ج1 ب1 ف 2 : ابن عربى يشرح عقائد الغزالى والجنيد الصوفية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٨ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية  من خلال الصراع السنى الصوفى                  

 الفصل الثانى : ( المرحلة الثانية للعقيدة الصوفية  من بعد الغزالي ( 505 ) إلى ابن عربي ت 638 هـ:)

 ابن عربى يشرح عقائد الغزالى والجنيد الصوفية

مدخل :

1 ــ سنقصر الحديث على دور ابن عربي في توضيح ما أبهمه وأجمله المتصوفة المنافقون والموفقون بين الإسلام والتصوف . وبذلك نحقق أكثر من هدف . أولاً : نثبت وحدة العقيدة الصوفية بين أقطاب التصوف جميعا عبرالسنين ما بين معتدل ومتطرف . ثانيا : نبرز أهمية الأرضية التاريخية في فهم التاريخ الديني للتصوف ، ونؤكد على أهمية العمق التاريخي  في بحث الأديان الأرضية التي استشرت في تاريخ المسلمين  وأن من الخطأ بحثها بمعزل عن ( الأرضية التاريخية ) لها لأنها ( أديان أرضية ) نبتت فى ( ارضية تاريخية ) متأثرة بعوامل تاريخية وإجتماعية وسياسية .  ثالثاً : نؤكد وجهة النظر التي نأخذ بها ، وهي أن الصراع الديني بين عقيدتي الإسلام والشرك لم ينته بانتصار الإسلام مؤقتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو مستمر ، ولكن تحت رايات مختلفة .  غاب الاسلام دينا من الساحة ، وأصبح إسمه مثار نزاع بين أديان أرضية مختلفة كل منها يريد أن يحكر لنفسه (الاسلام الصحيح ) . وبهذا أتيح  للشرك أن ينتصر قرونا تحت رداء السّنة ، ثم أتيح للتصوف أن ينتصر على الحنبلية السنية المتشددة تحت شعار ( التصوف السنى ) ، بل وأن يفرض التصوف عقيدته الأساسية فى وحدة الوجود. ـ ومعلوم أن وحدة الوجود أكثر أنواع الكفر والشرك تطرفاً لأنها تنفى الألوهية عن رب العزة وتحصرها فى المخلوقات. ومع ذلك فابن عربي هو عند الصوفية ( الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر ) ولم يطلق عليه لقب ( الشيخ الأكبر ) عبثاً ، فهو الشيخ  الأكبر لأنه الأجرأ ولأنه الأصرح ، ولأنه الذي قال بالعقيدة الأسمى للصوفية . ودليلنا الأساسي في عقيدة ابن عربي هو كتابه ( الفصوص ) أجرأ ما كتب في وحدة الوجود وعقائد التصوف .

أولا : يقول ابن عربي في ( فص حكمة إلهية في كلمة آدمية ) :

1 ــ ( لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء ، أن يرى أعيانها ، وإن شئت قلت أن يرى عينه ، في كون جامع يحصر الأمر كله ، لكونه متصفاً بالوجود ويظهر به سرُّه إليه ، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فإنه  يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المجل ولا تعطيه له ، وقت كان أوجد العالم كله وجود شبح سوي لا روح فيه ، وكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي إنه ما سوّى ( أي خلق ) مجلو إلا ولابد أن يقبل روحاً إلهياً ،عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض المتجلي الدائم الذي لا يزال ولم يزل ، وما بقى إلا قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس ، فالأمر منه كله ، ابتداؤه وانتهاؤه ،  وإليه يرجع الأمر كله ، كما ابتدأ منه ، فاقتضى وجود الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة  وروح تلك الصورة ) [1].ـ فابن عربي يرى أن الإنسان هو تجسيد لأسماء الله الحسنى ( التي لا يبلغها الإحصاء ) أو هو عين الله ( وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله ).

