دونكم وهذا الصنم ، فما جسر أحد منهم يتقدم إليه ) ثم قال ( فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم وضربنا فيه ، وقلنا جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ، وقلنا إن أصاب أحداً منه شيء نكون نحن فداه ، وتتابعنا الناس فيه بالضرب حتى كسرناه فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسدة مصورة كل صنم منها نحو شبر ونصف ) [15] .

فمع أن فقه ابن تيمية حمله على القيام لكسر ذلك العمود المقدس إلا أن رواسب التصوف التي أرضعتها له البيئة الصوفية لعصره قد جعلته ( يستخير الله في الخروج ) ،وعندما تقهقر الناس خوفاً استمر هو ، إلا أن شجاعته في الإقدام لم تخل من خوف زرعته في قلبه عقائد التصوف المتحكمة في البيئة والعصر ، وأظهر له تراجع الناس من حوله ، فقال ( إن أصاب أحداً منه شيء نكون نحن فداه ) ، أي أنه يسلم بمقدرة تلك الأصنام على الأضرار ، وتشجع ليفدي الناس من ضررها بنفسه ..

د) وإخلاص ابن تيمية لعصره وما ساده من تقديس للصوفية – جعله يفقد الطريق الصحيح في حربه لصوفية عصره المغالين ، فطاشت سهامه في حروب متفرقة ضد متطرفي الصوفية من أتباع ابن عربي أو من فقراء ( أى الصوفية ) الأحمدية ( أتباع أحمد البدوى ) الذين كانوا يلعبون بالثعابين ويمارسون الشعوذة .. فصرفه ذلك كله عن الهدف الأصلي المنتظر منه باعتباره مستكملاً لأدوات الاجتهاد السّنى  كما قيل فيه .. فصاحب الاجتهاد يخرج باجتهاده عن إطار عصره ويسمو على تقليد المعاصرين .. فكان ينبغي على ابن تيمية أن يدرس باجتهاده عقائد الصوفية الأوائل بدءاً  بالجنيد وانتهاءاً بالغزالي ويحكم عليهم بالقرآن ، ويحارب مبدأ التصوف من أساسه ويبتعد قدر الإمكان عن التعرض لأشياخ الصوفية في عصره حتى لا يصطدم بنفوذهم ، ويجعل من ذلك الأساس الذي تقوم عليه مدرسته في حرب التصوف باعتباره عقيدة تناقض الاسلام ،  ثم يعرض عقائد الفقهاء وأحاديثهم المنسوبة للنبى ايضا أيضاً على القرآن ليرى ما فيها خلل . واعتقد أن ذلك لو تم لوفر ابن تيمية كثيراً من الوقت ولأراحه من كثير من الاضطهاد ولأصاب التصوف في الصميم  ، ولأنقذ عصره من كثير من المعتقدات المخالفة للإسلام .

إلا أن ابن تيمية أصر على أن يشارك بثورته في كل ميدان ، وصمم على أن تصل سهامه إلى السياسة أيضاً .. فحكم على نفسه بمزيد من العنت والاضطهاد لأن مقاييس ( السياسي ) في عصره لم تتوافر فيه ..

والأهم من هذا إن فشله السياسى أضاع ثمرة حركته الجهادية السنية ضد خصومه الصوفية ، فكسبوا الحرب ضده ، وأنتعشت عقائدهم فى وحدة الوجود بتأثير فشل ابن تيمية سياسيا و دينيا . فكيف فشل ابن تيمية سياسيا ؟



[1]
إنباء الغمر جـ3/ 477 .

[2] تنبيه الغبي 182 : 183 .

[3] تنبيه الغبي 186 : 187 .

[4] إنباء الغمر جـ3/ 403 حوادث 831 .

[5] تنبيه الغبي 170 .

[6] تنبيه الغبي 174 .

[7] إنباء الغمر جـ3/ 404 .

[8] المنهل الصافي .مخطوط جـ5 / 249 .

[9] الطبقات الكبرى للمناوي مخطوط 340 .

[10] تاريخ ابن الفرات جـ 8 /60 :61 .

[11] ابن تيمية : الصوفية والفقراء 16 .

[12] الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان : 100 ط صبيح .

[13] الفرقان بين أولياء 99 .

[14] الفرقان بين أولياء 141 :142 .

[15] تكسير الأحجار مخطوط 140 : 141 .

اجمالي القراءات 8410