 ويردد ابن عربي هذه المقالة في موضع آخر في الفصوص ( .. ولذلك قال في خلق آدم – الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال – إن الله خلق آدم على صورته ، وليست صورته سوى الحضرة الإلهية ، فأوجدت في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية ..) [2]. وابن عربي يوضح بجلاء نظرة الصوفية لخلق آدم .. وهو أنه – آدم – امتداد الله وصورة له ونسخة منه ..

2 ــ وقد سبق " الجنيد " أن عرض لهذه النقطة في تفسيره لقوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ..الأعراف172) فقال ( فمن أين كان ؟ وكيف كان قبل أن يكون ؟ وهل أجاب إلا الأرواح الظاهرة بإقامة القدرة وإنفاذ المشيئة ؟ فهو الآن في الحقيقة كان قبل أن يكون . وهذا غاية حقيقة التوحيد . أن يكون العبد كما لم يكن ، ويبقى الله تعالى كما لم يزل   )[3]. فالجنيد يحاور ويدافع ليثبت أن الأرواح التي خاطبها الله وأخذ عليها العهد بالتوحيد إنما كانت جزءاً من الله ، وخلص من ذلك إلى أن غاية التوحيد ( أو عقيدة الصوفية ) هي أن  يفنى العبد عن بشريته الظاهرة ويعود إلى أصله الإلهي ( أن يكون العبد كما لم يكن ويبقى الله تعالى كما لم يزل ..).  ومعنى ذلك أن الجنيد – والصوفية – يعتقدون بأن الروح الإنسانية جزء من الله انفصلت عنه لتحل في الأجساد ، فإذا ترقى الإنسان بالرياضيات والمجاهدات علا على جسده الأرضي واتحد بخالقه وفني فيه ..

 3 ـ وقد تعرض الغزالي لهذه النقطة – حقيقة الروح الإنسانية – فأخذ يناور ويدور ليوحي بإسقاطات متعمدة بأن الروح البشرية جزء من الله ، مستخدماً في ذلك تأويل الآيات والاستشهاد بالأحاديث الباطلة ، يقول في شرح (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي : الإسراء 85 ) ( .. إذ بيَّن أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق ، وأوضح من ذلك قوله تعالى (  إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ : ص 26 )  إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة ، وإليه يرمز قوله تعالى ( إن الله خلق آدم على صورته ) حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا الله تعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً ، وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام : ( مرضت لم تعدني !! فقال: يا رب ، وكيف ذلك ؟ قال مرض عبدي فلان فلم تعده ، ولو عدته وجدتني عنده !!) ، هذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد أحكام الفرائض ، كما قال تعالى ( لا يزال يتقرب العبد إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ) . وهنا موضع يجب قبض عنان العلم فيه ، فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهرة ، وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد ، وقالوا بالحلول ، حتى قال بعضهم : أنا الحق ، وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا هو الله ، وقال آخرون منهم تدرع الناسوت باللاهوت ، وقال آخرون اتحد به ، وأما الذين انكشفت لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الحلول والاتحاد واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر ، فهم الأقلون ، ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر ، إذ غلبا الوجد في قول القائل :-لا زلت أنزل من ودادك منزلاً           تتـحير الألبـاب عـند نزوله . فلم يزل يعدو في وجده على أجمه قد قطع قصبها وبقى أصوله ، حتى تشققت قدماه وتورمتا ومات من ذلك ، وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها ، وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجوداً ) [4].

4 ــ  ولم يصل الغزالي إلى حل حاسم ، وهذا شأن من  يحاول التوفيق بين عقيدتين متضادتين ، وكل ما فعله هو أن أوٌل آيات قرآنية وأستشهد بأحاديث باطلة ، ثم جعل أصحاب الاتحاد من المسرفين فناقض نفسه بين التصوف والفقه ..أما ابن عربي فقد أعلن بحسم ألوهية آدم وأنه عبد الله حلت فيه روح الله ( .. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوٌى محلاً إلا ولابد أن يقبل روحاً إليهاً عبر عنه بالنفخ فيه .. فاقتضى وجود الأمر جلاء مرآة العالم فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة )..

5 ــ الرد علي ابن عربى والغزالى والجنيد :

5 / 1 : ولو كان الغزالي حسن النية لأدرك القول الفصل في حقيقة الروح فقد أبانها القرآن الكريم بما يتيح لأي عقل أن يفهم إذا خلصت عقيدته لله ..الروح المقصودة بقوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي : الإسراء 85 ) هي جبريل عليه السلام .. وله وظيفتان الأولى : نفخ النفس والثانية : النزول بالوحي على الرسل .. وقد تميز جبريل عليه السلام بهذا اللقب من دون الملائكة بقوله تعالى ({تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ..المعارج4) ، وعن يوم الحساب (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ..النبأ38 ) . ولذا يقول تعالى عنه أنه من أمره أن يصدر عن أمره ويعمل بأمره إذا قال كن فيكون .. وعندما خلق الله آدم أمر جبريل أن ينفخ فيه ، فيقول تعالى( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ : السجدة 9 ) . ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي  ..ص72 ) . فجبريل كانت وظيفته بث النفس في آدم . وقد قال الله تعالى عن خلق المسيح بلا أب (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ،خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ، ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ...آل عمران59) ولأن مريم عذراء لم يمسسها بشر فقد أرسل الله لها جبريل في هيئة بشر سوٌى  (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ،قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ،قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ...مريم17 : 19 )  وقال تعالى عن مريم أيضاً (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ..الأنبياء 91 ) إذن  فالروح هو هنا جبريل  ، في خلق آدم وخلق عيسى .والوظيفة الأخرى لجبريل هي النزول بالوحي على الرسل (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ..غافر15 ) وقال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ..الشعراء 193ـــ)

5/ 2  والملائكة لم تسجد لآدم نفسه وإنما سجدت لخالق آدم ، أي سجدت لقدرة الله تعالى إذا خلق من الطين المائع والحمأ المسنون هذا البشر . وقد أطاعت الملائكة وعصى إبليس ورد الأمر على الله واستكبر أن يسجد لمخلوق من طين محتقر بينما هو من نار السموم ( قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (.الحجر33 ) . وخطأ إبليس في أنه غفل عن المقصد من السجود ، فظنه مقصوداً بآدم لذاته فاستكبر ، بينما أطاعت الملائكة لأن الإسلام في حقيقته هو إطاعة أمر الله دون مناقشة . وجاء بعضهم يروج لنفس فكرته ويعتبرون سجود الملائكة لآدم تأليها لآدم حيث حلت فيه روح الله ، ويخلطون بين ذات الله تعالى المنزهة عن أن يكون لها نفس كالبشر – وهو الذي ليس كمثله شيء – وسائر المخلوقات ..

5/ 3 : بقى أن نرد على نظرية الصوفية في خلق آدم والكون .. فمعلوم أن تلك النظرية لا تتفق حتى مع استعمال كلمة ( خلق ) ، ففعل ( خلق ) يعني وجود ( خالق ) و ( مخلوق) وكلاهما مختلف عن الآخر .. إذ كيف تكون الصنعة عين الصانع .. والإنسان مثلاً لا يمكن أن يخلق إنساناً مثله ، ولم يخلق الإنسان إلا من له تمام السيطرة عليه والتحكم فيه ألا وهو الله تعالى .. فكيف يأتي الصوفية ويدعون أن الله خلق  نفسه أو عينه أو وحٌد بين نفسه وبين موجوداته ؟ وكيف يتأتي هذا من الله  الأحد الذي لا شريك له وهو لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ؟ وكيف يعبده الإنسان وهو يعلم أنه جزء من خالقه ؟!.بيد أن القرآن الكريم لم يقتصر على لفظ ( خلق) وإنما قال أيضاً ( فطر) ، ويعني أن الله خلق الأشياء على غير مثال سابق ، وخلقها من لا شيء أو من العدم ، يقول تعالى عن خلق البشر ( سَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. فاطر 51 )  وعن خلق الكون (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. فاطر 1 )  فلا عبرة حينئذ بتساؤل الجنيد الساذج ( فمن أين كان ؟ وكيف كان قبل أن يكون ؟) ، نقول له : لم يكن شيئاً مذكوراً ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ..الإنسان1)   ثم فطره الله أو خلقه من لا شيء ثم جعله شيئاً ، وقبل أن يوجد على مستوى الحس وقبل أن تنفخ الأنفس في الأجساد ، جمع الله تعالى الأنفس المخلوقة من لا شيء ، وأخذ عليها العهد بتوحيده .. هكذا نفهم قوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ..الأعراف172 ).

ثانيا:

1 ــ وقد وصف ابن عربي الإنسان بأنه تجسيد لأسماء الله الحسنى ... وحول هذه النقطة أخذ الغزالي – قبل ابن عربي – يداور ويحاور .. فبدأ يصف الإنسان بصفات الربوبية ضمن صفات أخرى ( فيقول تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات : صفات ربوبية ، وصفات شيطانية ، وصفات بهيمية ، وصفات سبعية . وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة ) ، وجعل من الصفات الربوبية في الإنسان ( الكبر والفخر والجبرية وحب الثناء والعز والغنى وحب دوام البقاء ، وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول أنا ربكم الأعلى .. ) [5].وفي ضوء فهمه لقوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) قال عن " الصفات الربوبية " ( أشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه ، فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء ، وكيف لا تكون أغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية ، والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية ، وعنه العبارة بقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [6]. ثم جعل صفة الربوبية في النفس البشرية مانعة للعبودية المفروضة على الإنسان ، يقول تعالى في حديث طويل عن (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ( فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود والكمال ، وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المفرد بالكامل ، ولذلك قال بعض الصوفية : ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكن ليس يجد له مجالاً ، وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس،والربوبية محبوبة بالطبع ، وذلك بالنسبة للربانية التي أومأ إليها تعالى في قوله (  قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [7]. ثم انتهى الغزالي إلى أن يجعل غاية الإنسان في أن يتحلى بصفات الله الحسنى يقول ( منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، وقد سمعت بعض المشايخ يقول : إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافاً له ، أي يكون له من كل واحد نصيب ) [8]. ـ وأراح ابن عربي نفسه وأراحنا من هذا العناء فقال بوضوح أن آدم ( هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال ) .

2 ــ وقد سار ابن عربي على طريقة الغزالي في ضرب الأمثلة على وحدة الوجود وتمثيل الله بالبشر والعكس .. يقول ابن عربي ( فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ) . وسبق أن أوردنا المثل الذي ضربه الغزالي بالشمس والماء الموضوع في طشت وترى الشمس من خلاله [9]. واستشهد الغزالي على أن ( الوحدة الوجودية لا تتنافى الكثرة العددية ) بأن الإنسان واحد وهو متعدد بأطرافه وجزئياته [10]. وردد ابن عربي ذلك في قوله ( ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع ، وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعاً أن ثم فارقاً به تميزات الأشخاص بعضها عن بعض ، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد ) [11]. إلا أن ابن عربي بلغ إلى منتهى الطريق فخلط بين العبد والرب في صراحة مطلقة لا يجدي معها تأويله أو تبريره يقول عن الإنسان ( وهو للحق " يقصد الله تعالى " بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبر عنه بالبصر فلهذا سمى إنساناً فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم ، فهو الإنسان للحادث الأولى والبشر الدائم الأبدي ) [12]  . فوصف الإنسان بصفات الله الأزلية والدائمية الأبدية . ويقول عن الاستدلال بوجود الله ( أحالنا تعالى في العلم به عن النظر في الحادث ، وذكر أنه أرانا آياته فيه ، فاستدللنا بنا علينا ، فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف ، إلا الوجوب الذاتي الخاص ) [13]. ويقصد بالوجوب الذاتي الخاص أن الله تعالى هو الأصل الذي تخرج منه الصور ثم ترجع إليه بعد العدم.. ثم اجترأ على الله تعالى فوصفه بصفات البشر ليتم نظريته في التشابه بين الله والخلق .

يقول [14]:     فأنت عبد وأنت رب            لمن له فيـه أنـت عبد

              وأنت رب وأنت عبد           لمن له في الخطاب عهد

ويقول [15]:   فيحـمدني وأحمـده            ويـعـبدني وأعـبـده

              ففي حـال أقـربه             وفي الأعيـان أجحده

              فيعرفنـي وأنـكره            وأعـرفـه فأشـهـده

3 ـ : ثم وصل ابن عربي إلى وحدة الوجود بين الله والكون المادي ، ولم يكتف بالإنسان فقط .. يقول عن الله تعالى ( فهو الشاهد من الشاهد ، والمشهود من المشهود ، فالعالم صورته ، وهو روح العالم المدبر له ، فهو الإنسان الكبير ، فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم ) [16]. أي أن الكون تابع للإنسان فإذا كان الإنسان إلهياً فالعالم كذلك..

فابن عربي يلخص وحدة الوجود بأن الله تعالى هو الذي ينظر من خلال كل عينين ( وهو الشاهد من الشاهد ) ، وهو المنظور إليه في كل  ما يرى من جماد وحيوان وإنسان ( والمشهود من المشهود ) ، وعلى ذلك ( فالعالم ) جميعه من جماد وحيوان هو ( صورته ) أي تجسيد مادي له ، فـ ( هو روح العالم المدبر له ) ، وعلى ذلك فلا فارق نوعياً بين الله والإنسان اللهم إلا في الوجوب الذاتي الخاص المتجدد ، والذي تصدر عنه أجساد البشر وهي في حقيقة أمرها مخلوقة من عناصر الكون وهو جزء من الله ، لذا فالفارق بين الله والبشر يتلخص في أن الله هو ( الإنسان الكبير ) ..

 ثم يصل ابن عربي إلى نهاية الطريق في وحدة الوجود فيخلط بين الله والكون ، ولا يرى مانعاً من إطلاق احدهما على الآخر في تحديد صفته ، فيقول ( إن شئت قلت هو ( أي الله ) الخلق ، وإن شئت قلت هو الحق ، وإن شئت قلت هو الحق والخلق ، وإن شئت قلت لاحق من كل وجه ولا خلق من كل وجه ، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك ) [17]   .

أي انعدمت الفوارق بين الخالق ( الحق) والبشر والعالم من ( الخلق) . ولك مطلق الحرية في أن تسمي أحدهما باسم الآخر أو يطلق عليها الاسمان معا ، أو تترك التسمية وتؤثر الحيرة .

وابن عربي يشرح عبارات الغزالي الفلسفية التي استتر خلفها ، وهو يومئ لعقيدة وحدة الوجود ، كقول الغزالى : ( إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله تعالى وأفعاله .. فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله ..) [18]. ولم يلجأ ابن عربي إلي مغالطات الغزالي في الخلط بين الله وصفاته وأفعاله وبين البشر الحادث ، بل أعلن بجرأة أن الله هو الشاهد والمشهود في نفس الوقت ، والعالم المادي هو صورة الله ..

وقول ابن عربي ( فالعالم صورته ) هو القول الموجز لما حاول الغزالي أن يدور حوله متذرعاَ بالفلسفة والمغالطة حين يقول مثلاً ( وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض )[19].

 ثالثاً : وقد قلنا أن الغزالي نظر في عقيدة ( وحدة الوجود ) إلى الإنسان في إطار ( عقيدة الاتحاد ) فاعتبر الصوفي هو الذي ينظر طبقاً لعقيدة وحدة الوجود إلى العالم ، فإذا ( شكر) يعرف قطعاً أنه ( الشاكر) وأنه المشكور ، وإذا ( أحب ) يعلم أنه المحب ، وأنه المحبوب ، لأن الصوفي المعتقد في وحدة الوجود يرى أن كل ما في الوجود سوى الله فهو تصنيف الله وصنعته وجزء منه .. [20]

وجاء ابن عربي فوسع الدائرة ونصب من نفسه متحدثاً باسم الإنسان الإلهي حيث اعتبره واسطة العقد بين الله والكون .. فروحه إلهية وجسده من ذرات الكون – ( تصنيف الله ) بتعبير الغزالي ( وتجسيده ) في صراحة ابن عربي – يقول ( وهو – الإنسان – للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي  به يكون النظر ، وهو المعبر عنه بالبصر ، فلهذا سمي إنساناً فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم ، فهو الإنسان الحادث الأزلي والبشر الدائم الأبدي ، والكلمة الفاصلة الجامعة ، فتم العالم بوجوده ، فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم ، وهو محل النقش والعلامة التي يختم بها الملك على خزائنه ، وسماه خليفة لأجل هذا ، لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ بالختم الخزائن ، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه ، فلا يزال ما في العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) [21]. فقد تطرق ابن عربي على عادته وأعلى من شأن الإنسان ورفعه فوق خالقه فجعل الله ينظر به أو ( هو للحق منزلة إنسان العين من العين ) ثم أرتفع بالإنسان فوق الكون ( فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم ) ، وفسر خلافة الإنسان في الأرض على أنه الإله الحافظ لها المتحكم فيها باسم الله .

وعلى نفس المنوال نظر ابن عربي إلى قضية سجود الملائكة لآدم .. وقد بينا كيف أن الغزالي عرض لها في شرحه لآية (  قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ، أما ابن عربي فقد سار إلى نهاية الشوط يحاول إثبات إلوهية آدم حتى بالنسبة للملائكة وتفضيله عليهم ، يقول ( .. فلا يزال ما في العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ، ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها ، وخرج ما كان فيها ، والتحق بعضه ببعض ، وانتقل الأمر إلى الآخرة .. فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود ، و به قامت الحجة لله تعالى على الملائكة .. فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية .. وليس للملائكة جمعية آدم ، ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تحضها وسبحت الحق بها وقدسته ، وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها ، فما سبحت الحق بها ولا قدسته فغلب عليها ما ذكرنا .. الخ ) [22].

فالغزالي يومئ بالقضايا ويدور حولها ، وابن عربي يشرح ما أهمله الغزالي ، وإن كان في شرحه غموض وجدل ومغالطة ، ولو أخلص الغزالي وابن عربي لاكتفيا بالقرآن ، فليس بعده من وضوح في شرحه لعقيدة الإسلام .. إلا أنهم  فرضوا عقائدهم على القرآن بتأويل  الآيات والأحاديث الضالة كحديث الولي ( كنت سمعه الذي يسمع به ورجله ..) وكحديث خلق آدم ( وأنه خلقه على صورته ) وغيره ..وكل ذلك ليجدوا سنداً إسلامياً لعقيدتهم، وكأنما ظل الإسلام ناقصاً فى عقيدته حتى يأتي أولئك الصوفية ليكملوه..

 



[1]
فصوص الحكم ص 8 : 11 شرح القاشاني المطبعة المنجنية .مصر.

[2] الفصوص : 252 .

[3] اللمع : 50 .

[4] إحياء حـ4/ 263 .

[5] إحياء جـ4/ 14 .

[6] إحياء جـ4/ 67 : 68 .

[7] إحياء جـ3/ 243 .

[8] إحياء جـ4/ 176 .

[9] إحياء جـ4/ 370 .

[10] إحياء جـ4/ 213 .

[11] الفصوص 19 .

[12] الفصوص 8 .

[13] الفصوص 19 .

[14] الفصوص 97 .

[15] الفصوص 78 .

[16] الفصوص 132 : 133 .

[17] الفصوص 134 .

[18] إحياء جـ2/ 247 : 248 .

[19] إحياء جـ4/ 276 .

[20] إحياء جـ4/ 74 .

[21] الفصوص 13 ، 14 .

[22] الفصوص 14 .

اجمالي القراءات 11678